(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في لوقا ١٨: ٩-١٤).
نطق المسيح بمثل الفريسي والعشار في مسامع « قَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِينَ » (لوقا ١٨: ٩). الفريسي يصعد إلى الهيكل ليصلي لا لأنَّه يشعر بأنّه خاطئ يحتاج إلى الغفران، بل لأنَّه يظن نفسه بارا ويرجو بأن يظفر بالمديح. وهو يعتبر عبادته كعمل يستحق أجرا ويعطيه حظوة لدى الله. وهي في نفس الوقت تعطي للناس فكرة سامية عن تقواه. وهو يرجو أن يظفر برضى الله والإنسان معا. فالدافع الذي دفعه للصلاة هو مصلحته الذاتية. COLAr 136.1
إنّه مفعم القلب بمديح النفس؟ فنظراته ومشيته وصلاته تدل على ذلك. وإذ ينتحي ناحية بعيدا عن غيره. كأنما ليقول لكل منهم: « لاَ تَدْنُ مِنِّي لأَنِّي أَقْدَسُ مِنْكَ » (إِشَعْيَاء ٦٥: ٥) يقف ليصلي « فِي نَفْسِهِ » (لوقا ١٨: ١١). فإذ هو راض عن نفسه كل الرضى يظن أن الله والناس سيقدرونه بنفس ذلك الرضى. COLAr 136.2
وها هو يقول: « اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ ». وهو يحكم على أخلاقه لا على صفات الله القدوس، بل على أخلاق باقي الناس. عقله منصرف بعيدا عن الله إلى بني الإنسان. هذا هو السرّ في رضاه عن نفسه. COLAr 136.3
ثم يأخذ يعدّ حسناته فيقول: « أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ » إنّ ديانة الفريسي لا تمس النفس. إنّه لا يطلب التشبّه بالله في صفاته، ولا القلب العامر بالمحبة والرحمة. فهو قانع بديانة لها علاقة بالحياة الخارجية وحدها. فبره له وهو ثمر أعماله ويحكم عليه بمقياس بشري. COLAr 137.1
إنّ أيّ إنسان يثق، في نفسه، بأنه بار لابد أن يحتقر الآخرين. وكما أنّ الفريسي يحكم على نفسه بالقياس على باقي الناس، كذلك هو يحكم على باقي الناس بالقياس على نفسه. إنّ برّه يُقدّر ببرّ الناس، وكلما زاد شرهم كلما بدا هو باراً جدا بالمقـارنة بهم. وبرّه الذاتي يقوده ليدين « بَاقِي النَّاسِ » على أنهم متعدّون شريعة الله. وهكذا هو يكشف عن نفس روح الشيطان المشتكي على الأخوة. وبهذه الروح يستحيل عليه أن يكون في شركة مع الله. إنّه ينزل إلى بيته محروما من بركة الله. COLAr 137.2
أمّا العشار فقد ذهب إلى الهيكل مع باقي المصلين، ولكنه سرعان ما اعتزل عنهم إذ حسب نفسه غير أهل لأن يشترك معهم في عبادتهم. وإذ وقف من بعيد لم « يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ » في حزن مريرٍ واشمئزازٍ من نفسه. لقد أحسّ بأنّه قد عصى الله وأنه خاطئ ونجس. ولم يمكنه أن ينتظر حتى الشفقة ممن حوله لأنهم كانوا ينظرون إليه في ازدراء. وقد عرف أنه لا استحقاق فيه يعطيه الحظوة لدى الله، ففي يأسه الشديد من نفسه صرخ قائلا: « اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ ». إنّه لم يقارن نفسه بالآخرين. فإذ غمره الشعور بذنبه وقف كمن هو وحده في حضرة الله. وكان مطلبه الوحيد أن يحصل على الغفران والسلام، وكانت حجتـه الوحـيدة رحمة الله. وقد حصــل على البركــة. فقد قــال المســيح: « أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ ». COLAr 137.3
إنّ الفريسي والعشار يمثلان فريقين عظيمين من الناس ينقسم إليهما من يأتون ليعبدوا الله. والممثلان الأولان لهما هما الابنان الأولان اللذان ولدا في العالم. فلقد ظن قَايِين أنه بارُّ وقدم إلى الله تقدمة شكر فقط. لم يعترف بخطية ولا أعترف بحاجته إلى الرحمة. أما هَابِيل فقدّم الدم الذي يشير إلى حمل الله. لقد أتى كخاطئ مقرّا بأنّه هالك، وكان رجاؤه الوحيد هو محبة الله التي لا يستحقها. لقد نظر الرب إلى قربانه أما إلى قَايِين وقربانه فلم ينظــر. إنّ الإحســاس بالحاجــة والاعتراف بفقـرنا وخطيتنا هما نفـــس الشـرط الأول لقبولنا لدى الله، « طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ » (متى ٥: ٣). COLAr 138.1
ولكل من الفريقين الذين يرمز إليهما الفريسي والعشار يوجد درس في تاريخ بطرس الرسول. إنّ بطرس في بدء تلمذته ظن نفسه قويّا. ففي تقديره لنفسه كان كالفريسي « ليس كباقي الناس » وعندما أنذر المسيح تلاميذه في ليلة تسليمه قائلا: « كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ » أعلن بطرس قائلا بكل ثقة : « وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا » (مرقس ١٤: ٢٧، ٢٩). لم يكن بطرس عالما بخطره. لقد أضلته ثقته بنفسه. فقد ظن نفسه قادرا على الصمود للتجربة، ولكن في ساعات قليلة قصيرة جاء الامتحان فأنكر سيده بلعنٍ وقسم. COLAr 138.2
وعندما ذكّره صياح الديك بكلام المسـيح، وإذ فوجئ وصُدم من هول ما قد فعل التفت ناظرا إلى سيده. وفى تلك اللحظة التفت الرب إلى بطرس، وأمام تلك النظرة الحزينة التي امتزج فيها الحنان والحب له عرف بطرس نفسه. فخرج إلى خارج وبكى بكاء مرّا. فتلك النظرة التي وجهها المسيح إليه سحقت قلبه. لقد أتى بطرس إلى نقطة التحوّل وتغيير الاتجاه فتاب عن خطيته توبة مُرّة. كان كالعشار في انسحاقه وتوبته فوجد الرحمة كالعشار. إنّ نظرة المسيح قد أكّدت له الغفران. أما الآن فقد تركته ثقته بنفسه. وما عاد يكرر ادعاءاته المتفاخرة الأولى. COLAr 138.3
والمسيح بعدما قام امتحن بطرس ثلاث مرات قائلا: « يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟ » لم يمجد بطرس نفسه فوق إخوته. بل لجأ إلى ذاك الذي يعرف خفيات القلوب قائلا: « يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ » (يوحنا ٢١: ١٥، ١٧). COLAr 139.1
وحينئذ تلقى منه التفويض. فقد تعين عليه عمل أوسع وأدق من كل ما كُلّف به من قبل. فلقد أمره المسيح بأن يرعى الغنم والخراف. إنّ المسيح إذ اسند إلى وكالته النفوس التي لأجلها وضع المُخَلِّص حياتَه فقد قدم لبطرس أنصع برهان للثقة بتجديده. فذلك التلميذ الذي كان قبلا قلقا وفخورا وواثقا من نفسه صار الآن خاضعا ومنسحقا. ومن ذلك الحين تبع سيده في طريق إنكار الذات والتضحية. لقد صار شريكا للمسـيح في آلامه، وعندما يجلس المسيح على عرش مجده سيكون بطرس شريكا له في أمجاده. COLAr 139.2
إنّ الشرّ الذي أدى إلى سقوط بطرس والذي منع الفريسي من الشركة مع الله هو السبب في تدمير حياة آلاف من الناس في هذه الأيام. لا شيء كريه في نظر الله أو خطر على نفس الإنسان كالكبرياء والاكتفاء بالذات. هذه هي أعظم الخطايا الجالبة لليأس والتي لا أمل في الشفاء منها COLAr 139.3
إنّ سقوط بطرس لم يكن أمرا فجائيا بل تدريجيا. وإنّ ثقته بنفسه قادته إلى الاعتقاد أنه مُخلّص ثم انحدر خطوة فخطوة في طريق السقوط حتى أنكر سيده. لا يمكننا أبدا أن نأمن على نفوسنا حين نثق بذواتنا أو نحسّ ونحن في هذا العالم بأننا بمأمن من التجربة. أولئك الذين يقبلون المُخَلِّص مهما يكونوا مخلصين في تجديدهم ينبغي أن لا يتعلموا أن يقولوا ويحسوا بأنهم مخلصون. فهذا تضليل. ينبغي لكل واحد أن يتعلم أن يحتضن الرجاء والإيمـان، ولكن حتى عندما نسلم ذواتنا للمسيح ونعلم بأنّه قد قبلنا فإننا لا نكون بعيدين عن متناول التجـربة. إنّ كلمة الله تعلن قائلة: « كَثِيرُونَ يَتَطَهَّرُونَ وَيُبَيَّضُونَ وَيُمَحَّصُونَ » (دانيال ١٢: ١٠) ولكن فقط الذي يتحمل التجربة ينال إكليل الحياة. (يعقوب ١: ١٢). COLAr 140.1
إنّ من يقبلون المسيح وعند بدء ثقتهم يقولون: « أنا مُخلَّص » هم في خطر من أن يثقوا بذواتهم. فيغيب عن أنظارهم ضعفهم وحاجتهم المستمرة للقوة الإلهية. إنّهم غير متأهبين لمواجهة مكايد الشيطان، وتحت ضغط التجربة كثيرون يسقطون إلى أعماق الخطية كبطرس. إنّ الرب ينذرنا قائلا: « مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ » (١كورنثوس ١٠: ١٢). إنّ سلامتنا الوحيدة هي في عدم الإركان الدائم إلى الذات، بل الاعتماد على المسيح. COLAr 140.2
كان من اللازم لبطرس أن يتعلم عن النقائص التي في خلقه وحاجته إلى قوة المسيح ونعمته. لم يمكن للرب أن ينقذه من التجربة، ولكنه كان يستطيع أن ينقذه من الهزيمة. ولو كان بطرس مستعدا لقبول إنذار المسيح لكان يسهر ويصلي. ولكان يسلك بخوف ورعدة لئلا تعثر قدماه. وكان يمكنه أن يحصل على العون الإلهي بحيث ما كان يمكن للشيطان أن ينتصر عليه. COLAr 140.3
لقد سقط بطرس بسبب اكتفائه الذاتي، وعن طريق التوبة والاتضاع تثّبتت قدماه ثانية. وفى تاريخ اختبار بطرس يمكن لكل تائب أن يتشجع. ومع أنّ بطرس أخطأ خطية شنيعة فإن الرب لم يتخلَّ عنه. لقد نقشت أقوال المسيح في أعماق نفسه حين قال له: « لكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ » (لوقا ٢٢: ٣٢). ففي حزنه وندامته المريرة منحته هذه الصلاة وذكرى نظرة المحبة والإشــفاق التي وجـهــها إليه المســيح، رجاءً. هذا، والمسـيح بعد قيامته ذكر بطـرس وأعطى للمـلاك رســالة ليبلغها للنسـاء قـائـلا: « اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ » (مرقس ١٦: ٧). لقد قبل المُخَلِّص غافر الخطايا توبة بطرس. COLAr 140.4
ونفس ذلك الحنان الذي تطاول لإنقاذ بطرس يمتدّ لكل نفس سقطت تحت التجربة. إنّ الشيطان يستخدم مكيدته الخاصة في تضليل الإنسان ليسقط في الخطية ومن ثَمّ يتركه عاجزا ومرتعبا وهو يخشى من أن يطلب الغفران. ولكن لماذا نخاف في حين أنّ الرب قد قال: « يَتَمَسَّكُ بِحِصْنِي فَيَصْنَعُ صُلْحًا مَعِي. صُلْحًا يَصْنَعُ مَعِي؟ » (إِشَعْيَاء ٢٧: ٥). لقد أُعِدَّت كل العدة لمواجهة كل ضعفاتنا، وكل تشجيع مقدم لنا لنقبل إلى المسيح. COLAr 141.1
قدم المسيح جسده المكسور ليفتدي ميراث الرب ليقدم للإنسان فرصة أخرى « فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ » (عبرانيين ٧: ٢٥). إنّ المسيح بحياته التي بلا عيب وطاعته وموته على صليب الجلجثة توسّط لأجل جنسنا الساقط. والآن فإنّ رئيس خلاصنا لا يتوسط لأجلنا كمن يلتمس العفو بل كغالب يطالب بانتصاره. إنّ ذبيحته كاملة وكوسيط لأجلنا ينفّذ عمله الذي قد عينه لنفسه مقدما أمام الله المجمرة وبها استحقاقاتِه النقية وصلوات شعبه واعترافاتهم وتشكراتهم. فهذه إذ تكون معطرة بعطر برّه تصعد إلى الله كرائحة زكية. والذبيحة تـُقبَل قبولا كاملا فيعطي الغفـران لكلّ معصية. COLAr 141.2
لقد قدم المسيح نفسه بديلا عنا وضامنا لنا. وهو لا يهمل أحدا. فذاك الذي لم يحتمل أن يرى بني الإنسان مهددين بالهلاك الأبدي دون أن يسكب للموت نفسه لأجلهم، ينظر بالرأفة والرحمة إلى كل إنسان يدرك عجزه عن تخليص نفسه. COLAr 142.1
وهو لا ينظر إلى أي متوسل مرتعد دون أن يقيمه. فذاك الذي بواسطة كفّارته اعدّ للإنسان ذخيرة لا تنفد من القوة الأدبية لا يخفق في استخدام هذه القوة لصالحنا. فيمكننا أن نأتي بخطايانا وأحزاننا ونطرحها عند قدميه لأنَّه يحبنا. فكل نظرة من نظراته وكل كلمة من كلامه تدعونا لأن نثق به. وهو سيشكل أخلاقنا ويصوغها حسب إرادته. COLAr 142.2
إنّ كل قوى الشيطان لا تستطيع أن تنتصر على نفس واحدة تلقي بذاتها على المسيح في ثقة خالصة. « يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً، وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً» (إِشَعْيَاء ٤٠: ٢٩). COLAr 142.3
« إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم ». والــرب يقــول « اِعْرِفِي فَقَطْ إِثْمَكِ أَنَّكِ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكِ أَذْنَبْتِ » « وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِرًا فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ » (١يوحنا١: ٩، إِرْمِيَا ٣: ١٣، حِزْقِيَال ٣٦: ٢٥). COLAr 143.1
ولكن ينبغي أن تكون لنا معرفة بذواتنا، معرفة ينتج عنها الانسحاق قبلما يمكننا الحصول على الغفران والسلام. إنّ الفريسي لم يحسّ بتبكيت على الخطية. ولم يستطع الرُّوح الْقُدُس أن يعمل معه. فلقد كانت نفسه محصنة في سلاح البرّ الذاتي فلم يمكن لسهام الله المسنونة والمصوبة تصويبا حسنا بيد الملاك أن تخترقه. إنّ المسيح لا يخلّص إلا الإنسان الذي يعرف نفسه أنّه خاطئ. قال: أتيت « لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية » (لوقا ٤: ١٨). ولكن: « لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ » (لوقا ٥: ٣١). فينبغي لنا أن نعرف حالتنا على حقيقتها وإلاّ فلن نحسّ بحاجتنا إلى معونة المسيح ويجب أن ندرك خطرنا وإلاّ فلن نهرب إلى الملجأ. ويجب أن نشعر بالآلام الناشئة عن جروحنا وإلاّ فلن نطلب الشفاء. COLAr 143.2
يقول الرب: « لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ. أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْل لِكَيْ تُبْصِرَ » (رؤيا ٣: ١٧، ١٨). إنّ الذهب المصفّى بالنار هو الإيمان العامل بالمحبة. هذا هو وحده الذي يستطيع أن يجعلنا في حالة انسجام مع الله. قد نكون نشيطين وقد نقوم بعمل كثير ولكن بدون أن تكون في قلوبنا محبة كالمحبة التي سكنت في قلب المسيح فلن يمكن أن نُحصَى ضمن أسرة السماء. COLAr 143.3
ولن يمكن لإنسان من ذاته أن يدرك أخطاءه: « اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟ » (إِرْمِيَا ١٧: ٩). يمكن للشفتين أن تعبرا عن فقر النفس، ولكن القلب لا يعترف بذلك. وفى حين يحادث الإنسان الله معبرا عن فقر روحه قد يكون القلب منتفخا بغرور وداعته الفائقة وبره السامي. ولكن يمكن الحصول على معرفة حقيقية للنفس بطريقة واحدة. ينبغي أن نرى المسيح. إنّ جهل الناس للمسيح هو الذي يجعلهم ينتفخون ببرّهم. فعندما نتأمل في طهارته وتفوقه نرى ضعفنا وفقرنا ونقائصنا كما هي في حقيقتها، نرى أنفسنا هالكين وعاجزين ولابسين أسمال البرّ الذاتي كأي خاطئ آخر. نرى انه إذا كنا سنخلص فلن يكون ذلك عن طريق صلاحنا بل عن طريق نعمة الله غير المحدودة. COLAr 144.1
لقد سُمعت صلاة العشار لأنها برهنت على اتكال مُدَّ ليمسك بالقدرة الإلهية. فالذات في اعتبار العشار لم تكن أكثر من عار. وهكذا يجب أن تكون في نظر كل من يطلبون الله. فبواسطة الإيمان — الإيمان الذي ينبذ كل ثقة بالذات — على المصلّي المحتاج أن يمسك بالقدرة غير المحدودة. COLAr 144.2
لا يمكن لأي ممارسة خارجية أن يُستعاض بها عن الإيمان البسيط وإنكار الذات إنكارا كاملا. ولا يستطيع أي إنسان أن يُخلي ذاته بنفسه. ولا يمكننا أن نقبل من غير المسيح أن يتمّم العمل. وحينئذ تكون لغة النفس هكذا: خلّصني بالرغم من ذاتي، ذاتي الضعيفة التي ليست كالمسيح يا رب امتلك قلبي إذ لا يمكنني أن أعطيه لك. إنّه ملكك. احفظه طاهرا لأنّي لا أستطيع أن أحفظه لك. صغني وشكّلني ارفعني إلى جوّ نقيّ ومقدس حيث يمكن لنهر محبتك الغنية أن يفيض في نفسي. COLAr 144.3
إنّ نبذ الذات هكذا لا يتمّ فقط عند بدء الحياة المسيحية. بل لا بد من تجديد هذا الإنكار عند كل خطوة تقدمية نخطوها في طريق السماء. إنّ كل أعمالنا الصالحة تستند إلى قوة خارجة عن أنفسنا، فلهذا يجب أن يصبو القلب إلى الله على الدوام، مع اعتراف مستمرّ بالخطية من قلب منسحق واتضاع النفس وتذللها أمام الله، فبواسطة نبذ الذات والاعتماد الدائم على المسيح، يمكننا بذلك وحده أن نسير آمنين. COLAr 144.4
كلما زدنا قربا من يسوع وكلما شاهدنا جليا طهارة صفاته، كلما أدركنا بوضوح أكثر شر الخطية العظيم وكلما قل اهتمامنا بتمجيد ذواتنا. إنّ أولئك الذين تعترف السماء بأنهم قديسون هم آخر من يباهون بصلاحهم. لقد صار بطرس الرسول خادما أمينا للمسيح، فأكرمه الرب بنور وقوة إلهيين. وقام بطرس بدور نشيط كبير في بناء كنيسة المسيح، ولكنه لم ينس قط اختبار إذلاله المخيف. لقد غُفرت خطيته، ولكنه عرف جيدا أنه لم يمكن لغير نعمة المسيح أن تنهضه من سقوطه الذي جاء نتيجة لضعف خلقه. إنّه لم يجد في نفسه شيئا يدعو إلى الفخر. COLAr 145.1
إنّه ولا واحد من الرسل أو الأنبياء ادّعى العصمة من الخطية. والناس الذين عاشوا أقرب من غيرهم إلى الله، والذين كانوا على أتم استعداد للتضحية بالحياة نفسها حتى لا يرتكبوا خطأ واحد عن علم أو عمد، والذين قد أكرمهم الله بنور وقوة إلهيين — هؤلاء اعترفوا بشرّ طبيعتهم. إنّهم لم يتكلوا على الجسد ولا ادعوا لأنفسهم برّا ولكنهم اتكلوا بالتمام على برّ المسيح. وهكذا تكون الحال مع من يشاهدون المسيح. COLAr 145.2
إنّ توبتنا ستتعمق في كل خطوة من خطوات تقدمنا في الاختبار المسـيحي. فالـذين غفر لهم الرب، والـذين يعـترف بأنـّهم شـعــبه يقـول لهـم: « فتذكرون طرقكم الرديئة وأعمالكم غير الصالحة وتمقتون أنفسكم أمام وجوهكم » (حِزْقِيَال ٣٦: ٣١). ثم يقول أيضا: « وَأَنَا أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكِ، فَتَعْلَمِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، لِكَيْ تَتَذَكَّرِي فَتَخْزَيْ وَلاَ تَفْتَحِي فَاكِ بَعْدُ بِسَبَبِ خِزْيِكِ، حِينَ أَغْفِرُ لَكِ كُلَّ مَا فَعَلْتِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ » (حِزْقِيَال ١٦: ٦٢، ٦٣). وحينئذ لن تنفرج شفاهنا عن أقوال التمجيد لذواتنا. وسنعلم أن كفايتنا هي في المسيح وحده. وسنعترف بما قد اعترف به الرسول عندما قال: « فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ (أي في جسدي) شَيْءٌ صَالِحٌ » (رومية ٧: ١٨). « حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ » (غلاطية ٦: ١٤). COLAr 145.3
وعلى وفاق هذا الاختبار يأتي هذا الأمر: « تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ » (فيلبي ٢: ١٢ ،١٣). إنّ الله لا يأمركم بأن تخافوا لئلا يخفق هو في إنجاز وعوده أو أنّ صبره سيكلّ أو أنّ رحمته ستوجد ناقصة. بل خافوا لئلا تأبى أرادتكم الخضوع لإرادة المسيح، ولئلا تتحكم أخلاقكم الموروثة والمكتسبة فتسيطر على حياتكم: « لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ » خف لئلا تتدخل الذات بين نفسك وبين السيد العامل الأعظم. وخف لئلا يفسد عنادك المقصد الأسمى الذي يريد الله أن يتممه بواسطتك. خف من الوثوق بقوتك، وخف من أن تسحب يدك من يد المسيح وتحاول أن تسير في طريق الحياة بدون حضوره الدائم معك. COLAr 146.1
إننا نحتاج إلى أن نتحاشى كل ما يشجع الكبرياء والاكتفاء بالذات، ولذلك يجب أن نحذر مدح الناس أو تملّقهم أو قبول شيء من ذلك لأنفسنا. التملق من أعمال الشيطان. إنّه يتعامل في التملق كما في الشكوى والدينونة. وبهذه الكيفية يحاول إهلاك النفس. إنّ من يمتدحون الآخرين يستخدمهم الشيطان أعوانا له ليوجه خدام المسيح كلّ كلمة مديح بعيدا عن أنفسهم. لنبعد الذات بحيث لا نراها. وليتمجد المسيح وحده. لتتجه كل عين وليرتفع التسبيح من كل لسان إلى ذاك الذي « أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ » (رؤيا ١: ٥). COLAr 146.2
إنّ الحياة التي يحياها الإنسان في خوف الله لن تكون حياة حزن أو غم. ولكن عدم وجود المسيح هو الذي يجعل الوجه حزينا والحياة سياحة كلها آهات وتنهدات. إنّ من يملأ قلوبهم الاعتداد بالذات ومحبة الذات لا يحسون بحاجتهم إلى الاتحاد بالمسيح اتحادا حيا وشخصيا. إن القلب الذي لم يسقط على الصخرة يفخر بكماله. فالناس يريدون ديانة وجيهة. يريدون أن يسيروا في طريق رحب بالكفاية بحيث يتسع لصفاتهم. إن حبهم لذواتهم وحبهم للشهرة وحبهم للمديح يطرد المُخَلِّص من قلوبهم، وبدونه توجد الكآبة والحزن. ولكن إذ يسكن المسيح في النفس ينبثق منها ينبوع الفرح. فلكل الذين يقبلونه تكون نفس النغمة الرئيسية في كلمة الله هي الفرح. COLAr 147.1
« لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأَبَدِ، الْقُدُّوسُ اسْمُهُ. فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ » (إِشَعْيَاء ٥٧: ١٥). COLAr 147.2
إنّ موسى عندما أُخِفيَ في شق الصخرة رأى مجد الله. وعندما نختبئ نحن في الصخرة المشقوقة يغطينا المسيح بيده المثقوبة فنسمع ما يقول الرب لعبيده. والله سيعلن نفسه لنا كما لموسى على أنه « رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ. حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ » (خروج ٣٤: ٦، ٧). COLAr 147.3
إنّ عمل الفداء ينطوي على نتائج يصعب على الإنسان أن يدركها. « مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ » (١كورنثوس ٢: ٩). فالخاطئ إذ تجتذبه قوة المسيح وإذ يقترب إلى الصلـيب المرفوع وينطرح أمــامه تكون هناك خليقة جــديدة. فيُعطَى له قلب جديد ويصير خليقة جديدة في المسيح يسوع. والقداسة تجد انّه لا يوجد لديها مطلب آخر. والله نفسه هو الذي: « يُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ » (رومية ٣: ٢٦). « وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا » (رومية ٨: ٣٠). ومع عظمة العار والانحطاط الذين أحدثتهما الخطية فإنّ الكرامة والمجد اللذين تحققهما المحبة الفادية هما أعظم. والناس الذين يجاهدون ليكونوا مماثلين لصورة الله مذخور لهم مؤونة عظيمة من كنز السـماء وقوة فائقـة سـامية ترفعـهم إلى درجه أسمى حتى من الملائكة الذين لم يخطئوا. COLAr 147.4
« هكَذَا قَالَ الرَّبُّ … لِلْمُهَانِ النَّفْسِ، لِمَكْرُوهِ الأُمَّةِ … يَنْظُرُ مُلُوكٌ فَيَقُومُونَ. رُؤَسَاءُ فَيَسْجُدُونَ. لأَجْلِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ أَمِينٌ، وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي قَدِ اخْتَارَكَ » (إِشَعْيَاء ٤٩: ٧). COLAr 148.1
« لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ » (لوقا ١٨: ١٤). COLAr 148.2