إذا أحيا الروح القدس ضميرك أدركت شيئًا من شرّ الخطية و قوَّتها و جرمها و ويلاتها، فعافتها نفسك، لأنك شعرت بانها قد فصلتك عن الله و استعبدتك بسلطانها، و كلما حاولت أن تتحرر منها تأكدت عجزك و تثبت قصورك، و عرفت أن بواعثك دنسة و قلبك نجيس و حياتك مليئة من الأثرة، مفعمة بالخطية، فأصبحت الآن تتوق إلى الغفران و تشتاق إلى التطهير و العتق، فما عساك أن تفعل لكي تصير في وفاق مع الله و تتصف بصفاته؟ SC 37.1
إن مسيس حاجتك هو إلى السلام، سلام الله الناشئ عن غفران الخطية و انكساب المحبة في نفسك، و لا تقدر أن تشتري هذا السلام بالمال و لا تستطيع أن تناله بالعقل و لا أن تدركه بالحكمة، و مجهوداتك تخيب املك في الحصول عليه، و مع ذلك هو في طاقة يديك، لان الله قد وهبه لك مجانًا “بلا فضة و بلا ثمن”، اشعياء ٥٥ : ١، كما قال أيضًا “إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج و إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف” اشعياء ١ : ١٨، “و أعطيكم قلبًا جديدًا و اجعل روحي في داخلكم”، حزقيال ٣٦ : ٢٦ SC 38.1
و ها انت قد اعترفت بخطاياك، و تحوّلت عنها في قلبك، و عزمت أن تسلم نفسك لله، فاذهب إليه تعالى و اطلب إليه أن يغسلك من ذنوبك و يجعل فيك قلبًا جديدًا، ثم صدق أن الرب قد فعل هذا كله لأنه وعد به، فيكون لك، و قد علّم يسوع بهذه الحقيقة لما كان هنا على الأرض قائلاً. “كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم”، مرقس ١١ : ٢٤. شفى يسوع المرضى إذ آمنوا بقدرته فساعدهم فيما فيما كانوا ينظرون ليكسبهم الثقة به فيما لا ينظرون و الإيمان بقدرته على غفران الخطايا أيضًا، كما صار في حادثة شفاء المفلوج مثلاً، إذ قال للجمهور، لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا”، حينئذ قال للمفلوج “قم، احمل سريرك و اذهب إلى بيتك”، متى ٩ : ٦، و ايد البشير يوحنا هذه الحقيقة و هو يدوّن الآيات التي صنعها يسوع إذ قال “و أما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله و لكي تكون لكم إذ آمنتم حياة باسمه”، يوحنا ٢٠ : ٣١ SC 38.2
من القصص التي رواها البشراء، بكل بساطة عن كيف شفى يسوع المرضى يمكننا أن نتعلم شيئًا عن الإيمان به لغفران الخطية. فلنرجع إذن إلى المريض المضطجع عند بركة بيت حسدا. كان ذلك المسكين ضعيفًا جدًا و قد بلغ العجز منه حدًّا لم يستطع عنده أن يستعمل أوصاله لمدة ثمان و ثلاثين سنة، و مع ذلك أمره يسوع قائلاً : “قم، احمل سريرك و امش”، يوحنا ٥ : ٨، فلو احتج المريض قائلاً : اشفني يا سيد فأطع أمرك، لما نال الشفاء، و لكنه لم يحتج بل صدّق كلمة المسيح و آمن انه قد شفي و في الحال همّ بالقيام، فقام، و أراد أن يمشي، فمشى. أطاع كلمة المسيح فأعطاه الله القدرة و برئ البرء التام SC 38.3
كذلك خاطئ انت، و لا تستطيع أن تكفّر عن تعدّياتك السالفة، و لا تقدر أن تغير قلبك أو أن تقدس نفسك، و لكن قد وعدك الله بان يصنع هذا كله لأجلك في المسيح، و انت تؤمن بهذا و تعترف بخطاياك و تسلم ذاتك لله، و تريد أن تطيعه تعالى، فحالما تؤمن بالوعد و تصدّق أن خطاياك قد غفرت و قلبك تطهر، يحقق الله لك مواعيده، و يعطيك القوة كما أعطى المسيح مريض بيت حسدا القوة على المشي عندما آمن انه قد شفي، فالأمر يصبح واقعًا، و انت قد شفيت، إن كنت قد آمنت SC 39.1
فلا تنتظر حتى تشعر بانك قد شفيت، بل قل أنا أمنت، و قد صار الشفاء لا لأني شعرت به، بل لان الله قد وعد به SC 39.2
قال يسوع، “كل ما تطلبونه حينما تصلون، فآمنوا أن تنالوه، فيكون لكم”، مرقس ١١ : ٢٤، على أن الشرط الوحيد لإتمام هذا الوعد هو أن تكون الطلبة بحسب مشيئة الله، و الله يريد أن يطهرك من الخطية، و أن يتبناك أيضًا ابنًا له، و أن يقدرك على حياة القداسة، فاطلب كل هذه البركات مؤمنًا بان تنالها، بل اشكر الله انك قد نلتها. انه من حقك أن تسلم نفسك للمسيح ليطهرك، فتقف إذ ذاك أمام الشريعة التي تعديت مناهيها غير خجل و غير مدان، لان “لا شيء من الدينونة الان على الذين هم في يسوع المسيح السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح”، رومية ٨ : ١ SC 39.3
و من الآن فصاعدًا انت لست لذاتك، لأنك اشتريت بثمن “لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب... بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب و لا دنس، دم المسيح”، بطرس ١ : ١٨ و ١٩. بإيمانك بالله قد ولد الروح القدس حياة جديدة في قلبك، فصرت ابنًا لله، عضوًا في الأسرة السماوية، محبوبًا لدى ابنه يسوع SC 39.4
و إذ قد سلمت نفسك ليسوع، فلا ترتدّ عنه و لا تبتعد، بل قل في نفسك كل يوم، “إني للمسيح، و قد سلمته ذاتي”، و اطلب إليه أن يمنحك من روحه و يحفظك بنعمته، كما صرت ابنًا له، بتسليمه نفسك و إيمانك به، فلذلك تحيا به، حسب قول الرسول “كما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه”، كولوسي ٢ : ٦ SC 40.1
يشعر البعض بانهم، قبل أن يصير لهم الحق في طلب البركة، يجب أن يجتازوا امتحانًا يثبتوا فيه انهم قد اصلحوا حياتهم، بيد أن الحقيقة هي أن لهم الحق أن يطلبوا البركة الآن، بل هم، إن لم ينالوا نعمه” المسيح، و إن لم يأخذوا من روحه، لا يستطيعون أن يقاوموا الشر، زد على ذلك انه يجب أن نأتي إلى المسيح كما نحن ـ خاطئين عاجزين محتاجين، فلنأت بضعفاتنا و جهالاتنا و نجاستنا، و لنرتم عند قدميه في توبة خاضعين، لأنه من دواعي فخر المسيح و مجده، أن يحتضننا بذراعي محبته، و يضمد جروحنا و ينقى قلوبنا SC 40.2
إن الكثيرين لا ينالون الخلاص لأنهم لا يصدقون أن عفو المسيح يشملهم هم شخصيًا، و لا يثقون بان الله يقصدهم بالذات في مواعيده. بيد انه من حق كل فرد قد قام بالشروط أن يعرف و يتأكد أن جميع خطاياه قد غفرت مجانًا، فان كنت تشكّ في أن الله يعنيك بمواعيده، انزع عن نفسك هذا الشك و آمن بأن مواعيد الله إنما هي لكل مذنب تائب بالحق، بل و انه تعالى قد اعد في المسيح نعمًا و بركات يقدمها لكل مؤمن محتاج بواسطة الملائكة الطائعين أمره، و ليس من مذنب قد بلغت خطيته و اثميته حدًا لا يجد معه القوة و الطهارة و البرّ في المسيح الذي مات لأجله، فان الفادي لفي انتظار الخاطئ الأثيم لكي ينزع عنه الثياب القذرة و يلبسه ثيابًا مزخرفة، فقد أمر بحياته لا بموته SC 40.3
إن الله لا يعاملنا كما يعامل الناس بعضهم بعضًا، إذ أن أفكاره افكار رحمة و محبة و شفقة كما صرّح بذلك قائلاً : “ليترك الشرير طريقه و رجل الإثم أفكاره، و ليتب إلى الرب فيرحمه، و إلى الهنا لأنه يكثر الغفران”، و “قد محوت كغيم ذنوبك و كسحابة خطاياك”، اشعياء ٥٥ : ٧ و ٤٤ : ٢٢ SC 41.1
“لأني لا اسرّ بموت من يموت يقول الرب، فارجعوا و احيوا”، حزقيال ١٨ : ٣٢، و لكن الشيطان واقف لنا بالمرصاد ليسلب نفوسنا ثقتها بهذه التأكيدات المباركة، و يطفي فينا كل بارقة أمل و كل بصيص من الرجاء، و يحجز عنا كل شعاع من النور، فلا تسمح له أن يفوز بشيء مما يضمره لك، و لا تعطيه أذنًا صاغية، بل قل له “إن يسوع قد مات عني لكي أحيا أنا، فهو إذن يحبني و لا يشاء أن أموت، و لي أب رحيم في السماء، و لئن كنتُ قد أسأت إلى محبته و بذرت بإسراف بركاته”، “فاني أقوم و اذهب إلى أبي و أقول له يا أبي أخطأت إلى السماء و قدامك و لست مستحقًا أن ادعي لك ابنًا، اجعلني كأحد أجراك”، لوقا ١٥ : ١٨ و ١٩. و لا شك في أن الله الاب يقبل الابن الضال إذا رجع إليه، “و إذ لم يزل بعيدًا رآه أبوه، فتحنن و ركض و وقع على عنقه و قبّله” SC 41.2
إن مثل الابن الضال، و إن كان بالغًا في اللطف و الرقة، ليقصر عن وصف شفقة الله الأبوية التي لا تعرف حدًا، و قد قال على لسان ارميا، “محبة أبدية أحببتك”، ارميا ٣١ : ٤، و على لسان هوشع “كنت اجذبهم... بربط المحبة”، هوشع ١١ : ٤، فبينما الخاطئ لا يزال بعيدًا عن بيت الآب يبذر أمواله في بلاد بعيدة، ينقد قلب الاب شوقًا إليه، و كل ما يتولد في قلب الخاطئ من رغبة في الرجوع إلى بيت الآب إنما هو من مناجاة الروح فيه و توسلاته إليه ليرجع إلى قلب أبيه المحب SC 41.3
أبَعْدَ هذه المواعيد الغنية السخية التي جعلها الله بين ايدينا، تدع للشك مكانًا في نفسك؟ و هل تتصور أن الله يبدي صدودًا و جاء لخاطئ تتوق نفسه إلى أن يترك خطاياه و يرجع إليه نادمًا تائبًا. تبًا لكل فكرة كهذه، لأنه لا شيء اضرّ لنفسك من مثل هذه الأوهام، فان الآب السماوي، و إن كان يبغض الخطية، إلا انه يحب الخاطئ، و لذلك بذل نفسه في شخص المسيح لكي يخلص كل من أراد الخلاص، و يمنحه الطوبى في ملكوت المجد، و هل من لغة تعبّر عن عن محبته ارقّ و أقوى من قوله، “هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها، حتى هؤلاء ينسين، و أنا لا أنساك”، اشعياء ٤٩ : ١٥ SC 41.4
فانتصب يا من عراك الشك و الخوف، فان يسوع حيّ ليشفع فيك، و اشكر الله الذي بذل ابنه الحبيب لأجلك، و توسل إليه أن لا يكون موته عنك عبثًا، فان الروح يدعوك اليوم مناشدًا إياك أن تأتي بكل قلبك إلى يسوع، و تطلب إليه أن يمنحك هباته و بركاته SC 43.1
و إذ تقرأ المواعيد فاذكر أنها تعبر عن رحمة و شفقة لا توصفان، فان قلب تلك المحبة العجيبة ليحنو على الخاطئ و يحوطه بكل عوامل الرأفة و الحنان، و نحن “قد صار لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا”، افسس ١ : ٧، و لم يبقَ عليك إلا أن تؤمن بان الله هو عونك و قوتك، و هو يريد أن يستعيد صورته الأدبية في الإنسان، فكلما اقتربت منه بالاعتراف و التوبة، اقترب هو أيضًا منك بالرحمة و الغفران SC 43.2