يسمي الكتاب المقدس تغيير القلب ـ التغيير الذي به نصير أولاد الله ـ ولادةً، و يشبّهه أيضًا ببروض الزرع الجيد الذي بذره الفلاح في حقله، و يحضّ الذين تجددوا على أن “ينموا” “كأطفال مولودين الآن” إلى أن يبلغوا “قياس قامة ملء المسيح”، بطرس ٢ : ٢ و افسس ٤ : ١٥، و أن يثبتوا و يثمروا مثل الزرع لأنهم “أشجار البر غرس الله للتمجيد”، اشعياء ٦١ : ٣، فمن هذه الأمثلة المستمدة من الحياة الطبيعية نستطيع أن نقف على بعض أسرار الحياة الروحية SC 51.1
و ليس في مكنة الإنسان مهما احرز من الحكمة و المهارة أن ينشئ حياة في نبات أو حيوان، لان مصدر الحياة هو الله، و به وحده يحيا كل حي، و كذلك أيضًا في العالم الروحي، لا تتولد حياة روحية في قلب الإنسان إلا بفعل الله، و إن لم يولد الإنسان “من فوق” لا يستطيع أن يكون شريكًا في الحياة التي جاء يسوع ليهبها للعالم SC 51.2
و شأن الحياة هو شأن النمو بالذات، فالذي يجعل البرعم زهرًا و يحوّل الزهر أثمارًا هو الله الذي بقوته يجعل البذر “أولاً سنبلاً ثم قمحًا ملآن في السنبل”، مرقس ٤ : ٢٨، و قال هوشع النبي عن شعب الله انهم يزهرون كالسوسن “و يحيون حنطة و يزهرون كجفنة”، هوشع ١٤ : ٥ و ٧، و يأمرنا يسوع أن نتأمل “الزنابق كيف تنمو” لوقا ١٢ : ٢٧، فان النبات و الزهور لا تنمو باهتمامها، و لا تزهو بعنائها و كدّها، و لكنها تنمو إذ تتقبل من الله ما اعدّه لنموها، و الولد لا يستطيع بقوته و اجتهاده أن يزيد على قامته ذراعًا، و كذلك في الحياة الروحية، لا تستطيع انت أن تنمو باجتهادك و مجهودك، بل كما أن الولد و النبات ينميان كلاهما بأخذهما من المحيط ما يخدم حياتهما ـ كالهواء النقي و ضوء الشمس و الطعام ـ هكذا تنمو انت أيضًا بقبولك المسيح شمس البر، و النور الأبدي، فانه “لإسرائيل كالندى” و ينزل على الجزاز مثل الغيوث الذارفة على الأرض”، هوشع ١٤ : ٥ و مزمور ٧٢ : ٦، و هو أيضًا “الماء الحي” و “خبز الله النازل من السماء لكي يعطي حياة للعالم”، يوحنا ٦ : ٣٣ SC 52.1
فالله إذ أعطى ابنه يسوع المسيح قد أحاط العالم بجوّ من النعمة كما يحيط الهواء الكرة الأرضية، و كل من يختار أن يستنشق هواء هذا الجو المنعش يحيا و ينمو و يسمو إلى قياس قامة ملء المسيح SC 52.2
و كما تتجه الزهور نحو الشمس لتستمد من أشعتها ما يجمّلها و يكمل تنسيقها هكذا يجب أن نتجه صوب شمس البر يسوع المسيح الذي يضيء علينا بنوره من السماء فننمو في حياتنا الروحية حتى نصير مشابهين لصورته SC 52.3
و هذا عين ما علم به يسوع في قوله : “اثبتوا فيّ و أنا فيكم، كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته، إن لم يثبت في الكرمة، كذلك انتم إن لم تثبتو فيّ... الذي يثبت فيّ هذا يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا”، يوحنا ١٥ : ٤ و ٥، فحاجة الغصن إلى اصل الشجرة لكي تحيا حياة البر، إذ لا حياة لك إذا انفصلت عنه، و لا قوة لك على مقاومة التجارب و النمو في النعمة و القداسة، و لكن إذا ثبتّ فيه تكون مثل شجرة مغروسة على مجاري المياه، أوراقها لا تذبل و لا تكون عقيمة، بل تزهو و تثمر دائمًا SC 52.4
غير أن الكثيرين يتصورون أن عليهم وحدهم أن يقوموا بقسط وافر من عمل النمو فقد قبلوا من المسيح غفران الخطية مجانًا، و لذلك يحسبون أن حاجتهم إنما هي أن يعيشوا باستقامة و كمال، و أما كل محاولة كهذه فمصيرها إلى الإخفاق و الفشل، كما قال المسيح “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا”، فنموّنا في النعمة في النعمة يتوقف كله على اتحادنا بيسوع، و لا يتسنى لنا أن ننمو في النعمة إلا بمحادثتنا يسوع كل ساعة و الثبوت فيه كل دقيقة، فالمسيحية هي المسيح أولاً و آخرًا و دائمًا و أبدًا، إذ يجب أن يكون معنا في أول الطريق و في نهايتها، بل في كل خطوة منها، و إلا فنصيبنا الفشل، كما قال داود في ذلك “جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع”، مزمور ١٦ : ٨ SC 53.1
أتسأل، “كيف اثبت في المسيح؟” انك تثبت فيه بنفس الكيفية التي بها قبلته أولاً، و هاك ما كتبه الرسول بولس في هذا المعنى “كما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه”، كولوسي ٢ : ٦، “و أما البار فبالإيمان يحيا” عبرانيين ١٠ : ٣٨، فقد سلمت نفسك تسليمًا تامًا لخدمة الله و طاعته، و قبلت يسوع مخلصًا لك، و لم يكن في مقدورك أن تكفّر عن خطاياك و لا أن تغير قلبك، و لكنك حين سلمته تعالى نفسك آمنت بانه انعم عليك بهذا كله في المسيح، فبالإيمان إذن صرت للمسيح، و بالإيمان يتسنى لك أن تثبت فيه، انه لأخذ و عطاء، انت تعطيه الكل. قلبك و إرادتك و خدمتك، و تأخذ منه الكل، ملء البركات و حلول المسيح في قلبك ليكون لك قوةً و برًا و عونًا أبديًا، فيهبك القدرة على الطاعة الكاملة SC 53.2
فبكر إلى الله في الصباح، و سلم له نفسك جديدًا، و لتكن صلاتك إليه : “يا رب إني لك بجملتي، واضع كل تدبيراتي لهذا النهار في يديك لتستخدمني كيفما تشاء، كن معي، و لتكن أعمالي اليوم أعمالك”. إن هذا لفرض عليك كل يوم أن تخصص نفسك لله كل صباح لتكون له طول النهار، و سلمه كل تدبيراتك لتنفيذها أو لابطالها كما تشاء عنايته، و هكذا تكون مسلمًا حياتك لله ليصوغها و يصبها في قالب حياة يسوع فتصير مثله SC 53.3
الحياة في المسيح هي حياة الراحة، و قد تكون خالية من فرط الشعور بالفرح، و لكن يجب أن يملأها السلام الدائم و الثقة الثابتة إذ أن رجاءك ليس في ذاتك بل في المسيح الذي يبدل ضعفك بالقوة و يهبك عوض جهلك و عجزك الحكمة و البأس، تنظر إلى نفسك و لا تركز تفكيرك في ذاتك بل تطلع إلى المسيح، و تأمل محبته و تفكر في اتضاعه فتتغير تغييرًا مطردًا حتى تصير مشابهًا لصورته SC 54.1
قال المسيح “اثبتوا فيّ”، و معنى الثبوت الراحة و الطمأنينة و الاستقرار، ثم دعانا قائلاً : “تعالوا إليّ... أنا أريحكم”، متى ١١ : ٢٨ و ٢٩، و لقد بين لنا بواسطة اشعياء انه “بالرجوع و السكون تخلصون، بالهدوء و الطمأنينة تكون قوتكم” اشعياء ٣٠ : ١٥، على أن هذه الراحة لا تعني التواني و الكسل، لان المخلص في دعوته قرن الوعد بالدعوة إلى العمل إذ قال “احملوا نيري عليكم... فتجدوا راحة لنفوسكم”، متى ١١ : ٢٩، فبقدر ما يستريح الإنسان في المسيح يكون جدّه و نشاطه في للعمل لأجله SC 54.2
لكن إن كان اهتمامنا بأنفسنا فلا بدّ من أن نتحوّل عن مصدر حياتنا و قوتنا يسوع، فيبذل الشيطان إذ ذاك جهدًا جهيدًا مستمرًا ليصرف نظرنا عن المخلص فيمنع اتحادنا به و محادثتنا إياه، و يشغلنا بلذات العالم و هموم الحياة و ارتباكاتها و بغلطات الغير أو بغلطاتنا نحن، و هكذا يسعى إلى أن يلهينا عن المسيح، فلننتبه لئلا يخدعنا بمكائده، لأنه كثيرًا ما ينجح في تحويل ذوي الضمائر الحية و الرغبة الصادقة إلى التأمل في غلطاتهم و ضعفاتهم أملاً منه في فصلهم عن يسوع و إحراز الغلبة النهائية، فلا تهتم لنفسك و لا تستسلم للقلق و الخوف من جهة خلاصك، لان هذا كله من شأنه أن يحولك عن مصدر قوتك، بل سلم نفسك إلى الله و اتكل عليه، و ليكن حديثك عن يسوع و تفكيرك فيه إلى أن يغمرك و تنسى نفسك، اطرح عنك كل شك و أبعد عنك كل خوف و قل مع الرسول “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ، فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه بالإيمان، إيمان ابن الله الذي احبني و اسلم نفسه لأجلي”، غلاطية ٢ : ٢٠، توكل على الله فانه قادر على أن يحفظك و وديعتك، و إن فوَّضت أمرك إليه يعظم انتصارك بالذي احبك SC 54.3
لقد ربط المسيح البشرية بنفسه، باتخاذه الصورة الإنسانية، برباط حبي لا تنفصم عراه أبدًا، اللهم إلا باختيار الإنسان نفسه، لذلك تجد الشيطان دؤوبًا على إغراءنا بشتى المغريات لعله يحملنا على قطع هذه الرابطة باختيارنا و الانفصال عن المسيح برغبتنا، فمن ثم يجب أن نسهر و نجاهد و نصلي لكيلا يستغوينا غاو على أن نختار سيدًا آخر ـ فلنا دائمًا ملء الحرية أن نختار لأنفسنا ما يحلو لنا ـ على أن المسيح ليحفظنا إن نحن ثبتنا النظر فيه، فما دمنا نلتفت إليه نحن آمنون، لا يستطيع احد أن يخطفنا من يده، و بالنظر إليه “نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح”، ٢ كورنثوس ٣ : ١٨ SC 55.1
اجل، بهذه الوسيلة استطاع التلاميذ الأولون أن يتشبهوا بمخلصهم العزيز فهم إذ سمعوا كلماته شعروا بحاجتهم إليه فطلبوه فوجدوه فتبعوه، فرافقوه حين جلوسه إلى المائدة، و لازموه في المخدع و صحبوه إلى الحقول، و كانوا معه كالتلميذ مع المعلم يتلقن منه دروسًا في قداسة الحق، و كعبد يتلقى أوامر سيده، و مع ذلك كانوا أناسًا تحت الآلام مثلنا، يعقوب ٥ : ١٧، يحاربون الخطية كما نحاربها نحن، و يحتاجون إلى نعمة ربهم لكي يحيوا حياة مقدسة SC 55.2
فيوحنا الحبيب، ذلك التلميذ المحبوب، بانت عليه صورة المخلص اكمل بيان، غير أن سجاياه السامية لم تكن فطرية فيه، فقد كان مدَّعيًا العظمة، طموحًا إلى الكرامة، متهورًا شديد الامتعاض إذا أصابه أذى، و لكنه إذ تجلت له صفات ذلك الإنسان الإلهي، أدرك عجزه، فقاده الإدراك إلى الاتضاع، و إن ما رآه يوحنا في حياة ابن الله اليومية من القوة و الصبر، من القدرة و الرقة، من الجلالة و الوداعة، ملأ نفسه بالإعجاب و المحبة، فارتكزت عواطفه في المسيح، و تقوَّت يومًا فيومًا إلى أن نسي نفسه و استغرق في حب سيده العظيم، فسلم طبيعته الحادة إليه ليصبها في قالبه، و ليخلق فيه بالروح القدس قلبًا جديدًا، و ليغير بمحبته صفاته تغييرًا كاملاً شاملاً، إن هذه النتائج تلازم أكيدًا كل اتحاد بالمسيح، فمتى حل المسيح في القلب تتغير الطبيعة من اصلها، لان روح المسيح يلين القلب و محبته تخضع النفس، فتسمو الأفكار إلى السماء و تعلو الرغائب إلى الله SC 55.3
صعد المسيح إلى السماء و لكنَّ تابعيه ما فتئوا يشعرون بحضوره معهم حضورًا شخصيًا يشملهم بمحبته و يرشدهم بنوره، فبعد أن ذهب عنهم مخلصهم الذي سار معهم و تحدث اليهم و صلى لأجلهم واحيا فيهم الرجاء و عزى قلوبهم، نعم، بعد أن ذهب عنهم و على شفتيه رسالة السلام، رجع اليهم من سحابة الملائكة صدى وعده، “ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر”، متى ٢٨ : ٢٠. ذهب يسوع إلى السماء و هو بالزيّ الإنساني، و تيقن التلاميذ انه أمام عرش الله صديقهم و مخلصهم، فلم يطرأ على عواطفه تغيير بل لم يزل واحدًا من البشرية المتألمة يقدم أمام الآب استحقاق دمه و جروحات يديه و رجليه مظهرًا انه قد وفى حق فدائهم بالتمام، و عرفوا انه إنما عاد إلى السماء ليعد لهم منازل، فيأتي أيضًا و يأخذهم ليكونوا معه إلى الأبد SC 56.1
حين اجتمعوا معًا بعد صعوده كان شوقهم عظيمًا إلى الصلاة باسمه، و كانوا يجثون بكل خشوع و يرددون ذلك الوعد القائل “إن كل ما طلبتهم من الآب باسمي يعطيكم، إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي، اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً”، يوحنا ١٦ : ٢٣ و ٢٤، و ما انفكوا يرفعون يد الإيمان مرددين هذه الحجة القوية بقولهم أن المسيح “الذي مات بل بالحري قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضًا يشفع فينا” رومية ٨ : ٣٤، حتى حلّ يوم الخمسين، فوافاهم المعزّي الذي وعدهم به المخلص في قوله “انه خير لكم أن انطلق، لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزّي و لكن إن ذهبت أرسله إليكم”، يوحنا ١٦ : ٧، و منذ ذلك الحين اصبح المسيح يحلّ في قلوب المؤمنين حلولاً دائمًا، بل اصبح اقرب منهم و أوثق صلة بهم مما كان في أيام جسده و صارت محبته و نعمته و قوته اكثر تجليًا في حياة أولاده، حتى إن كل من رآهم تعجب و تأكد انهم كانوا من اتباع يسوع، اعمال ٤ : ١٣ SC 56.2
م كانه المسيح لتلاميذه الأولين، هذا يريد أن يكونه للمؤمنين به في هذه الأيام كما يتضح ذلك من صلاته التي صلاها قائلاً، “و لست اسأل من اجل هؤلاء فقط بل أيضًا من اجل الذين يؤمنون بي بكلامهم” يوحنا ١٧ : ٢٠ SC 57.1
و قد صلى لأجلنا و ابتهل إلى الله لكي نكون واحدًا، كما انه هو و الآب واحد، فقد قال المخلص عن نفسه، “لا يقدر الابن أن يفعل من نفسه شيئًا” يوحنا ٥ : ٩، “الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال”، يوحنا ١٤ : ١٠، فإذا كان المسيح حالاّ في قلوبنا لا بدّ من أن يعمل فينا لكي نريد و أن نعمل لأجل المسرّة، فيلبي ٢ : ١٣، فنعمل كما عمل هو و يتجلى فينا الروح الذي تجلى فيه، و هكذا إذ نحبه و نثبت فيه “ننمو في كل شيء إلى ذلك الذي هو الرأس المسيح”، افسس ٤ : ١٥ SC 57.2
قابلاً حمل صليبي أتبع الفادي الأمين
راضيًا إنكار نفسي و ارتدا العار المهين
فهو لي أسنى نصيب و هو مولاي الحبيب
إن جفاني الناس طرّا فهو لي أسنى نصيب
فلذا أحيا هنا في الـ أرض كالضيف الغريب
راجيًا بعد ارتحالي أن أرى وجه الحبيب
فسلامٌ و خلودٌ عند ذيّاك الودود و سرورٌ ابديٌ فسلامٌ وخلود SC 57.3