لقد خصّ الله الإنسان، حين خلقه، بقوى سامية و عقلية متزنة، فكانت حياته حياة الكمال و التوافق مع الله، و كانت أفكاره طاهرة، و أغراضه مقدسة، و لكنه ما لبث أن عصى ربه و خالف أمره، فحلت فيه الأثرة و الأنانية محل الإيثار و التضحية و بات ضعيفًا عاجزًا لا يقوى على مقاومة سلطان الخطية و تأثيرها بجهوده الذاتية و قوته الشخصية، لأن الشيطان قد استأسره، و لولا أن الله تعالى لطف بالإنسان و تدخل في أمره، لأبقاه الشيطان ابد الدهر في قبضته و اسره، فقد كان قصد المجرّب أن يعطل تدبيرات الله، و يحول دون تحقيق مقاصده السامية بشأن الإنسان فيملأ الأرض علقمًا و صابًا، و يجعلها بلقعًا و خرابًا، حتى إذا تم له ما أراد، نسب كل هذا البلاء المرير و الشر المستطير إلى الله تعالى، لأنه خلق الإنسان و خصّه بمثل هذا الكيان و الوجدان SC 8.1
فالإنسان في براءته كان يتصل اتصالاً بهجًا “بالمذخر فيه جميع كنوز الحكمة و العلم” كولوسي ٢ : ٣. أما و قد اخطأ فلم يعد يرى في الطهارة لذة و سرورًا أو في محادثة ربه فرحًا و حبورًا، بل حاول أن يتوارى و يختبئ من حضرة الله، و هذه حالة كل إنسان لم يتجدد بعد إذ انه لا يكون في حالة وئام مع الله، و لا يشعر بفرح في الاتصال به و التحدث إليه. فالخاطئ لا يمكنه أن يكون سعيدًا و هو في حضرة الله كما انه ينفر من معاشرة الملأ الأعلى، فلو أتيح له أن يدخل السماء، لما بعث ذلك فرحًا في نفسه، لأن نفسه لا تطرب لروح الإيثار الذي يسود سكان السماء، و قلبه لا يتجاوب مع قلب المحبة العظمى، فضلاً عن أن اهتمامه، و أفكاره، و دوافعه، تبدو غريبة و مناقضة لبواعث أولئك البررة الاطهار. فهو إذن يكون كنغمة ناشزة في لحن السماء، بل تكون السماء له مكان الم و تعذيب حتى ليود أن يختبئ من ذاك الذي هو مصدر نورها و مبعث بهجتها و حبورها، فليس حرمان الأشرار من دخول السماء أمرًا مقضيًا به من الله، بل عدم صلاحيتهم لها هو الذي يحول دون دخولهم إليها، إذ أن مجد الله يكون لهم نارًا آكلة، حتى انهم ليلتمسون الهلاك التماسًا تواريًا من وجه ذاك الذي مات لكي يفتديهم SC 8.2
انه ليستحيل علينا أن ننقد انفسنا من هوة الخطية التي تردينا فيها، فقلوبنا شريرة و ليس في استطاعتنا أن نغير ما بها، كما يصف ذلك أيوب في قوله : “من يخرج الطاهر من النجس لا احد”. أيوب ١٤ : ٤، و كقول الرسول بولس : “لان اهتمام الجسد هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع” رومية ٨ : ٧. أما وسائل التربية و التعليم، و التهذيب و التثقيف، و تدريب الإرادة، و ما إلى ذلك من الجهود البشرية التي تبذل في سبيل ترقية الإنسان، فهذه كلها لها قيمتها و مكانتها في نواح أخرى من الحياة، لكنها في هذا الموضوع بالذات عديمة الجدوى. فهي قد تكون ذات تأثير في تحسين سلوك الإنسان و صقله من الخارج، و لكنها لن تقوى على تغيير قلبه و تطهير بواعثه و أفكاره، لان الانتقال من الحياة الخطية و الرذيلة، إلى حياة القداسة و الفضيلة، يستلزم حتمًا قوة تعمل على تغيير الإنسان من الداخل، و يقتضي حياة جديدة يؤتاها الإنسان من فوق، و هذه القوة هي المسيح، فان نعمته وحدها هي التي تحيي النفس المائتة، و تجتذبها نحو الله، و تستميلها إلى حياة القداسة و الكمال SC 9.1
و قد قال المخلص أن كان احد لا يولد من فوق، أي انه ما لم يحصل الإنسان الخاطئ على تجديد في قلبه و أفكاره، و رغائبه و بواعثه، فانه لا يقدر أن يرى ملكوت الله. يوحنا ٣ : ٣. فالفكرة في أن الحاجة الوحيدة إنما هي إلى تنمية التقوى الفطرية و الصلاح الطبيعي الكامنين في نفوسنا، إن هي إلا خدعة مميتة، لان الإنسان الطبيعي أي غير المتجدد “لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة و لا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحيًا” ١ كورنثوس ٢ : ١٤. “فلا تتعجب إن قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق” يوحنا ٣ : ٧. هذا من جهة، و من جهة أخرى، فان المسيح وحده هو المكتوب عنه “فيه كانت الحياة و الحياة كانت نور الناس” يوحنا ١ : ٤، و أيضًا “ليس اسم آخر تحت السماء قد اعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص” اعمال ٤ : ١٢ SC 10.1
فلا يكفي أن نشعر برحمة الله، و ندرك ما تنطوي عليه صفاته من الشفقة و الحنو الأبوي، و لا يكفي أن ندرك حكمة الناموس و عدالته، و ندرك انه قائم على مبدإ المحبة الأبدي. فبولس كان مدركًا لهذه كلها حين قال “فاني أصادق الناموس له حسن” رومية ٧ : ١٦، و انه “مقدس و الوصية مقدسة و عادلة و صالحة” رومية ٧ : ١٢، و لكنه مضى يقول أيضًا و هو في مرارة الألم و اليأس “أما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية” رومية ٧ : ١٤، إذ انه كان يتوق إلى البر و الطهارة، و لكنه كان عاجزًا في نفسه عن بلوغها، مما جعله يصرخ قائلاً :“و يحي أنا الإنسان الشقي. من ينقذني من جسد هذا الموت” رومية ٧ : ٢٤. و لقد ردد مثل هذه الصرخة، في كل الأعصار و الأمصار كثيرون من ذوي القلوب المثقلة بالخطية، و لم يكن لهم من جواب سوى قوله تعالى “هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” يوحنا ١ : ٢٩ SC 10.2
كثيرة هي الصور و الرموز التي بها التمس روح الله تمثيل هذه الحقيقة لتكون واضحة جلية لكل من يتوق إلى التحرر من عبء الخطية. و من تلك الصور ما اعلنه الله ليعقوب حين هرب على اثر مخادعته لإسحاق أبيه، فقد كان يعقوب ينوء بذنبه و يرزح تحت ثقل إثمه، حتى أن تخوّفه من خطيته طغى على كل ما كان يشعر به من الفراق و البعاد، و الحرمان و الانفراد. و كان جلّ ما يخشاه تؤدي خطيته إلى فصله عن الله، و إقصاءه عن السماء. و بينما هو على هذه الحالة من الحزن و الكآبة استلقى على الأرض، مفترشًا الغبراء، و ملتحفًا بالعراء، و لم يكن حوله سوى تلال موحشة جرداء. و لما نام طرق عينيه نور غريب، فإذا منظر سلم متسع، بدا له من السهل الذي كان مضطجعًا فيه، و كان السلم متجهًا إلى فوق، و مؤديًا إلى باب السماء، و على درجاته يصعد ملائكة الله و ينزلون، و من المجد الاسنى، سمع الصوت الإلهي يردد رسالة العزاء و الرجاء، و يعلن ليعقوب ما كان يصبو إليه قلبه، أي انه تعالى يكون له حافظًا و مخلصًا، ففي غمرة الفرح و الشكر تجلّى له الطريق الذي به يستطيع، كخاطئ، أن يسترد اتصاله بالله، إذ أن السلم التي ظهرت له في الحلم، إنما هي تمثل المسيح، الوسيط الوحيد، بين الله و الإنسان SC 10.3
و إلى هذا الرمز عينه أشار المسيح في حديثه مع نثنائيل إذ قال “الحق الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة، و ملائكة الله يصعدون و ينزلون على ابن الإنسان” يوحنا ١ : ٥١. فان الإنسان إذ عصى الله و ارتد عنه، قد أقصى نفسه عن حضرة الله، فانفصلت بذلك الأرض عن السماء، و صارت بينهما هوة لم يستطع احد عبورها، و لكن بواسطة المسيح، و بفضل استحقاقاته، أزيلت الهوة التي أحدثتها الخطية، و أعيدت سلم الاتصال بين الأرض و السماء، فتسنى للملائكة بذلك أن يتخاطبوا مع البشر و يكونوا في خدمتهم فبالمسيح إذن و به وحده يمكن للإنسان الضعيف العاجز أن يجدد اتصاله بمصدر القوة التي لا تحدّ SC 11.1
من العبث أن يحلم الناس بإحراز شيء من التقدم و النجاح، و من الباطل أن يسعوا لرفع شأن الإنسانية، ما داموا مصرّين على تجاهل ذلك المصدر الأعلى، الذي يجب أن تستمد منه البشرية الصريعة كل معونة و رجاء، لان “كل عطية صالحة و كل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير و لا ظل دوران” يعقوب ١ : ١٧. و من العبث أيضًا أن يحاول الإنسان التحلي بمكارم الأخلاق و هو بعيد عن المسيح، لأنه ليس من سبيل للوصول إلى الله إلا بواسطة ذاك الذي قال عن نفسه “أنا هو الطريق و الحق و الحياة. ليس احد يأتي إلى الاب إلا بي” يوحنا ١٤ : ٦ SC 11.2
فقلب الله تعالى توّاق إلى أولاده على الأرض لأنه يكنّ لهم حبًا أقوى من الموت، و كفانا آية على هذا الحب العجيب، أن الله قد جمع كل بركات السماء و مزاياها في عطية واحدة إلا و هي عطية الابن الوحيد، تلك العطية التي لا يعبر عنها، فما حياته و موته و شفاعته، و ما خدمة الملائكة، و شفاعة الروح و ما الاب العامل فوق الكل، و ما المخلوقات الروحية و هي في شغل شاغل، ما هذه إلا قوى معبّأة، و وسائل مهيَّأة لخلاص الإنسان خلاصا أبديًا SC 13.1
فلنتأمل في التضحية المدهشة التي بذلت في سبيل خلاصنا، و لنقدر كل ما جادت به السماء، من جهد و عناء، في سبيل إنقاذ الهالكين و استرجاع الضالين إلى حظيرة الاب السماوي، فانه ما من شيء يخلق فينا بواعث قوية، و حوافز شديدة، مثل التأمّل في تضحية المسيح، و هلاّ يحفزنا لخدمة سيدنا و مخلصنا ما اعده من اجر و ثواب لمن يفعلون الصلاح، و هلاّ تستهوينا تلك الأفراح السماوية؟ أو لا نطلب حياة الرفعة و التسامي، و نرغب في ازدياد قوانا و مواهبنا، و اتساع معارفنا و مداركنا؟ أو ليست هذه كلها مما يستحثنا على أن نقدم لخالقنا و فادينا خدمة المحبة القلبية؟ SC 13.2
و من جهة أخرى فان كلمة الله تحذنا من خدمة الشيطان و تعلن لنا دينونة الخطية، و قصاصها المحتوم، و ما يحل بمرتكبيها من الانحطاط الأدبي و التدهور الخلقي و ما يلقونه في النهاية من الهلاك الأبدي SC 13.3
أ فلا نقدر رحمة الله؟ و أي شيء كان ممكنًا أن يعمله اكثر مما عمل فلنسع إذن إلى تصحيح موقفنا بالنسبة للذي احبنا حبًا فائقًا عجيبًا، و لننتفع بالوسائط المقدمة لنا، حتى نتغير إلى شبهه، و نعاد إلى عشرة الملائكة العاملين و نصير في وئام و شركة مع الاب و الابن و الروح القدس SC 13.4
إليك حاجتي في كل حين
و فيك قوّتي ربي الأمين
القرار كلُ حاجاتي اليكا كلُّ إعوازي لديكا
كلّ تكلاني عليكا ربي يسوع
إليك حاجاتي في كلّ حال
و انت منيتي ربّ الجلال
إليك حاجاتي في التجربه
و منك نصرتي و الغلبه
إليك حاجاتي وقت الصلاه فاسمع لطلبتي رب الحياه SC 14.1