إن ادم وحواء عندما خلقا عرفا شريعة الله ، وكانا ملمين بمطاليبها منهما ، وقد كتبت فرائضها على قلبيهما ، فلما سقط الإنسان بتعديه لم تتغير الشريعة ، ولكن نظاما للمعالجة أقيم لإعادته إلى الطاعة ، فقد أعطي الوعد بمخلص ، وأقيمت الذبائح الكفارية التي كانت تشير إلى موت المسيح كالذبيحة العظمى للخطية ، ولكن لو أن الإنسان لم يتعد شريعة الله قط لما كان هنالك موت ، ولا كانت هنالك حاجة إلى مخلص ، ولما كان من ثم حاجة إلى ذبائح . AA 317.1
لقد علم آدم نسله شريعة الله التي سلمت من أب إلى ابن مدى الأجيال المتعاقبة ، ولكن بالرغم من التدبير الإلهي الرحيم لفداء الإنسان فإن قليلين هم الذين قبلوه وأطاعوا الله . وبسبب الخطية صار العالم فاسدا بحيث صار من اللازم تطهيره من فساده بالطوفان . وقد حفظ نوح وعائلته الشريعة ، فعلم نوح نسله الوصايا العشر . ولما ابتعد الإنسان عن الله مرة أخرى اختار الرب إبراهيم الذي أعلن عنه قائلا : ( إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي : أوامري وفرائضي وشرائعي ) (تكوين 26 : 5) وقد أعطيت له فريضة الختان الذي كان علامة على أن من قبلوه قد كرسوا لخدمه الله وعبادته — وكان عهدا أخذوه على أنفسهم بأنهم سيظلون منفصلين عن الوثنية ويحفظون شريعة الله ، لكن إخفاق نسل إبراهيم في حفظ هذا العهد ، الأمر الذي ظهر في ميلهم لعقد محالفات مع الوثنين ومحاكاتهم لهم في أعمالهم ، كان من أسباب تغرب إسرائيل وعبوديتهم في مصر . إلا أنه بمخالطتهم للوثنيين وخضوعهم للمصرين قسرا أفسدت وصايا الله بالأكثر ، بسبب تعاليم الوثنية الفاسدة القاسية . ولذلك فحين أخرج الرب شعبه عن مصر نزل على جبل سيناء محاطا بالمجد ومحفوفا بملائكته ، وبجلال رهيب نطق بشريعته في مسامع كل الشعب . AA 317.2
لم يكن حتى ذلك الحين ليودع وصاياه ذاكرة الشعب الذي كان ميالا لنسيان مطاليبه ، ولذلك كتبها على لوحي حجر . لقد أراد أن ينتزع من إسرائيل كل محاولة لمزج التقاليد الوثنية بوصاياه المقدسة ، أو الخلط بين مطاليبه والفرائض أو العادات البشرية . إلا أنه لم يقف عند حد إعطائهم الوصايا العشر . فلقد برهن الشعب على سهولة جنوحهم إلى الضلال بحيث أن الله لم يترك بابا واحدا للتجربة دون حراسة . وقد أمر موسى أن يكتب ، بموجب أمر الله ، أحكاما وشرائع ، واضعا تعليم دقيقة من مطالبيه . هذه التوجيهات الخاصة بواجب الشعب نحو الله ونحو بعضهم البعض ونحو الغرباء كانت هي مبادئ الوصايا العشر مقدمة في إسهاب وبكيفية واضحة حتى لا يخطئ أحد . وقد كان القصد من تلك التوجيهات صيانة قدسية الوصايا العشر المكتوبة على لوحي الحجر . AA 318.1
لو أن الإنسان حفظ شريعة الله المعطاة لآدم بعد السقوط والتي احتفظ بها نوح وأطاعها إبراهيم لما كان هناك داع لفريضة الختان . ولو نسل إبراهيم حفظ العهد الذي كان الختان علامة له لما انغووا وانحرفوا إلى الوثنية ، ولما كانت ثمة حاجة لان يقاسوا مرارة حياة العبودية في مصر ، بل كانوا يحفظون شريعة الله في أذهانهم ، وما كان هنالك داع لإعلانها من سيناء أو كتابتها على لوحي حجر . ولو كان الشعب قد مارسوا مبادئ الوصايا العشر لما كانت حاجة إلى تلك التوجيهات الإضافية المسلمة لموسى . AA 318.2
إن نظام الذبائح المسلم لآدم قد أفسدته ذريته أيضا ، إذ أن الخرافات والوثنية والقسوة والدعارة قد أفسدت بساطة ومغزى تلك الخدمة التي قد رسمها الله . وبسبب اختلاط شعب الله بالوثنيين أمدا طويلا أدخل بنو إسرائيل كثيرا من العادات الوثنية إلى عبادتهم ، ولذلك أعطاهم الله في سيناء تعليمات واضحة وافية عن الخدمة الكفارية . وبعدها أكملت الخيمة وأقيمت كان الله يتحدث مع موسى من سحابة المجد التي فوق الغطاء وأعطاه تعليمات شاملة عن نظام الذبائح وطقوس العبادة لتمارس في المقدس ، وهكذا أعطيت الشريعة الطقسية لموسى الذي كتبها في سفر . ولكن شريعة الوصايا العشر التي تكلم بها من سيناء كتباه الله بإصبعه على لوحي الحجر وحفظت في التابوت بكل إكرام . AA 318.3
كثيرون يحاولون دمج هذين النظامين معا مستخدمين الآيات التي تتحدث عن الناموس الطقسي للبرهنة على أن الشريعة الأدبية قد أبطلت ، ولكن هذا انتهاك لكتاب الله . إن الفرق بين النظامين واسع وجلي ، فالنظام الطقسي كان مكونا من جملة رموز تشير إلى المسيح وكفارته وكهنوته . هذا النظام الطقسي بذبائحه وفرائضه كان على العبرانيين أن يمارسوه إلى أن يلتقي الرمز بالمرموز إليه بموت المسيح ، حمل الله الذي يرفع خطية العالم . حينئذ كان لا بد من إبطال كل تقدمات الذبائح . هذا هو الناموس الذي المسيح ( رفعه من الوسط مسمرا إياه بالصليب ) (كولوسي 2 : 14) أما فيما يختص بشريعة الوصايا العشر فالمرنم يعلن قائلا : ( إلى الأبد يا رب كلمتك مثبتة في السماوات ) (مزمور 119 : 89) والمسيح نفسه يقول : ( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس ... فإني الحق أقول لكم (وقد قالها بكل تشديد وتأكيد) إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ) (متى 5 : 17 ، 18) وهو هنا يعلمنا ، ليس فقط ماذا كانت مطاليب الشريعة حينئذ وقبل ذلك ، بل أن هذه المطاليب ستظل باقية وملزمة بالطاعة ما بقيت السماوات والأرض . إن شريعة الله ثابتة ثبات عرشه و ستظل محتفظة بحقوقها على الجنس البشري في كل العصور . AA 318.4
يتكلم نحميا عن الشريعة المعلنة في سيناء قائلا : ( ونزلت على جبل سيناء ، وكلمتهم من السماء ، وأعطيتهم أحكاما مستقيمة وشرائع صادقة ، فرائض ووصايا صالحة ) (نحميا 9 : 13) ثم أن بولس رسول الأمم ، يعلن قائلا : ( إذا الناموس مقدس ، والوصية مقدسة وعادلة وصالحة ) (رومية 7 : 12) هذه لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير الوصايا العشر ، لأن الناموس هو الذي يقول ( لا تشته ) . AA 319.1
إن موت المسيح لئن وضع نهاية لشريعة الرموز والظلال فهو لم ينتقص حق الشريعة الأدبية إطلاقا ، بل إن الأمر على العكس ، فان نفس حقيقة لزوم موت المسيح ليفكر عن تعدي الناس هذه الشريعة تبرهن على أن الشريعة راسخة وثابتة . AA 319.2
والذين يدعون أن المسيح أتي لكي ينقض شريعة الله ويلغيها وينسخ العهد القديم يتكلمون عن العصر اليهودي قائلين إنه كن عصرا مظلما ، ويصورون ديانة العبرانيين على أنها تنحصر في بعض الرموز والطقوس ، ولكن هذا خطأ ففي كل صفحات التاريخ المقدس حيث سجلت معاملات الله لشعبه المختار هناك أثار من نار ليهوه العظيم . لم تقدم قط لبني الإنسان إعلانات أوضح عن قدرته ومجده مما قدم حين اعترف به وحدد كملك إسرائيل وحين أعطى لشعبه الشريعة . هنا كان قضيب الملك ممسكا لا بيد بشرية ، وقد كانت الخطوات الجليلة خطوات ملك إسرائيل الغير المنظور من الجلال والرهبة مما لا يمكن التعبير عنه . AA 319.3
وفي كل إعلانات الحضور الإلهي هذه أعلن مجد الله في المسيح . وليس فقط عند مجيء المخلص بل مدى الأجيال بعد السقوط والوعد بالفداء ( الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه ) (2 كورنثوس 5 : 19) كان المسيح أساس النظام الكفاري ونقطة ارتكازه في كلا العصرين ، عصر الآباء والعصر اليهودي . ومنذ أخطأ أبوانا الأولان لم يكن هناك اتصال مباشر بين الله والإنسان . ولقد دفع الآب العالم بين يدي المسيح حتى عن طريق عمله كوسيط يفتدي الإنسان ويزكي سلطان شريعة الله وقدسيتها . إن كل اتصال بين السماء وجنسنا الساقط كان عن طريق المسيح . وإن ابن الله هو الذي أعطى أبوينا الأولين وعد الفداء ، وهو الذي أعلن نفسه للآباء ، فلقد فهم الإنجيل كل من آدم ونوح و‘براهيم و‘سحاق ويعقوب وموسى ، وكانوا ينتظرون الخلاص بواسطة بديل الإنسان وضامنه . وقد كان لأولئك القديسين الأقدمين شركة مع المخلص الذي كان مزعما أن يجيء إلى عالمنا في جسم بشري ، وبعضهم تحدثوا مع المسيح ومع ملائكة السماء وجها لوجه . AA 320.1
إن المسيح لم يكن هو فقط قائد العبرانيين في البرية — الملاك1 الكلمة )ملاك) هنا من أسماء المسيح كما جاء في خروج 23: 20-23, حيث دعى قائد الشعب )ملاكا) وه القائد نفسه قد دعى في 1 كورنثوس 10:4 )المسيح). غير أن هذا لا يعني أن المسيح كان ملاكا, بدليل قوله تعالى “لان اسمي فيه الذي كان فيه اسم الرب (يهوه) ، والذي إذ كان محتجبا وراء عمود السحاب سار أمام جمهور الشعب — ولكنه هو الذي أعطى الشريعة لإسرائيل ، ففي وسط مجد سيناء الرهيب أعلن المسيح في مسامع كل الشعب وصايا شريعة أبيه العشر ، وهو الذي أعطى الشريعة لموسى مكتوبة على لوحي الحجر . AA 320.2
والمسيح هو الذي كلم شعبه بالأنبياء. إن بطرس الرسول يكتب إلى الكنيسة المسيحية قائلا إن الأنبياء ( تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم ، باحثين أي وقت أو ما الوقت إلي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم ، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح ، والأمجاد التي بعدها ) (1 بطرس 1 : 10 ، 11) إن صوت المسيح هو الذي يخاطبنا من بين صفحات العهد القديم قائلا : ( إن شهادة يسوع هي روح النبوة ) (رؤيا 19 : 10) . AA 320.3
إن يسوع في تعاليمه للشعب حين كان بنفسه بين الناس وجه العقول إلى العهد القديم ، فلقد قال لليهود : ( فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية . وهي التي تشهد لي ) (يوحنا 5 : 39) وفي ذلك الوقت كانت كتب العهد القديم هي القسم الوحيد من الكتاب المقدس بين أيديهم ثم أعلن ابن الله مرة أخرى قائلا : ( عندهم موسى والأنبياء ، ليسمعوا منهم ) وقد أضاف قائلا : ( إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء ، وإن قام واحد من الأموات يصقدون ) (لوقت 16 : 29 ، 31) . AA 321.1
إن المسيح هو الذي أعطى الناموس الطقسي ، وحتى بعدما لم يعد حفظه لازما قدمه بولس لليهود في مركزه وقيمته الحقيقيين مبينا مكانته في تدبير الفداء وعلاقته بعمل المسيح . والرسول العظيم يعلن أن هذا الناموس مجيد وجدير بمبدعه الإلهي . إن خدمة المسكن المقدسة كانت ترمز إلى مبادئ الحق العظيمة التي كانت ستعلن طوال الأجيال المتعاقبة وأن سحابة البخور الصاعدة مع صلوات إسرائيل تمثل بر المسيح الذي يستطيع دون سواه أن يجعل صلاة الخاطئ تقبل أمام الله . والذبيحة التي كانت توضع على مذبح المحرقة والدم يقطر منها كانت تشهد للفادي المزمع أن يأتي ، ومن قدس الأقداس كانت تستطع العلامة المنظورة للحضور الإلهي . وهكذا طوال أجيال الظلمة المتعاقبة والارتداد حفظ الإيمان حيا في قلوب الناس إلى أن أتى وقت مجيء مسيا الموعود به . AA 321.2
كان يسوع نور شعبه — نورا للعالم - قبلما أتي إلى الأرض في هيئة بشرية . إن أول أشعة النور التي اخترت كبد الظلمة التي لفت الخطئية بها العالم ، فقد انبثقت من المسيح ، ومنه أشرقت كل أشعة نور السماء التي سطعت على كل ساكني الأرض . ففي تدبير الفداء نجد أن المسيح هو الألف والياء البداية والنهاية . AA 321.3
منذ سفك المخلص دمه لغفران الخطايا وصعد إلى السماء ( ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا ) (عبرانيين 9 : 24) والنور لا يزال يتدفق من صليب جلجثة ومن مقادس الهيكل السماوي ، إلا أن النور الأوضح المعطى لنا ينبغي ألا يجعلنا نحتقر ذلك النور الذي قبله الأقدمون عن طريق الرموز والذي كان يشير إلى المخلص الآتي . إن إنجيل المسيح يلقي نورا على النظام اليهودي ، ويعطي معنى للشريعة الطقسية . وإذ تنكشف حقائق جديدة ، وما قد عرف منذ البدء ينكشف أمام نور أكمل حينئذ تعلن صفات الله ومقاصده في معاملاته للشعب المختار . إن كل شعاع من النور ، يضاف إلى ما قد حصلنا عليه ، يعطينا إدراكا أوضح لتدبير الفداء الذي هو إنجاز لمشيئة الله في خلاص الإنسان . إننا نرى في الكلمة الموحى بها جمالا جديدا وقوة جديدة ونحن ندرسها بشغف واهتمام أعظم مما سبق . AA 321.4
كثيرون يعتقدون أن الله أقام جدارا فاصلا بين العبرانيين والعالم الخارجي ، وأن محبته ورعايته قد سحبهما إلى حد كبير من باقي بني البشر وركزهما في إسرائيل ، غير أن الله لم يقصد أن يقيم شعبه جدارا فاصلا بينهم وبين إخوانهم من بني الإنسان . إن قلب المحبة غير المحدود يتسع لكل سكان الأرض ، فمع أنهم رفضوه فقد حاول دائما أن يعلن نفسه لهم ويشركهم في محبته ونعمته . لقد منح بركته للشعب المختار حتى يمكنهم أن يباركوا الآخرين . AA 322.1
دعا الله إبراهيم وأنجحه وأكرمه ، وإن ولاء ذلك الشيخ كان نورا للناس في كل البلاد التي تغرب فيها . ولم ينطو إبراهيم على نفسه محتجبا عن الناس الذين حوله ، فلقد احتفظ بعلاقات صداقة مع ملوك الأمم المجاورة له ، وقد عامله بعضهم بكل احترام ، وكانت استقامته وإيثاره وشجاعته وإحسانه انعكاسا لصفات الله . وفي ما بين النهرين وفي كنعان ومصر وحتى لسكان سدوم استعلن إله السماء عن طريق ممثله هذا (إبراهيم) . AA 322.2
إن الله قد أعلن نفسه بواسطة يوسف لشعب مصر وكل الأمم المتصلة بتلك المملكة القوية . لماذا اختار الرب أن يمجد يوسف ويعظمه بين المصرين ؟ لقد كان يمكنه أن يبتكر وسيله أخرى لإتمام مقاصده نحو بني يعقوب ، إلا أنه قصد أن يجعل يوسف نورا ، فأقامه في قصر الملك لكي يصل نور السماء إلى القاصي والداني . إن يوسف بحكمته وعدالته وطهارته وحبه للخير في حياته اليومية وبتكريسه لصالح الشعب - وكان شعبا وثنيا - كان ممثلا للمسيح . ففي ذلك الشخص الذي أحسن إليهم والذي اتجهت إليه كل مصر بالشكران والحمد ، كان ذلك الشعب الوثني يرى حب خالقهم وفاديهم . وكذلك كانت الحال مع موسى ، فقد أقامه الله نورا بجوار عرش أعظم ممالك الأرض حتى كل من أراد كان يمكنه أن يتعلم عن الله الحي الحقيقي . وقد أعطى هذا النور للمصريين قبلما امتدت يد الله إليهم بالضربات . AA 322.3
عندما خلص الرب شعبه من أرض مصر انتشرت في البلاد معرفه قدرة الله إلى أبعد الأماكن . فالشعب الحربي في حصن أريحا قد ارتعب . وقالت راحاب : ( سمعنا فذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم ، لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت ) (يشوع 2 : 11) وبعد خروج إسرائيل من مصر بعدة قرون نبه كهنة الفلسطينيين بني شعبهم إلى ضربات مصر وحذروهم من مقاومة إله إسرائيل . AA 323.1
دعى الله إسرائيل وباركهم وعظمهم لا لكي يحصلوا على رضاه بطاعتهم لوصاياه ويحصلوا على بركاته دون سواهم ، بل لكي يعلن نفسه فيهم لكل ساكني الأرض . فلأجل إتمام نفس هذه الغاية أمرهم أن يحفظوا أنفسهم شعبا خاصا منفصلا عن الشعوب الوثنية التي حولهم . AA 323.2
كانت الوثنية وكل الخطايا التي جاءت في أذيالها مكروهة لدى الله ، لذلك أمر شعبه ألا يختلطوا بالأمم الأخرى ليعملوا كأعمالهم وينسوا الله (خروج 23 : 24) ولقد نهاهم عن التزاوج مع الوثينين لئلا تزيغ قلوبهم عنه . وكان من اللازم حينئذ ، كما هي الحال الآن ، أن يكون شعب الله طاهرين ( بلا دنس من العالم ) وكان ينبغي لهم أن يحفظوا أنفسهم من روح العالم لأنه مضاد للحق والبر . إلا أن الله لم يقصد أن يكون شعبه أبرارا في أعين أنفسهم أو منطوين على ذواتهم بحيث يحسبون أنفسهم بعيدا عن العالم فلا يكون لهم تأثير فيه . AA 323.3
إن إتباع المسيح كان في كل عصر نورا للعالم كما كان سيدهم . لقد قال المخلص : ( لا يمكن أن تخفي مدينة موضوعة على جبل ، ولا يوقدون سراجا ويضعونه تحت المكيال ، بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت ) — أي في العالم . ثم عاد يقول : ( فليضيء نوركم هكذا قدام الناس ، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات ) (متى 5 : 14 — 16) هذا هو نفس ما فعله كل من أخنوخ ونوح وإبراهيم ويوسف وموسى ، وهو نفس ما قصد الله أن يفعله شعب إسرائيل . AA 323.4
إن قلبهم الشرير العديم الإيمان الذي تحكم فيه الشيطان هو الذي جعلهم يخفون نورهم بدلا من أن يجعلوه يضيء للشعوب التي حولهم . إنها نفس روح التعصب التي جعلتهم إما أن يتبعوا ممارسات الوثنين الأثمية أو أن يعتزلوا بأنفسهم في كبرياء وانطواء كما لو كانت محبة الله ورعايته وقفا عليهم دون سواهم . AA 323.5
وكما يقدم الكتاب شريعتين إحداهما أبدية لا تتغير والأخرى وقتية واحتياطية — كّذلك يقدم عهدين . إن عهد النعمة أبرم أولا مع آدم في عدن ، حين أعطي وعد إلهي بعد السقوط بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية ، وهذا العهد قدم لجميع الناس غفرانا ونعمة إلهية تعينهم في المستقبل على الطاعة بالإيمان بالمسيح . وقد وعدوا أيضا بالحياة الأبدية على شرط الولاء لشريعة الله . وهكذا حصل الآباء على رجاء الخلاص . AA 324.1
ونفس هذا العهد تجدد لإبراهيم في الوعد القائل : ( في نسلك جميع أمم الأرض ) (تكوين 22 : 18) هذا الوعد كان يشير إلى المسيح ، وهكذا فهمه إبراهيم (أنظر غلاطية 3 : 8 ، 16) وقد اتكل على المسيح لأجل مغفرة الخطايا . هذا هو الإيمان الذي حسب له برا . ثم أن العهد مع إبراهيم حفظ لشريعة الله سلطانها . لقد ظهر الرب لابراهيم وقال له : ( أنا الله القدير . سر أمامي وكن كاملا ) (تكوين 17 : 1) وهذه هي شهادة الله عن عبده الأمين ( أن إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي : أوامري و فرائضي و شرائعي ) و قد أعلن له الله قائلاً : )و أقيم عهدي بيني و بينك ، وبين نسلك من بعدك في أجيالهم ، عهدا أبديا ، لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك ) (تكوين 26 : 5 ، 17 : 7) . AA 324.2
ومع أن هذا العهد كان قد أعطي لآدم وجدد لإبراهيم إلا أنه لم يمكن المصادقة عليه حتى موت المسيح . لقد وجد بوعد الله عندما أعطيت أول إشارة إلى الفداء ، وقبل بالإيمان ، ومع ذلك فعندما صادق عليه المسيح سمي عهدا جديدا . لقد كانت شريعة الله أساس هذا العهد الذي كان مجرد إجراء لإعادة الناس إلى حالة التوافق والانسجام مع إرادة الله إذ جعلهم في وضع يستطيعون فيه أن يطيعوا شريعة الله . AA 324.3
وهنالك عهد آخر ويسمى في الكتاب المقدس بالعهد )العتيق) أو )القديم) ، وقد أقيم بين الله وإسرائيل في سيناء وصودق عليه بدم الذبيحة آنئذ ، أما العهد الإبراهيمي فقد صودق عليه بدم المسيح وسمي بالعهد الثاني أو الجديد لأن الدم الذي ختم به أهرق بعد دم العهد الأول . وإن حقيقة كون العهد الجديد شرعيا في أيام إبراهيم تتضح من حقيقة كونه تثبت بوعد الله وقسمه ، )حتى بأمرين عديمي التغير ، لا يمكن أن الله يكذب فيهما ( (عبرانيين 6 : 18) . AA 324.4
ولكن إذا كان العهد الإبراهيمي اشتمل على وعد الفداء فلماذا أبرم عهد آخر في سيناء ؟ إن الشعب وهم في العبودية كانوا إلى حد كبير قد أضاعوا معرفة الله ومبادئ العهد مع إبراهيم ، ففي تحريرهم من مصر أراد الله أن يعلن لهم قدرته ورحمته لكي يقودهم ذلك إلى أن يحبوه ويثقوا به ، ولقد أنزلهم إلى بحر سوف (البحر الأحمر) حيث بدا أن النجاة مستحيلة — إذ كان المصريون يجدون في أثرهم — ليتحققوا من عجزهم التام وحاجتهم إلى معونة الله ، وحينئذ صنع لهم الخلاص . وهكذا امتلأت قلوبهم حبا وشكرا لله وثقة بقدرته على إعانتهم . لقد جعلهم يرتبطون به كمحررهم من العبودية الزمنية . AA 325.1
غير أنه كان هنالك حق أعظم وجب أن ينطبع على عقولهم . فإذ كانوا عائشين في وسط الوثنية والفساد لم تكن لديهم فكرة صحيحة عن قداسة الله أو عن شر قلوبهم العظيم وعجزهم التام في أنفسهم عن تقديم الطاعة لشريعة الله وحاجتهم إلى مخلص . كان عليهم أن يتعلموا كل هذا . AA 325.2
لقد أتى الله بهم إلى سيناء وأظهر لهم مجده وأعطاهم شريعته ووعدهم ببركات عظيمة على شرط الطاعة ، قائلا لهم : ( إن سمعتم لصوتي ، وحفظتم عهدى تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب . فإن لي كل الأرض . وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة ) (خروج 19 : 5 ، 6) ولم يتحقق الشعب من شر قلوبهم أو أنهم بدون المسيح كان من المستحيل عليهم أن يطيعوا شريعة الله ، إذ بسرعة أدخلوا أنفسهم في عهد مع الله ، وإذ أحسوا بقدرتهم على أن يثبتوا بر أنفسهم أعلنوا قائلين : ( كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له ) (خروج 24 : 7) لقد شاهدوا إعلان الشريعة بجلال رهيب وارتعبوا خوفا وهم في أسفل الجبل ، ولكن ما أن مرت أسابيع قليلة حتى نقضوا عهدهم مع الله وسجدوا لتمثال مسبوك . لم يكونوا يرجون الظفر برضى الله عن طريق العهد الذي تعدوه . و الآن ، و قد اكتشفوا شرهم و حاجتهم إلى الغفران ، أحسوا أخيرا بحاجتهم إلى مخلص معلن في عهد الله مع إبراهيم ومرموز إليه في تقدمات الذبائح . والآن فبالإيمان والمحبة كانوا مرتبطين بالله كمخلصهم من عبودية الخطية ، وأصبحوا مستعدين لتقدير بركات العهد الجديد . AA 325.3
إن شروط العهد القديم كانت : أطع فتحيا ، ( إن عملها إنسان يحيا بها ) (حزقيال 20 : 11 ، لاويين 18 : 5) ولكن ( ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها ) (تثنية 27 : 26) أما )العهد الجديد) فبني على )مواعيد أفضل) — الوعد بغفران الخطايا ونعمة الله لتجديد القلب وجعله في وفاق مع مبادئ شريعة الله ( هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام ، يقول الرب : أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم ... لأني أصفح عن إثمهم ، ولا أذكر خطيتهم بعد ) (إرميا 31 : 33 ، 34) . AA 325.4
إن نفس الشريعة التي كتبت على لوحي الحجر يكتبها الروح القدس على لوح القلب ، وبدلا من محاولتنا أن نثبت بر أنفسنا نقبل المسيح . إن دمه يكفر عن خطايانا وطاعته تقبل لأجلنا . وحينئذ فالقلب المتجدد بالروح القدس سيثمر )ثمر الروح) وبنعمة المسيح سنعيش مطيعين لشريعة الله المكتوبة على قلوبنا ، وإذ نحصل على روح المسيح سنسلك كما سلك . وقد أعلن هو عن نفسه بفم النبي قائلا : ( أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت ، وشريعتك في وسط أحشائي ) (مزمور 40 : 8) وإذ حل بين الناس قال : ( لم يتركني الآب وحدي ، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه ) (يوحنا 8 : 29) . AA 326.1
بولس الرسول إذ يبسط العلاقة بين الإيمان والناموس بوضوح في نور العهد الجديد يقول : ( فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح ) , ( أفنبطل الناموس بالإيمان ؟ حاشا ! بل نثبت الناموس (، ( لأنه ما كان الناموس عاجزا عنه ، في ما كان ضعيفا بالجسد ( — إذ لا يبرر الإنسان كونه في طبيعته الخاطئة ، عاجزا عن حفظ الناموس - ( فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ، ولأجل الخطية ، دان الخطية في الجسد ، لكي يتم حكم (بر) الناموس فينا ، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ) (رومية 5 : 1 ، 3 : 31 ، 8 : 3 ، 4). AA 326.2
إن عمل الله باق على الزمن لم يتغير ، مع وجود بعض اختلاف في درجات النمو ومظاهر مختلفة لقدرته لسد حاجات الناس في مختلف العصور . فإذ نبدأ من أول وعد من وعود الإنجيل ونسير خلال عصور الآباء والعصر اليهودي بل حتى إلى عهدنا الحاضر نجد الله يكشف مقاصده تدريجيا في تدبير الفداء . إن المخلص الذي كانت ترمز إليه فرائض الشريعة اليهودية وطقوسها هو نفسه المعلن لنا في الإنجيل . لقد انقشعت السحب التي كانت تحيط بصورته الإلهية واختفى الضباب والظلام . وهوذا يسوع فادي العالم يستعلن لنا ، فذاك الذي أعلن الشريعة في سيناء والذي سلم لموسى فرائض الناموس الطقسي هو نفسه الذي نطق بالموعظة على الجبل . إن المبادئ العظيمة ، مبادئ المحبة لله التي جعلها أساس الناموس والأنبياء ليست سوى تكرار لما خاطب به الشعب العبراني بواسطة موسى حين قال : ( اسمع يا إسرائيل : الرب إلهنا رب واحد . فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك) (تثنية 6 : 4 ، 5) ( تحب قريبك كنفسك . أنا الرب ) (لاويين 19 : 18) إن المعلم في كلا العصرين هو معلم واحد كما أن مطاليب الله واحدة ومبادئ مملكتة هي نفسها ، فكل شيء يصدر من ذاك ( الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران) (يعقوب 1 : 17) . AA 326.3
* * * * *