استأنف بنو إسرائيل رحيلهم من بحر سوف ( البحر الأحمر( تحت قيادة عمود السحاب ، وكان المنظرالمحيط بهم موحشا جدا إذ لم يكن سوى جبال جرداء وسهول قاحلة ، وكان البحر ممتدا بعيدا عنهم وقد تبعثرت على شواطئه جثث أعدائهم ، غير أنهم ، مع ذلك ، كانوا ممتلئين فرحا لإحساسهم بالحرية ، وانقطعت تذمراتهم . AA 250.1
إلا أنهم ساروا مسيرة ثلاثة أيام دون أن يجدوا ماء ، فلقد نفد كل الماء الذي حملوه معهم ، ولم يكن هنالك ما يطفئون به ظمأهم المحرق وهم يسحبون أرجلهم سحبا على تلك السهول المتلهبة بوهج الشمس . أما موسى الذي كان خبيرا بذلك الإقليم فقد عرف ما لم يكن يعرفه الباقون أن في مارة التي كانت أقرب مكان يمكن الحصول على ماء فيه كان ماء الآبار غير صالح للشرب . وبقلق شديد راقب موسى قيادة السحابة له ، وبقلب حزين سمع الشعب يهتفون قائلين : لقد وجدنا ماء ، ها هو الماء . وتزاحم الرجال والنساء والأطفال حول تلك البئر ، وإذا بصرخة حزن وألم وخيبة أمل تصدر من صدورهم ، فلقد كان الماء مرا ! AA 250.2
ففي رعبهم ويأسهم عادوا باللائمة على موسى لأنه قادهم في تلك الطريق ، ونسوا أن حضور الله في السحابة العجيبة هو الذي كان يقوده ويقودهم . أما موسى ففي حزنه على الضيق الذي حل بهم فعل ما نسوا هم أن يفعلوه إذ صرخ اإلى الله بحرارة في طلب العون ، ( فأراه الرب شجرة فطرحها في الماء فصار الماء عذبا ) (خروج 15 : 25) . وفي هذا المكان جاء الوعد لإسرائيل عن طريق موسى يقول : ( إن كنت تسمع لصوت الرب إلهك ، وتصنع الحق في عينيه ، وتصغى إلى وصاياه وتحفظ جميع فرائضه ، فمرضا ما مما وضعته على المصريين لا أضع عليك . فإني أنا الرب شافيك ) (خروج 15 : 26) . AA 250.3
ومن مارة ارتحل الشعب إلى إيليم حيث كان ( اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة ) وقد بقوا في هذا المكان بضعة أيام قبل دخولهم إلى برية سين . فلما كان قد مضى عليهم شهر منذ خروجهم من مصر حلوا بخيامهم في البرية ، وبدأ الزاد الذي كان معهم ينفد ، والأعشاب التي كانت في البرية كانت قليلة ، وبدأت القطعان التي معهم يتناقص عددها ، فكيف يمكن تدبر طعام لشعب غفير عدده ؟ وإذ ملأ الشك قلوبهم جعلوا يتذمرون ، وحتى رؤساء الشعب وشيوخه اشتركوا مع الباقين في التذمر على القائدين اللذين عينهما الله قائلين : ( ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر ، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع . فانكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع ) (خروج 16 : 3) . AA 251.1
لم يكونوا قد قاسوا آلام الجوع بعد ، وكانت أعوازهم مدبرة ، ولكنهم كانوا جزعين من المستقبل . لم يستطيعوا أن يدركوا كيف ستعيش تلك الجموع في رحلاتهم في البرية ، وفي تصورهم رأوا أولادهم يموتون جوعا . وقد سمح الرب أن تواجههم الصعوبات ، وأن ينقص عنهم مدد الطعام ، حتى تتجه قلوبهم إليه هو الذي خلصهم إلى الآن . فإذ كانوا في حاجتهم يدعونه ويصرخون إليه فلا بد أن يقدم لهم براهين على محبته ورعايته ، لقد وعدهم أنهم إن أطاعوا وصاياه فلن يحل بهم أي مرض ، ولذلك كان عدم إيمانهم الذميم هو الذي جعلهم يتوقعون الموت جوعا لهم ولأولادهم . AA 251.2
لقد وعدهم الله بأن يكون إلها لهم وأن يتخذهم لنفسه شعبا ، ويأتي بهم إلى أرض جيدة وواسعة ، ولكنهم كانوا موشكين أن يخوروا لدى كل صعوبة تقابلهم في طريقهم إلى تلك الأرض . لقد أخرجهم من عبوديتهم في مصر بكيفية عجيبة لكي يجعلهم كرماء مرفوعي الرؤوس ويجعلهم تسبيحة في الأرض ، ولكن كان من اللازم لهم أن يلاقوا بعض المتاعب ويذوقوا آلام الحرمان . لقد بدأ الرب يخرجهم من حال الانحطاط ويؤهلهم ليتبوأوا مكانة رفيعة وكريمة بين الأمم ، ويستأمنوا على ودائع هامة ومقدسة . فلو كان لهم إيمان به بعد كل العظائم التي صنعها معهم لاستطاعوا أن يحتملوا ، بفرح ، كل المشقات والحرمان ، وحتى الآلام الحقيقية . ولكنهم أبوا أن يثقوا بالرب إلا إذا كانوا يرون أدلة مستمرة على قدرته . لقد نسوا عبوديتهم المريرة في مصر ، كما نسوا صلاح الله وقدرته اللذين أظهرهما في إنقاذهم من العبودية ، ونسوا أيضا كيف حفظ أبكارهم في حين قتل الملاك المهلك كل أبكار مصر ، كما نسوا قدرة الله العظيمة السامية التي أظهرها عند بحر سوف . نسوا أنه حين عبورهم في البحر على اليابسة في الطريق الذي شقه لهم الرب في أعماق اليم غرقت في مياه البحر كل جيوش أعدائهم التي حاولت اللحاق بهم . لكنهم لم يروا ويحسوا إلا متاعبهم وتجاربهم الحاضرة ، وبدلا من أن يقولوا : إن الله قد صنع معنا عظائم إذ بعد ما كنا عبيدا ها هو يصنع منا أمة عظيمة ، فقد جعلوا يتذمرون من خشونة الطريق ويتساءلون متى تنتهي أيام اغترابهم المضني . AA 251.3
إن تاريخ حياة إسرائيل في البرية قد سجل لأجل فائدة إسرائيل الله إلى انقضاء الدهر ، إن تاريخ معاملات الله لأولئك السائرين في القفر في كل رحلاتهم هنا وهناك ، وفي تعرضهم للجوع والعطش والإعياء وفي إظهار قدرته المدهشة لإنعشاهم وإسعافهم ، ذلك التاريخ مشحون بالإنذار والتعليم لشعبه في كل جيل . إن اختبارات العبرانيين المتباينة كانت مدرسة لإعدادهم لوطنهم الموعود به في كنعان . يريد الله أن يراجع شعبه في هذه الأيام ، بقلب متواضع وبروح قابلة للتعلم ، التجارب التي جاز فيها إسرائيل قديما لكي يتعلموا ما يؤهلهم لكنعان السماوية . AA 252.1
كثيرون ينظرون إلى الماضي ، إلى إسرائيل قديما ، ويستغربون عدم إيمانهم وتذمرهم ويحسون أنهم هم أنفسهم ما كانوا ليظهروا الجحود كما فعل أولئك ، ولكن لو امتحن إيمانهم ولو بامتحانات قليلة لما أظهروا ايمانا أو صبرا أكثر مما فعل إسرائيل قديما ، فحينما يجوزون في مسالك عسرة يتذمرون على الطريقة التي يستخدمها الله لتطهيرهم . إن الكثيرين ، مع أن جاجاتهم الحاضرة مكفولة ، يرفضون الوثوق بالله بالنسبة إلى المستقبل ، وهم دائمو القل والجزع لئلا يلحقهم العوز والفقر ويتألم أولادهم من الجوع . والبعض دائمو التوجس خيفة أن يباغتهم الشر ، أو أنهم يعظمون المتاعب الموجودة فعلا ويجسمونها بحيث تعمى عيونهم عن رؤية كثير من البركات التي تتطلب شكرهم . والعقبات التي يلاقونها بدلا من أن تسوقهم إلى طلب العون من الله ، مصدر القوة الوحيد ، تفصلهم عنه ، لأنها توقظ في نفوسهم الضجر والتذمر . AA 252.2
أيجمل بنا أن نكون عديمي الإيمان إلى هذا الحد ؟ لماذا الجحود وعدم الثقة ؟ إن يسوع هو صديقنا ، والسماء كلها مهتمة بخيرنا . إن جزعنا وخوفنا يحزنان روح الله القدوس . ينبغي ألا نستسلم للقلق الذي يقض مضاجعنا ويضنينا ، ولا يساعدنا على تحمل الضيقات . يجب ألا نعطي مكانا لعدم الثقة بالله ، الأمر الذي يجعل اهتمامنا بالتأهب لسد الحاجة في مستقبل أيامنا عملنا الأوحد في الحياة ، كما لو كانت سعادتنا منحصرة في هذه الأشياء الأرضية . إن الله لا يريد أن ينحني شعبه تحت أثقال الهموم ، ولكن السيد لا يقول لنا إنه لا مخاطر في الطريق ، وهو لا يفكر في أن يأخذ شبعه من عالم الخطية والشر ، ولكنه يرشدنا إلى حصن أمين . فهو يدعوا المتعبين والمثقلين بالهموم قائلا : ( تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال ، وأنا اريحكم ( (متى 11 :28) اطرحوا عنكم نير القلق وهموم العالم الذي أثقلتم به أعناقكم ومن ثم ( احملوا نيري عليكم وتعلموا مني ، لأني وديع ومتواضع القلب ، فتجدوا راحة لنفوسكم ) (متى 11 : 29) يمكننا أن نجد راحة وسلاما في الله إذا ألقينا كل همنا عليه لأنه هو يعتني بنا (1 بطرس 5 : 7) . AA 252.3
يقول الرسول بولس : ( انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي ) (عبرانيين 3 : 12) . وبالنظر إلى كل ما قد صنعه الله لأجلنا ينبغي أن يكون إيماننا قويا ونشيطا وثابتا . وبدلا من التذمر ينبغي أن تكون لغة قلوبنا هي هذه : ( باركي يا نفسي الرب ، وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس . باركي يا نفسي الرب ، ولا تنسى كل حسناته ) (مزمور 103 : 1 ، 2) . AA 253.1
إن الله لم يكن عديم الاكتراث لحاجات إسرائيل ، فلقد قال لقائدهم : ( ها أنا أمطر لكم خبزا من السماء ) ثم أعطاهم تعليمات بأن الشعب يجب أن يجمعوا حاجة اليوم بيومه ، أما في اليوم السادس فيجمعون ضعف الكمية حتى يحافظوا على قدسية يوم السبت . AA 253.2
أكد موسى للجماعة أن حاجاتهم ستسد قائلا لهم : ( إن الرب يعطيكم في المساء لحما لتأكلوا ، وفي الصباح خبزا لتشبعوا ) . ثم أضاف قائلا : ( وأما نحن فماذا ؟ ليس علينا تذمركم بل على الرب ) وبعد ذلك أمر هارون أن يقول لهم ( اقتربوا إلى أمام الرب لأنه قد سمع تذمركم ) فحدث إذ كان هارون يكلمهم : ( أنهم التفتوا نحو البرية ، وإذا مجد الرب قد ظهر في السحاب ) (خروج 16 : 8 - 10) . إن مجدا وبهاء عظيمين لم يسبق لهم أن رأوهما مثلا لهم رمز الحضور الإلهي . وعن طريق إعلانات موجهة إلى حواسهم كان عليهم أن يحصلوا على معرفة الله . ووجب أن يتعلموا أن الله العلي ، وليس فقط الإنسان موسى ، هو قائدهم ، وعليهم أن يخشوا اسمه ويطيعوا صوته . AA 253.3
وعند إقبال الليل كانت المحلة محاطة بأسراب من السلوى تكفي حاجة كل جماعة إسرائيل ، وفي الصباح كان على الأرض ( شيء دقيق مثل قشور . دقيق كالجليد ) ( وهو كبزر الكزبرة ، لأبيض ) . ودعاه الشعب منا ( فقال لهم موسى : هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا ) (خروج 16 : 14 ، 15 ، 31) وفيما كان الشعب يجمعون المن وجدوا أن هنالك كميات كبيرة منه تكفي للجميع . كانوا ( يطحنونه بالرحى أو يدقونه في الهاون ويطبخونه في القدر ويعملونه ملات) (عدد 11 : 8) وكان ( طعمه كرقاق بعسل ) (خروج 16 : 31) وقد أمروا بأن يجمعوا ( عمرا (1 العمر يساوي )كورات ( quartتقريباً، و كل كوارت يزيد قليلاً عن الليتر و يساوي ربع جالون. في اليوم للفرد . ولا يبقوا منه إلى الصباح ، وقد حاول بعضهم أن يبقوا بعضا منه إلى اليوم التالي ولكنهم وجدوا أنه لا يصلح للأكل . وكان يجب عليهم أن يجمعوا مؤونة اليوم في الصباح ، لأن ما كان يبقى بعد ذلك كان حرار الشمس تذيبه . AA 254.1
وفيما هم يجمعون المن وجدوا أن بعضا من الشعب جمعوا كميات أكثر ، وأن الاخرين جمعوا أقل من الكميات المقررة . ولكن ( لما كالوا بالعمر ، لم يفضل المكثر والمقلل لم ينقص ) (خروج 16 : 18) . إن بولس الرسول يقول لنا في رسالته الثانية إلى كورنثوس ما يقسر هذه الآية ، كما يعطينا درسا عمليا إذ يقول : ( فإنه ليس لكي يكون للآخرين راحة ولكم ضيق ، بل بحسب المساواة . لكي تكون في هذا الوقت فضالتكم لإعوازهم ، كي تصير فضالتهم لإعوازكم ، حتى تحصل المساواة . كما هو مكتوب : ( االذي جمع كثيرلم يفضل ، والذي جمع قليلا لم ينقص ) (2 كورنثوس 8 : 13 - 15) . AA 254.2
وفي اليوم السادس جمع الشعب ضعف الكمية لكل شخص ، فأتي رؤساء الجماعة وأخبروا موسى فكان جوابه : ( هذا ما قال الرب : غدا عطلة ، سبت مقدس للرب . اخبزوا ما تخبزون واطبخوا ما تطبخون . وكل ما فضل ضعوه عندكم ليحفظ إلى الغد ( وكما أمروا هكذا فعلوا فوجودوا أن ما بقي لم يتغير )فقال موسى : كلوه اليوم ، لأن للرب اليوم سبتا . اليوم لا تجدونه في الحقل . ستة أيام تلتقطونه ، وأما اليوم السابع ففيه سبت، لا يوجد فيه ( (خروج 16 : 23 ، 25 ، 26) . AA 254.3
يريد الله أن يومه المقدس يحفظ في أيامنا كما كان يحفظ في أيام إسرائيل ، فالأمر المعطى للعبرانيين ينبغي للمسيحيين اعتباره فرضا من الرب عليهم . واليوم السابق للسبت يجب أن يكون يوم استعداد لكي يكون كل شيء معدا لساعاته المقدسة . يجب ألا تختلس أشغالنا أي جزء من الوقت المقدس مهما تكن الظروف . وقد أوصى الرب شعبه أن يرعوا المرضى والمتألمين ، فالتعب الذي يبذل في سبيل إراحتهم هو عمل من أعمال الرحمة وليس تدنيسا للسبت . أما كل عمل غير ضروري فينبغي ألا يعمل . إن كثيرين بسبب إهمالهم يؤجلون إلى بداءة السبت بعض الأعمال الصغيرة التي كان يمكن عملها في يوم الاستعداد . هذا ما لا يجب أن يكون ، فالاعمال التي أهملت حتى أقبل يوم السبت ينبغي تأجيلها حتى ينتهي اليوم . هذا المسلك يمكن أن يساعد ذاكرة أولئك العديمي التفكير ، ويجلعهم يحرصون على إنجاز أعمالهم في ستة أيام العمل . AA 254.4
وفي كل أسبوع طوال سني غربة بني إسرائيل في البرية كانوا يشاهدون أعجوبة ذات ثلاثة جوانب ، وكان القصد منها أن تنطبع في عقولهم قدسية يوم السبت ، ذلك أن كمية مضاعفة من المن كانت تنزل في اليوم السادس ، بينما لم ينزل شيء في اليوم السابع ، كما أن الكمية اللازمة ليوم السبت حفظت نقية وحلوة المذاق ، بينما لو أبقي شيء في أي يوم آخر غير يوم السبت لم يكن يصلح للأكل . AA 255.1
وفي الظروف المتصل بإعطاء المن برهان جازم على أن السبت لم يؤسس ، كما يدعي البعض ، عندما أعطيت الشريعة في سيناء . فقبل مجيء الإسرائيليين إلى سيناء كانوا يفهمون أن حفظ السبت أمر لازم . ولكونهم كانوا ملزمين بأن يجمعوا في كل يوم جمعة كمية مضاعفة من المن استعدادا للسبت الذي لا يسقط فيه شيء فقد انطبع في عقولهم الطابع المقدس ليوم الراحة بكيفية دائمة . وعندما خرج بعض من الشعب في يوم السبت ليجمعوا المن سأل الرب قائلا : ( إلى متى تأبون أن تحفظوا وصاياي وشرائعي ؟ ) . AA 255.2
( وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى جاءوا الأرض عامرة . أكلوا المن حتى جاؤوا إلى طرف أرض كنعان ) (خروج 16 : 35) ولمدة أربعين سنة كانوا يذكرون هذه المؤونة العجائبية دليلا على رعاية الله ومحبته ورقته التي لا تخيب . والمرنم يقول إن الله ( أمطر عليهم منا للأكل ، وبر السماء ) حنطة السماء ( أعطاهم . أكل الإنسان خبز الملائكة . أرسل عليهم زادا للشبع ) (مزمور 78 : 25 ، 25) أي الخبز الذي أعدته لهم الملائكة . فإذ كانوا يعالون ب ( بر السماء ) كانوا يتعلمون كل يوم أنهم إذ كانت لهم مواعيد الله فقد كانوا في أمان من العوز والاحتياج كما لو كانوا ماحطين بحقول الحنطة في أرض كنعان الجيدة . AA 255.3
إن المن النازل من السماء لإعالة إسرائيل كان رمزا إلى المخلص الذي جاء من قبل الله ليعطي حياة للعالم . قال يسوع ( أنا هو خبز الحياة . أباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا ، هذا هو الخبز النازل من السماء ... إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد . والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم ) (يوحنا 6 : 48 - 51) . ومن بين مواعيد البركة لشعب الله في الحياة العتيدة هذا الوعد ( من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى ) (رؤيا 2 : 17) . AA 256.1
وبعدما غادر الإسرائيليون برية سين عسكروا في رفيديم . ولم يكن هناك ماء للشرب فعادوا إلى عدم الثقة بعناية الله . ففي عمى قلوبهم وعجرفتهم أتى الشعب إلى موسى قائلين : ( أعطونا ماء لنشرب ) ولكن صبر موسى لم يخذله ، فقال لهم ( لماذا تخاصمونني؟ لماذا تجربون الرب ؟ ) فصرخوا يقولون في غضب : ( لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش ؟) (خروج 17 : 1- 7) إنهم حين قدم لهم الطعام بوفرة ذكروا بخجل عدم إيمانهم وتذمراتهم ، ووعدوا أن يثقوا بالرب في الأيام التالية ، ولكنهم سرعان ما نسوا وعدهم وفشلو في أول امتحان لإيمانهم . وإن عمود السحاب الذي كان يقودهم بدا لعقولهم كأنه يخفي سرا مخيفا ، وثم جعلوا يتساءلون : وموسى من هو ؟ وماذا يمكن أن يكون غرضه من إخراجهم من مصر ؟ لقد ملأ قلوبهم الشك وعدم الثقة ، وبكل جرأة اتهموه بأنه ينوي أن يقتلهم وأولادهم بالحرمان والفاقة والمتاعب ليغتني هو بأملاكهم . وفي شدة سخطهم وغضبهم كانوا موشكين أن يرجموه . AA 256.2
ففي ضيقة نفسه صرخ موسى إلى الرب قائلا : ( ماذا أفعل بهذا الشعب ؟ ) فأمره الرب أن يأخذ معه من شيوخ إسرائيل والعصا التي صنع بها الآيات في مصر ويذهب أمام الشعب ، ثم قال له الرب : ( ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب ، فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ) وقد أطاع موسى وانفجرت المياه في جدول ماء حي فأشبعت كل الجماعة . فبدلا من أن يأمر الرب موسى بأن يرفع عصاه ويستنزل ضربة رهيبة على من كانوا في مقدمة المتذمرين ، كالضربات التي حلت بالمصريين ، فإنه ، في رحمته العظيمة ، جعل العصا وسيلة في تخليص شعبه . ( شق صخورا في البرية ، وسقاهم كـأنه من لجج عظيمة . أخرج مجاري من صخرة ، وأجرى مياها كالأنهار ) (مزمور 78 : 15 ، 16) لقد ضرب موسى الصخرة ، ولكن ابن الله المحتجب وراء عمود السحاب ، هو الذي وقف إلى جوار موسى وأجرى المياه المعطية الحياة . ولم يكن موسى وشيوخ إسرائيل وحدهم هم الذين أبصروا مجد الرب ، بل أيضا كل الشعب الذين وقفوا من بعد . ولكن لو أن السحابة رفعت لكانوا كلهم قد صعقوا وقتلوا من شدة لمعان وبهاء ذاك الساكن في السحابة . AA 256.3
إن الشعب في عطشهم جربوا الله قائلين : ( أفي وسطنا الرب أم لا ؟ ) ( إن كان الله أتى بنا إلى هنا فلماذا لا يعطينا ماء كما يعطينا خبزا ) إن عدم الإيمان هذا الذي جاهروا به كان إجراما ، وقد خاف موسى لئلا تنصب دينونة الله على الشعب بسببه ، فدعا موسى اسم ذلك المكان مسة ( تجربة ) ومريبة ( تعنيف ) تذكارا لخطيتهم . AA 257.1
ولكن خطرا جديدا يتهددهم ، فبسبب تذمرهم على الرب سمح للأعداء بمهاجمتهم ، ذلك أن العمالقة الذين كانوا قبيلة عنيفة ميالة للحرب ساكنة في ذلك الاقليم قاموا يحاربون وضربوا أولئك الذين سقطوا في المؤخرة بسبب التعب والإعياء . وحيث أن موسى كان يعرف أن الشعب عامة غير مستعدين للقتال قال ليشوع أن يختار من بين أسباط إسرائيل جنودا ويقودهم في الغد لمنازلة العدو ، بينما يقف هو على التلة القريبة وعصا الله في يده . ففي اليوم التالي قاد يشوع جيشه وهاجموا العدو ، بينما كان موسى وهارون وحور فوق التلة يرقبون المعركة . فإذ بسط موسى يديه نحو السماء والعصا في يده اليمنى صلى طالبا انتصار جيوش إسرائيل . وفي أثناء المعركة لوحظ أن إسرائيل كان هو الغالب ما ظلت يدا موسى مرتفعتين إلى فوق ، ولكن حين كانتا تنخفضان كان العدو ينتصر . فلما أعيا موسى دعم هارون وحور يديه إلى غروب الشمس حين انهزم الأعداء وولوا الأدبار . AA 257.2
إذ أسند هارون وحور يدي موسى أبانا للشعب واجبهما في إسناده في عمله الشاق وهو يتلقى رسالة الله ليكلمهم بها . وكان لعمل موسى مغزاه أيضا إذ أبان لهم أن الله يضع مصيرهم في يديه متى جعلوه متكلهم ، وأنه يحارب عنهم ويخضع أعداءهم ، ولكن متى تنحوا عن تمسكهم به واتكلوا على قوتهم يكونون عندئذ أضعف من أولئك الذين لم يعرفوا الله ، وينهزمون أمام أعدائهم . AA 257.3
وكما انتصر العبرانيون حين كانت يدا موسى مرتفعتين إلى السماء وهو يشفع فيهم فكذلك سيغلب أسرائيل الله حينما ، بإيمانهم ، يمسكون بقدرة معينهم القدير . ومع ذلك فقوة الله يجب أن تكون مصحوبة بالمجهود الإنساني ، فلم يكن موسى يؤمن بأن الله سيغلب أعداءهم بينما يظل بنو إسرائيل قابعين في خيامهم في تكاسل واسترخاء . فحين كان ذلك القائد العظيم يصلي إلى الله كان يشوع ورجاله البواسل يبذلون أقصى جهودهم في طرد أعداء إسرائيل والله . AA 258.1
بعد هزيمة عماليق أمر الرب موسى قائلا : ( اكتب هذا تذكارا في الكتاب ، وضعه في مسامع يشوع . فإني سوف أمحوا ذكر عماليق من تحت السماء ) (خروج 17 : 14) . وقد أوصى ذلك القائد العظيم شعبه قبيل مماته قائلا : ( اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر . كيف لاقاك في الطريق وقطع من مؤخرك كل المستضعفين وراءك ، وأنت كليل ومتعب ، ولم يخف الله ... تمحو ذكر عماليق من تحت السماء . لا تنس ) (تثنية 25 : 17 - 19) . وبخصوص هذا الشعب الشرير أعلن الرب قائلا : ( إن يده ضد عرش الرب ) (خروج 17 : 16 — ترجمة سنة 1878) . AA 258.2
لم يكن العمالقة يجهلون صفات الله أو سلطانه . ولكن بدلا من أن يخشوا الرب قاموا يتحدون قدرته ، فالعجائب التي أجراها موسى أمام المصريين كانت موضوع سخرية العمالقة ، كما استهزأوا بمخاوف الأمم المجاورة . لقد أقسموا باسم آلهتهم أن يهلكوا العبرانيين بحيث لا ينجوا منهم أحد ، وجعلوا يتشدقون قائلين إن إله إسرائيل لن يقوى على مقاومتهم . إن الإسرائيليين لم يلحقوا بهم أي أذى ، ولا هددوهم ، وتلك الغارة التي قاموا بها على شعب الله لم تسبقها أية إثارة أو استفزاز . إنما غرضهم كان إظهار عداوتهم وتحديهم لله، ولهذا طلبوا هلاك شعبه . لقد ظل العمالقة أمدا طويلا خطاة متعظمين مستكبرين ، وقد صرخت جرائمهم إلى الله تطلب الانتقام ، ومع ذلك ففي رحمته دعاهم إلى التوبة ، ولهذا فحين هجم العمالقة على المستضعفين العزل من بني إسرائيل ختموا بختم الهلاك على أمتهم . إن اهتمام الله منصرف إلى أضعف الصعفاء من أولاده . فالسماء لا تسكت عن أي عمل من أعمال القسوة أو الظلم التي تمسهم . إنه يمد يده كترس ومجن ليستر بها كل محبيه ومتقيه . فليحترس الأشرار لئلا يضربوا يد الرب فإنها ممكسة بسيف العدل . AA 258.3
وبالقرب من المكان الذي نصب فيه بنو إسرائيل خيامهم كان وطن يثرون حمي موسى كان هذا الرجل قد سمع بخبر خلاص العبرايين فخرج ليزورهم وليعيد إلى موسى امرأته وابنيه . كان ذلك القائد العظيم قد علم من بعض الرسل بخبر قدومهم فخرج ليستقبلهم فرحا ، وبعد التحيات الأولى أدخلهم إلى خيمته . إن موسى كان قد أعاد عائلته إلى بيت حميه حين كان ذاهبا إلى مصر ليواجه المخاطر وليخرج الشعب من أرض مصر ، أما الآن فقد أمكنه أن يتمتع بالراحة والعزاء في صحبتهم ، وقد ردد على مسامع يثرون أخبار معاملات الله العجيبة لإسرائيل ، ففرح ذلك الشيخ التقي وبارك الرب واشترك مع موسى وشيخ إسرائيل في تقديم ذبيحة وفي إقامة وليمة مقدسة تذكارا لرحمة الرب . AA 259.1
وإذ بقي يثرون بعض الوقت في المحلة رأى حالا ثقل الأعباء التي كان موسى يتحملها . إن حفظ النظام بين ذلك الجمع الكبير الجاهل وغير المهذب كان عملا هائلا حقا . كان موسى يعتبر قائدا وقاضيا ، ولم يكن يؤتى إليه بمصالح الشعب العامة وواجبتاهم فقط ، بل حتى المنازعات التي كانت تنشب بينهم . وسمح هو بذلك إذ وجد فيه فرصة ليعلم الشعب كما قال لحميه . ( أعرفهم فرائض الله وشرائعه ) إلا أن يثرون اعترض عليه قائلا : ( الأمر أعظم منك . لا تستطيع أن تصنعه وحدك) ( إنك تكل ) ثم أشار على موسى أن يقيم رجالا ذوي رأي سديد ليكونوا رؤساء ألوف ، وآخرين ليكونوا رؤساء مئات ، وآخرين رؤساء عشرات وقال أنهم ينبغي أن يكونوا ( ذوي قدرة خائفين الله ، أمناء مبغضين الرشوة ) (خروج 18 : 13 - 26) . هؤلاء يحكمون في القضايا الصغيرة . أما القضايا الصعبة والهامة فينبغي أن يؤتى بها إلى موسى الذي ينبغي أن يكون للشعب كما قال يثرون ( كن أنت للشعب أمام الله ، وقدم أنت الدعاوي إلى الله ، وعلمهم الفرائض والشرائع ، وعرفهم الطريق الذي يسلكونه ، والعمل الذي يعملونه ) وقد قبلت هذه المشورة ، وفضلا عن كونها خففت الحمل عن كاهل موسى فقد نتج عنها نظام أكمل بين الشعب . AA 259.2
لقد أكرم الرب موسى إكراما عظيما وصنع على يديه عجائب ، إلا أن حقيقة كونه قد اختير ليعلم الشعب لم تجعله يستنتج أنه في غير حاجة إلى التعلم ، فلقد أصغى قائد إسرائيل المختار بفرح إلى مقترحات كاهن مديان التقي ، وعمل بموجبها معتبرا إياها تدبيرا حكيما . AA 259.3
ومن رفيديم استأنفا الشعب رحلاتهم متتبعين حركة عمود السحاب ، وقد وصلوا في سيرهم إلى سهول قاحلة بها مرتفعاته وعرة وساروا في معابر صخرية ، وفي أحيان كثيرة بعد ما يعبرون أرضا رملية غير مزروعة كانوا يرون أمامهم جبالا وعرة تشبه الحصون الهائلة تعترض طريقهم وكأنها هي تمنعهم عن التقدم في سيرهم . ولكنهم عندما كانوا يقتربون منها كانت تظهر أمامهم فجوات هنا وهناك في الجبل ، وكانت هذه الفجوات تنتهي بهم إلى سهل آخر ممتد أمامهم . وقادهم الرب في أحد تلك المعابر العميقة التي تكاثر فيها الحصى . لقد كان منظرا جليلاً مثيراً للعواطف . فبين الصخور العالية التي ارتفعت مئات الأقدام على الجانبين تدفقت جموع إسرائيل في صفوف طويلة لا تبلغ العين مداها ، ومعهم غنمهم وبقرهم . والان ظهر أمامهم جبل سيناء شامخ الهامة في عظمة وجلال ، وقد استقر عمود السحاب فوق قمته فنصب الشعب خيامهم في السهل الممتد في أسفل الجبل ، وكان عليهم أن يلبثوا في ذلك المكان قرابة سنة ، فلما أقبل الليل أكد طهور عمود النار للشعب حماية الله لهم ، وفيما كانوا نياما كان خبز السماء يتساقط حوالي المحلة بهدوء . AA 259.4
وإذ طلع الفجر لمست أشعة النور قمم الجبال فأنارتها ثم علت الشمس فأرسلت أنوارها التي بددت ظلمات الفجوات العميقة فبدت أشعة الشمس لأولئك السائحين المتعبين كأنها أشعة الرحمة المنبعثة من عرش الله . ومن كل جانب ظهر كأن المرتفعات الوعرة تتكلم في جلالها عن احتمال الله وصبره وعظمته السرمدية . في هذا المكان امتلأت العقول والقلوب بالهيبة والخشوع ، وبدا الإنسان يحس بجهله وضعفه في حصرة ذاك الذي ( وزن الجبال بالقبان ، والآكام بالميزان ) (إشعياء 40 : 12) . في هذا المكان كان إسرائيل سيحصل على أعجب إعلان أعلنه الله للناس ، وفي هذا المكان حشد الرب شعبه ليطبع على عقولهم وقلوبهم قدسية مطاليبه بكونه يعلن الشريعة بصوته . إن تغييرات عظيمة وجوهرية كانت ستحدث فيهم لأن تأثير العبودية النجس ومعاشرتهم المستمرة للوثنيين تركت طابعها على عاداتهم وأخلاقهم . وقد كان الله يعمل على رفع مستواهم الأخلاقي بكونه يعرفهم بذاته . AA 260.1
* * * * *