إنّ المسيح هو الذي أعلن الشريعة وأذاعها من فوق جبل سيناء من وسط الرعد والنار. وقد استقرّ مجد الله على قمة الجبل كنار آكلة وارتجف الجبل من حضرة الرب. وإذ انطرحت جموع إسرائيل على الأرض استمعوا بخوف إلى وصايا الشريعة المقدسة. ولكن كم كان الفرق شاسعا بين ذلك المنظر والمنظر الآخر الذي شوهد فوق جبل التطويبات! إذ تحت سماء الصيف حين لم يكن ما يشوش السكون غير غناء الطيور أفضى يسوع بمبادئ ملكوته. ومع ذلك فان من كان يكلّم الشعب في ذلك اليوم بكلام المحبة كان يكشف لهم عن مبادئ الشريعة التي أُذيعت على جبل سيناء. ArMB 23.1
عندما أُعطيت الشريعة فإنّ العبرانيين إذ كانوا قد انحطّوا من طول عبوديتهم في مصر كان يجب أن يقتنعوا بقدرة الله وجلاله. ومع ذلك فقد أعلن نفسه لهم كإله المحبة كذلك: ArMB 23.2
« جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ ArMB 23.3
وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ ArMB 23.4
وَتَلأْلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ ArMB 23.5
وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ الْقُدْسِ ArMB 23.6
وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ ArMB 23.7
فَأَحَبَّ الشَّعْبَ ArMB 23.8
جَمِيعُ قِدِّيسِيهِ فِي يَدِكَ ArMB 23.9
وَهُمْ جَالِسُونَ عِنْدَ قَدَمِكَ ArMB 23.10
يَتَقَبَّلُونَ مِنْ أَقْوَالِكَ» ArMB 23.11
(تثنية 33: 2، 3) ArMB 23.12
لقد أعلن الله مجده لموسى في تلك الأقوال العجيبة التي كانت هي الكنز الذي توارثته الأجيال: « الرَّبُّ إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ. 7 حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ » (خروج 34: 6، 7). ArMB 23.13
كانت الشريعة المعطاة على جبل سيناء إعلانا لمبدأ المحبة، وإعلانا للأرض عن شريعة السماء. لقد رسمت على يد وسيط - نطق بها ذاك الذي كان يمكن لقوته أن تجعل قلوب الناس في حالة توافق مع مبادئها. وقد أعلن الله غاية الشريعة عندما أعلن قائلا للعبرانيين: « تَكُونُونَ لِي أُنَاسًا مُقَدَّسِينَ » (خروج 22: 31). ArMB 23.14
ولكن بني إسرائيل لم يدركوا طبيعة الشريعة الروحية، وفى أغلب الأحيان كان اعترافهم بالطاعة مجرّد حفظ فرائض وطقوس وليس تسليم القلب لسلطان المحبة. وعندما صوّر يسوع، في صفاته وعمله للناس، صفات الله القدوسة المحسنة الأبوية وأبان لهم تفاهة الطاعة الطقسية المجرّدة لم يقبل رؤساء اليهود أقواله ولا فهموها. وظنّوا أنّه لم يتكلّم إلاّ قليلا جدا عن مطاليب الشريعة. وعندما بسط أمامهم نفس الحقائق التي كانت روح خدمتهم المعّينة من الله، فإذ كانوا ينظرون إلى ما هو سطحي فقط اتهموه بمحاولة هدمها. ArMB 24.1
إنّ أقوال المسيح وإن يكن قد نطق بها بهدوء فقد تكلّم بها بغيرة وقوة أثارت قلوب الشعب وأيقظتها. لقد أصغوا إلى تقاليد المعلّمين وفرائضهم العديمة الحياة ولكن عبثا. فقد بهتوا « مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ » (متى 7: 29). ولاحظ الفريسيون الفرق الشاسع بين طريقتهم في التعليم وطريقة المسيح. وقد رأوا أنّ جلال الحق وطهارته وجماله بتأثيره العميق اللطيف قد سيطر على عقول كثيرة. إنّ محبة المُخَلِّص ورقته الإلهية اجتذبتا إليه قلوب الناس. ورأى المعلمون أنه بسبب تعليمه صار مضمون كل التعليم الذي قدموه للشعب عديم القيمة وكالعدم. لقد كان ينقض حائط السياج الذي ظل طويلا يتملق كبرياءهم وانطواءهم، وباتوا يخشون انّه لو تُرك وشأنُه فسيجتذبُ الشعبَ كله فينفضُون من حولهم. ولذلك فقد تعقّبوه بعداوة صارمة لا تلين لعلّهم يجدون مجالا ليوقعوا الجفاء بينه وبين الجماهير وهذا يساعد رجال السنهدريم على تحقيق إدانته وموته. ArMB 24.2
وفيما كان يسوع على الجبل كان الجواسيس يراقبونه مراقبة دقيقة، وإذ كان ينطق بمبادئ البرّ رتّب الفريسيون أن يتهامس الناس فيما بينهم بأنّ تعليمه مناقض للوصايا التي قد أعطاها الله من سيناء. إنّ المُخَلِّص لم يقل شيئا ليزعزع الإيمان بالديانة والتشريعات التي أُعطيت على لسان موسى، لأنّ كل قبس من النور الإلهي الذي أبلغه قائد إسرائيل العظيم لشعبه كان قد تسلّمه من المسيح. وإذ كان كثيرون يفكرون في قلوبهم قائلين إنّه قد جاء ليبطل الناموس، أعلن يسوع بكلامٍ لا يخطئ عن موقفه حيال الشرائع الإلهية قائلا: « لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ » (متى 5: 17). ArMB 24.3
إنّ خالق البشر ومعطي الشريعة هو الذي يعلن أنّه لا يقصد أن يلقي وصاياها جانبا. فكلّ ما في الطبيعة من الذرّة الصغيرة التي ترَى في نور الشمس إلى العوالم العليا خاضع لناموس. وعلى الطاعة لهذه النواميس يتوقف النظام والانسجام في العالم الطبيعي. وكذلك توجد مبادئ عظيمة للبرّ لتتسلط على حياة كلّ الخلائق العاقلة، وعلى الامتثال لهذه المبادئ تتوقّف سعادة الكون. فقبلما صارت هذه الأرض في عالم الوجود كانت شريعة الله موجودة. إنّ الملائكة خاضعون لمبادئها، فلكي تكون الأرض في حالة انسجامٍ مع السماء يجب على الإنسان أيضا أن يطيع وصايا الله. إنّ المسيح قد عرّف الإنسان وهو في عدن وصايا الشريعة « عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ » (أيوب 38: 7). وخدمة المسيح على الأرض لم يكن القصد منها نقض الناموس، بل قصد بنعمته أن يعيد الإنسان إلى حالة الطاعة لوصاياه. ArMB 24.4
إنّ التلميذ الحبيب الذي أصغى إلى أقوال يسوع على الجبل إذ كتب بعد ذلك بوقت طويل، بوحي الرُّوح الْقُدُس، تحدّث عن الشريعة على أنّ لها حقّا دائما. قال: « الْخَطِيَّةُ هِيَ التَّعَدِّي» على الناموس. وإنّ « كُلُّ مَنْ يَفْعَلُ الْخَطِيَّةَ يَفْعَلُ التَّعَدِّيَ أَيْضًا. وَالْخَطِيَّةُ هِيَ التَّعَدِّي » (1 يوحنا 3: 4). وهو يوضح أنّ الشريعة التي يشير إليها هي « وَصِيَّةً قَدِيمَةً كَانَتْ عِنْدَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ» (1 يوحنا 2: 7). فهـو يتحـــدث عن الشــريعة التي كــانت عند بدء الخليقــة وردّدت على جبل سيناء. ArMB 24.5
إنّ يسوع وهو يتكلم عن الشريعة قال: « مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ ». وقد استعمل هنا كلمة « يكمّل » بنفس المعنى الذي قصده عندما أعلن ليوحنا المعمدان قصدَه في أن « نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ» (متى 3: 15) أي يملأ مكيال مطاليب الشريعة ليقدّم قدوة للطاعة والامتثال الكامل لإرادة الله. ArMB 25.1
كانت خدمته أن « يُعَظِّمُ الشَّرِيعَةَ وَيُكْرِمُهَا » (إِشَعْيَاء 42: 21). كان لابد له من أن يبين طبيعة الشريعة الروحية ويقدم مبادئها البعيدة المدى ويوضح حقوقها الأبدية. ArMB 25.2
إنّ الجمال الإلهي لصفات المسيح الذي لم يكن أنبل الناس وأرقهم حاشـية إلاّ انعكـاسـا باهتا له. والذي كتب عنه سليمان بروح الإلهام يقول إنّه « مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ... كُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ » (نَشِيدُ الأَنْشَادِ 5: 10 - 16). والذي إذ رآه داود في رؤيا نبـوية قال: « أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ » (مزمور 45: 2)، يسوع الذي هو الصورة الواضحة لذات الآب، وبهاء مجده، الفادي المنكر لذاته، طوال مدة اغتراب محبته على الأرض كان صورة حيّة لصفة شريعة الله. ففي حياته بدا واضحا أنّ المحبة التي هي ابنة السماء والمبادئ المسيحية تكمن تحت شرائع الاستقامة الأبدية. ArMB 25.3
قال يسوع: « إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ » (متى 5: 18). إنّ المسيح بإطاعته للشريعة شهد لطبيعتها الثابتة التي لا يعتريها تغيير، كما برهن على أنّه في مقدور كل ابنٍ وابنةٍ من بني آدم إطاعتها طاعة كاملة بنعمته. وقد أعلن وهو على الجبل أنه ينبغي ألاّ تسقط نقطة واحدة أو حرف واحد حتى يتمّ الكل. كل ما يهم الجنس البشري وكل ما له علاقة بتدبير الفداء. إنّه لم يعلمنا أنّ الناموس سيُلغى نهائياً ولكنه يثبت بصره على أقصى دائرة أفق الإنسان ويؤكد لنا أنه حتى يمكن الوصول إلى هذا الحد سيظل الناموس محتفظاً بسلطانه، حتى لا يظن أحد أن رسالته هي أن يلغي وصايا الناموس. فطالما بقيت السماء والأرض فستبقى مبادئ شريعة الله. إنّ عدله سيظل ثابتا وباقيا « مِثْلُ جِبَالِ اللهِ » (مزمور 36: 6) تبعا للبركة تفيض ينابيعه لتحيي الأرض. ArMB 25.4
فلكون ناموس الرب كاملا ولذلك هو غير متغيّر يستحيل على البشر الخطاة أن يتمموا مقياس مطاليبه. فهذا هو السبب الذي لأجله جاء يسوع فاديا لنا. إنّ خدمته كانت انه إذ يجعل بني الإنسان شركاء الطبيعة الإلهية يجعلهم في حالة توافق مع مبادئ شريعة السماء. فعندما نترك خطايانا ونقبل المسيح مخلصا لنا فالشريعة تتعظم وتتمجد. وها هو بولس الرسول يسأل قائلا: « أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإِيمَانِ؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ النَّامُوسَ » (رومية 3: 31). ArMB 25.5
إنّ وعد العهد الجديد هو هذا: « أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ » (عبرانيين 10: 16). ففي حين كان لابد أن يزول ويُلغى نظام الرموز التي كانت تشير إلى المسيح كحمل الله الذي يرفع خطية العالم، عند موته، فمبادئ البرّ المجسمة في الوصايا العشر ثابتة كثبات العرش الأزلي. فلم ينسخ أمر واحد ولا تغير حرف واحد أو نقطة واحدة. فتلك المبادئ التي صارت معروفة لدى الإنسان في الفردوس على أنها قانون الحياة العظيم ستظل باقية بلا تبديل في الفردوس المستردّ. وعندما تزدهر جنة عدن على الأرض من جديد فكل من تحت الشمس سيطيعون شريعة الله التي هي شريعة المحبة. ArMB 25.6
« إلى الأبد يا ربّ كلمتك مثبتة في السَّمَاوَات ». « كُلُّ وَصَايَاهُ أَمِينَةٌ. ثَابِتَةٌ مَدَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ، مَصْنُوعَةٌ بِالْحَقِّ وَالاسْتِقَامَةِ ». « مُنْذُ زَمَانٍ عَرَفْتُ مِنْ شَهَادَاتِكَ أَنَّكَ إِلَى الدَّهْرِ أَسَّسْتَهَا » (مزمور 119: 89؛ 111: 7، 8؛ 119: 152). ArMB 26.1