إنّ فرص الإثارة لليهود كانت كثيرا ما تحدث بسبب احتكاكهم بالعساكر الرومان. فقد كانت فصائل من الجيوش تقيم في أماكن مختلفة في كل اليهودية والجليل. وكان وجود تلك القوات مذكّرا للشعب بانحطاطهم كأمّة. فبنفوس مرّة كانوا يستمعون إلى صوت البوق المرتفع ويرون فرق الجيش متجمعة حول الراية الرومانية وينحنون في ولاء أمام رمز قوتها وسلطانها هذا. وكثيرا ما كانت تقع المصادمات بين الشعب والجنود وهذا ألهب نار العداء في قلوب الشعب. وفى أحيان كثيرة عندما كان أحد الموظفين الرومان يسرع من مكان إلى آخر ومعه حراسة من الجنود كان يقبض على الفلاحين اليهود الذين يشتغلون في الحقل ويرغمهم على أن يحملوا أثقالا ويصعدوا بها فوق الجبل أو يقدموا أية خدمة أخرى يحتاج إليها. كان هذا يتمشّى مع القانون والعادات الرومانية ولم تكن المقاومة تجديهم فتيلا بل كانت تجلب عليهم التعييرات والقسوة. وكل يوم كان يُعمّق في نفوس الشعب الشوق إلى طرح نير الرومان بعيدا. وقد كانت روح التمرّد والثورة متفشّية على الخصوص بين سكان الجليل المشهورين بالجرأة والخشونة. وإذ كانت كفرنَاحُوم مدينة على الحدود فقد كانت مركزاً لحامية رومانية، وحتى فيما كان يسوع يتكلم فإنّ منظر شرذمة من الجنود أعاد إلى أذهان سامعيه الفكرة المرّة المحزنة، فكرة عبودية إسرائيل. وقد تطلع الشعب بشوق إلى المسيح على أمل أن يكون هو الشخص الذي سيذلّ كبرياء روما. ArMB 34.3
وها هو يسوع ينظر بحزن إلى تلك الوجوه الشاخصة إليه. وهو يلاحظ روح الانتقام التي طبعت نفوسَهم بطابعها الشرّير، ويعرف كيف يتوق الشعب بمرارة إلى قوة بها يسحقون مضطهـديهم ومستعـبديهم. فيأمرهم قائلا بحزن: « لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا » (متى 5: 39). هذا الكلام لم يكن إلاّ تكراراً لأقوال العهد القديم. نعم إنّ القانون القائل: « عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ » (لاويين 24: 20) كان قانونا بين القوانين المعطاة لموسى ولكنه كان قانونا مدنيا. فلم يكن يحلّ لإنسان أن يثأر لنفسه: لأن الناس كانت عندهم أقوال الرب القائلة: « لاَ تَقُلْ: إِنِّي أُجَازِي شَرًّا ». « لاَ تَقُلْ: كَمَا فَعَلَ بِي هكَذَا أَفْعَلُ بِهِ » « لاَ تَفْرَحْ بِسُقُوطِ عَدُوِّكَ » « إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ خُبْزًا، وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ مَاءً » (أمثال 20: 22؛ 24: 29، 17؛ 25: 21، 22). ArMB 34.4
وقد كانت كل حياة يسوع على الأرض إعلاناً لهذا المبدأ. إنّ مخلصنا ترك وطنه في السماء ليأتي بخبز الحياة لأعدائه. فمع أنّ الوشايات والاضطهادات انهالت عليه من المهد إلى اللحد فإنها لم تستمطر منه غير ألفاظ الغفران. وهو يقول على لسان النبي إِشَعْيَاء: « بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ، وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ » (إِشَعْيَاء 53 :7). ومن صليب جلجثة تنحدر، عبر الأجيال، صلاته لأجل قاتليه، ورسالة الرجاء للص المحتضر. ArMB 35.1
لقد كان حضور الآب محيطاً بالمسيح ولم يُصِبْه إلاّ ما سمحت به المحبة السرمدية ليتبارك به العالم. هنا كان نبع العزاء لنا نحن أيضا. فالذي يسكن فيه روح المسيح يثبت في المسيح. والضربة التي تصوب إليه تقع على المُخَلِّص الذي يحيطه بحضوره. فكل ما يأتي عليه يأتي من المسيح. فلا حاجة به إلى مقاومة الشرّ لأنّ المسيح حصنه. ولا يمكن أنّ شيئا يمسّه إلاّ بسماحٍ من الرب « كُلّ الأَشْيَاءِ » التي يسمح بها « تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ » (رومية 8: 28). ArMB 35.2
« وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ» (متى 5: 40، 41). ArMB 35.3
وقد أمر يسوع تلاميذه بدلا من أن يقاوموا أوامر ذوي السلطان، أن يفعلوا أكثر ممّا يُطلب منهم. وبقدر المستطاع يجب عليهم أن يتمّموا كل التزام حتى ولو كان ذلك فوق ما يطلبه قانون البلاد. إنّ القانون المعطى بواسطة موسى أوصى بالاهتمام بالفقراء بكل رقة. فعندما كان إنسان فقير يعطي ثوبَه رهناً أو ضمانا لدين لم يكن يسمح للدائن بالدخول إلى البيت ليأخذه، بل كان يجب عليه أن يقف خارجاً في الشارع ليؤتى إليه بالرهن. ومهما تكن الظروف فإنّه كان يجب أن يعاد الرهن إلى صاحبه عند إقبال الليل (تثنية 24: 10-13). ولكن في عهد المسيح لم يلقِ الناسَ بالاً إلى هذه الاحتياطات الرحيمة؛ أمّا يسوع فقد علّم تلاميذه أن يخضعوا لحكم المحكمة حتى ولو تطلّب هذا أكثر مّما سمح به ناموس موسى. فلو طلب منهم قطعة من ملابسهم كان عليهم أن يخضعوا. وأكثر من هذا فقد كان عليهم أن يقدموا للدائن حقّه، وإذا لزم أن يتنازلوا له عن أكثر مما رخصت له المحكمة أن يأخذ. فقد قال: « وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا » (متى 5: 4) وإذا طلب منك السعاة أن تذهب معهم ميلا واحدا فأذهب معهم اثنين. ArMB 35.4
واستطرد يسوع قائلا: « مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ» (متى 5: 42). وهذا الدرس هو نفس ما علم به موسى، إذ يقول: « لاَ تُقَسِّ قَلْبَكَ، وَلاَ تَقْبِضْ يَدَكَ عَنْ أَخِيكَ الْفَقِيرِ، بَلِ افْتَحْ يَدَكَ لَهُ وَأَقْرِضْهُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ » (تثنية 15: 7و8). هذا القول الإلهي يوضح معني كلام المُخَلِّص. فالمسيح لا يعلمنا أن نعطي بدون تمييز لكل من يسألنا إحساناً بل يقول: « أَقْرِضْهُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ ». وهذا ينبغي أن يكون هبة لا قرضاً فالرب يأمرنا قائلا: « أَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ تَرْجُونَ شَيْئًا » (لوقا 6: 35). ArMB 35.5