إنّ يسوع إذ كان يعلم الشعب جعل تعاليمه ملذّةً واسترعى انتباه سامعيه بكثير من الأمثلة والشروح من مشاهد الطبيعة التي حوله. لقد اجتمع الشعب معا حين كان الوقت صباحاً. فإذ ارتفعت الشمس المجيدة إلى أعلى وأعلى في السماء الزرقاء كانت تطارد الظلمات التي اختبأت في الأودية وبين الشعاب الضيقة في الجبال. ولم يكن مجدُ ونوُر السَّمَاوَات في بلاد الشرق قد خبا بعد. فقد غمر نور الشمس الأرض ببهائه، وقد عكس سطح البحيرة الهادئ ذلك النور الذهبي فسطع على سحب الصباح وصبغها باللون الوردي. وكل برعمة وزهرة وغصن مورق التمعت عليه قطرات الندى. ولقد ابتسمت الطبيعة منحنية تحت بَرَكة يوم جديد وأنشدت الأطيار أغاريدها العذبة بين الأشجار. نظر المُخَلِّص إلى الجمع الذي أمامه ثم إلى الشمس المشرقة وقال لتلاميذه: « أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ » فكما تذهب الشمس لتقوم بخدمتها، خدمة المحبة، طاردةً ظلماتِ الليل وموقظةً العالم للحياة كذلك يجب على تابعي المسيح أن يخرجوا في خدمتهم ناشرين نور السماء على من يعيشون في ظلمة الضلال والخطية. ArMB 19.2
وفى نور الصباح الباهر وقفت المدن والقرى على التلال المجاورة بوضوح فأكسبت المشهد هيئة جذابة. وإذ أشار يسوع إليها قال: « لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل ». ثم أردف يقول « وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ » (متى 5: 14، 15). إنّ معظم الذين كانوا يستمعون لأقوال يسوع كانوا فلاحين أو صيادي سمك ممّن كانت مساكنهم الوضيعة تتكوّن من غرفة واحدة بها سراج واحد على المنارة يضيء لكل الذين في البيت. قال يسوع: « فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ » (متى 5: 16). ArMB 19.3
لا يوجد نور آخر أشرق أو سيشرق على الإنسان الخاطئ إلاّ ذلك النور المنبثق من المسيح. فيسوع المُخَلِّص هو النور الوحيد الذي يمكن أن ينير ظلمة العالم الذي وضع في الخطية. لقد جاء عن المسيح: « فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ » (يوحنا 1: 4). فإذ أخذ التلاميذ من حياته أمكنهم أن يصيروا حاملي النور. إنّ حياة المسيح في النفس ومحبته الظاهرة في الخلُق جعلتهم نوراً للعالم. ArMB 20.1
إنّ البشرية لا يوجد في ذاتها نور. فبدون المسيح نحن نشبه شمعة مطفأة، وكالقمر عندما يحول وجهه بعيداً عن الشمس، لا توجد فينا شعاعة واحدة من النور نلقيها على ظلمة العالم. ولكن إذ نتجه إلى شمس البرّ. ونتصل بالمسيح فالنفس كلها تستنير ببهاء نور الحضور الإلهي. ArMB 20.2
يجب على اتباع المسيح أن يكونوا أكثر من نور في وسط الناس. فهو نور العالم. يقول يسوع لكل من يُسمّون اسمه: لقد سلّمتم أنفسكم لي وأنا أعطيتكم للعالم نوابا عنّي. وكما أرسله الآب إلى العالم يقول هو: « أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ » (يوحنا 17: 18). وكما أنّ المسيح هو القناة لإعلان الآب كذلك يجب أن نكون نحن قناة أو واسطة إعلان المسيح. وفى حين أن مخلصنا هو مصدر النور العظيم فلا تنس أيها المسيحي أنه يعلن عن طريق البشر. فبركات الله تُوزّع بوسائل بشرية. لقد أتى المسيح نفسه إلى العالم كابن الإنسان. فينبغي أنّ الطبيعة البشرية، متحدة بطبيعة اللاهوت، تلامس البشرية. إنّ كنيسة المسيح، كل فرد من تلاميذ المسيح، هو المجرى الذي عينته السماء لإعلان الله للناس. وملائكة المجد ينتظرون ليوصلوا عن طريقكم نور السماء وقوّتَها للنفوس الموشكة على الهــلاك. فهل يخفق العامـل البشرى في إتمام العمل الموكل إليه؟ آه، إلى هذه الدرجة يُسلَب العالم من قوة الرُّوح الْقُدُس الموعود بها! ArMB 20.3
ولكن يسوع لم يأمر تلاميذه قائلا: « جاهدوا لتجعلوا نوركم يضيء » بل قال: « ليُضِئْ ». فان كان المسيح يسكن في القلب فمن المستحيل إخفاء نور حضوره. وان لم يكن المعترفون بأنّهم اتباع المسيح نوراً للعالم فالسبب هو أنّ القوة الحيوية قد تركتهم، وإنْ لم يكن عندهم نور ليعطوه فسببُ ذلك عدمُ وجود صلة بينهم وبين نبع النور. ArMB 20.4
في كل العصور نجد أنّ « رُوح الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ» (1 بطرس 1: 11). جعل أولاد الله الحقيقيين نورا للشعب الذي عاش في جيلهم. لقد كان يوسف حاملا للنور في مصر. ففي طهارته وإحسانه ومحبته البنوية مثـَّل المسيح وكان رمزا له في وسط أمّة وثنية. وحين كان بنو إسرائيل راحلين من مصر إلى ارض الموعد كان المستقيمو القلوب بينهم نورا للأمم المجاورة. وقد أعلن الله للعالم عن طريقهم. وأضاء نورٌ باهرٌ من دانيال ورفاقه في بابل ومن مردخاي في بلاد فارس في وسط ظلمة البلاط الملكي. وكذلك تلاميذ المسيح قد أقيموا كحاملي نور في الطريق إلى السماء، فعن طريقهم تُعلن رحمة الآب وصلاحه لعالم مكفن بظلام سوء فهم الناس لله. والناس الآخرون إذ يرون أعمالهم الحسنة يمجدون الآب الذي في السَّمَاوَات، إذ يتضح وجود إله على عرش الكون صفاته تستحق التمجيد والتمثل بها. فمحبة الله التي تنير القلب وتلهبه والانسجام المسيحي في الحياة يشبهان قبسا من السماء معطى لأهل العالم ليقدروا مجدها وبهاءها. ArMB 20.5
وهكذا يحدث أنّ الناس يؤمنون « بالْمَحَبَّة الَّتِي للهِ فِينَا» (1 يوحنا 4: 16). وهكـذا تتطـهر وتتغــير القلـوب التي كانت قبلا خاطئة وفاسـدة، لتوقف « أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي الابْتِهَاجِ » (يهوذا 24). ArMB 21.1
إنّ قول المُخَلِّص: « أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ » يشير إلى حقيقة كونه قد سلم لأتباعه خدمة تشمل العالم. في عهد المسيح كانت الأنانية والكبرياء والتعصّب قد أقامت حائط السياج قويا وعاليا بين من قد أقيموا حراسا على الأقوال الإلهية المقدسة وبين كل أمة أخرى على سطح الأرض. ولكن المُخَلِّص قد جاء ليغيّر وينقض كل هذا. فالأقوال التي كان الناس يسمعونها من فمه كانت تخالف كل المخالفة كل ما سمعوه من كاهن أو معلم. فالمسيح ينقض حائط السياج، سياج محبة الذات والتعصّب القومي الفاصل، ويعلّم الناسَ المحبةَ لكل الأسرة البشرية. وهو يرفع الناس من الدائرة الضيقة التي تفرضها إثرتهم، ويُلغي كل الحدود الإقليمية وامتيازات المجتمع الزائفة. وهو لا يجعل فرقا بين الأقوياء والغرباء أو بين الأصدقاء والأعداء. وهو يعلمنا أن ننظر إلى كل إنسان محتاج على أنّه قريبنا والى العالم على أنّه حقلنا وميدان عملنا. ArMB 21.2
فكما تتغلغل أشعة الشمس إلى أبعد أركان الأرض كذلك يقصد الله أن يمتد نور الإنجيل إلى كل نفس على الأرض. فإذا تمّمت كنيسة المسيح غـرض ربنا فإنّ النـور يضـيء على كــل الجالســـين في الظلمـة ووادي ظـلال الموت. وبدلا من أن يجتمع أعضاء الكنيسة معا وينفّضوا أيديهم من كل مسؤولية وحمل الصليب يمكنهم أن ينتشروا في كل بقاع الأرض وكل البلدان جاعلين نور المسيح يضيء منهم، ويعملون كما عمل هو لأجل خلاص النفوس، فكانت « بِشَـارَةُ المَلَكُـوتِ » هذه تنتشر بسـرعة إلى كل أنحاء العالم. ArMB 21.3
وهكـذا يحــــدث أنّ غـــرض الله في دعـــوته لشـــعبه من إِبْرَاهِيم وهو في سهــول مـا بين النهــرين إلينــا في هذا العصــر يتمّ ويتحقـق. فهـو يقــول: « وَأُبَارِكَكَ ... وَتَكُونَ بَرَكَةً» (تكوين 12: 2). إنّ أقوال المسيح على فم النبي الإنجيلي التي تجد لها صدى في الموعظة على الجبل هي لأجلنا في هذا العصر الأخير. فيقول إِشَعْيَاء: « قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ » (إِشَعْيَاء 60: 1). فإن كان مجد الرب قد أشرق على روحـك، وإذا شـاهدت جمــال ذاك الذي هو « مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ » والذي « كُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ » (نَشِيدُ الأَنْشَادِ 5: 10، 16). وصارت نفسه متألقة في محضر مجده فإليك قد أُرسِلَت كلمة السيد هذه. هل وقفت مع المسيح على جبل التجلّي؟ إن في أسفل الجبل في السهل توجد نفوس استعبدها الشيطان، وهم ينتظرون أن تطلقهم كلمة الإيمان والصلاة أحراراً. ArMB 21.4
يجب أن لا نكتفي بالتأمل في مجد المسيح، بل علينا أيضاً أن نخبر بفضائله. فإِشَعْيَاء لم يقف عند حدّ مشاهدة مجد المسيح ولكنّه أيضاً تكلم عنه. إنّ داود وهو مستغرق في التأمل اشتعلت النار وحينئذ تكلّم بلسانه. فإذ كان متأمّلا بمحبة الله العجيبة لم يمكنه إلاّ أن يتكلم عمّا رآه وأحسّ به، من ذا الذي يستطيع أن يرى بالإيمان تدبير الفداء العجيب ومجد ابن الله الوحيد ولا يتحدث عنه؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يتأمل في المحبة التي لا يُسبرُ غورَها والتي ظهرت وأُعلِنت على صليب جلجثة بموت المسيح لكي لا نهلك بل تكون لنا الحياة الأبدية ـ من يستطع أن يرى هذا ولا يجد كلاما به يسبّح مجد المُخَلِّص ويتغنّى به؟ ArMB 21.5
« فِي هَيْكَلِهِ الْكُلُّ قَائِلٌ: مَجْدٌ ». إن مرنم إسرائيل الحلو قد سبحه على قيثارته قائلا: « بِجَلاَلِ مَجْدِ حَمْدِكَ وَأُمُورِ عَجَائِبِكَ أَلْهَجُ. بِقُوَّةِ مَخَاوِفِكَ يَنْطِقُونَ، وَبِعَظَمَتِكَ أُحَدِّثُ » (مزمور 29: 9؛ 145: 5، 6). ArMB 22.1
يجب أن يُرفع صليب جلجثة عاليا فوق الشعب شاغلا عقولهم ومركّزا أفكارَهم. وحينئذ تكتسب كلّ الملكات الروحية قوة إلهية من الله مباشرة. وحينئذ يكون هناك تركيز للقوى في عمل حقيقي للسيد. وسيرسل الخدام إلى العالم أشعة النور كعوامل حيّة لإنارة الأرض. ArMB 22.2
بكل رقة ولطف يقبل المسيح كل عامل بشري يخضع ويسلم له. إنّه يوحد بين ما هو بشري وما هو إلهي حتى يمكنه أن يوصل إلى العالم أسرار المحبة المتجسّدة. فتحدثوا بها وصلوا بها وتغنوا بها، وأعلنوا على الملأ رسالة مجده وسيروا قدما إلى الأمام إلى مواطن الخلد. ArMB 22.3
إنّ التجارب متى احتملنـاها بصبر، والبركات إذا تناولنـاها بشكر، وتجارب الشيطان متى قاومناها بشجاعة، والوداعة والرفق والرحمة والمحبة إذا اعتدنا إعلانها هي الأنوار التي تتألق في الخلُق على نقيض ظلمـة القلـب الأنـاني الذي لم تشرق فيه قطُّ شعاعة من نور الحياة. ArMB 22.4