كثيرون تتوزعهم الأفكار و تقلقهم الشكوك، و لا سيما حديثو الإيمان، ذلك لأنهم يصادفون في الكتب المقدسة آيات لا يستطيعون تفسيرها و لا فهمها، يستخدمها الشيطان لإثارة الشك في أنها موحى بها من الله، فتراهم يتساءلون متحيرين، “كيف يمكننا أن نعرف السبيل السوي؟ و إذا كان الكتاب المقدس كلمة الله حقيقة كيف يتسنى لنا أن نتحرر من الشكوك و الارتباكات؟” SC 81.1
إن الله لم يطلب منا أن نؤمن دون أن يقدّم لنا بيّنات كافية نبني عليها إيماننا، فالشواهد التي تدلنا على وجود الله، و تظهر لنا صفاته و سجاياه، و تثبت صدق أقواله، متوفرة لدينا، و هي مستساغة للعقل أيضًا، و مع ذلك فانه تعالى لم يزِل إمكانية الشك، إذ يجب أن يقوم إيماننا على البيان، لا على العيان، و من تم يكون لنا أن نختار بين أن نؤمن أو نرتاب، فمن أراد أن يرتاب يجد ما يتعلل به، و من أراد أن يؤمن فلا تعوزة البينة و لا ينقصه الدليل SC 81.2
بيد انه يستحيل على عقولنا أن تدرك كنه الله، أو أن تستوعب أعماله، لأنه تعالى محاط بأسرار تحير ذوي الألباب الثاقبة، فان أذكى الأذهان المثقفة تعجز عن سبر غورها، بل يقف العلماء منها موقف من قال “أ إلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي، هو أعلى ملى السماوات فماذا عساك أن تفعل و أعمق من الهاوية فماذا تدري”، ايوب ١١ : ٧ و ٨ SC 82.1
و كتب الرسول بولس في ذلك هاتفًا بتعجب “يا لعمق غنى الله و حكمته و علمه ما أبعد أحكامه عن الفحص و طرقه عن الاستقصاء”، رومية ١١ : ٣٣، لكن، و لئن كان “السحاب و الضباب حوله” فان “العدل و الحق قاعدة كرسيه” مزمور ٩٧ : ٢، و في استطاعتنا أن نفهم معاملته للناس و أن نعرف بواعثه، فنرى فيها محبة أبدية متحدة بقوة فائقة الحد، و نستطيع أيضًا أن ندرك من مقاصده ما هو لمنفعتنا، و أما فيما عدا ذلك فإننا نثق بمحبته و نتكل على قوَّته SC 82.2
كذلك كلمة الله أيضًا، فيها كما في منزلها، أسرار لا يمكن استقصاؤها، و أهم مواضيعها، كدخول الخطية إلى العالم، و تجسد المسيح، و التجديد و القيامة، و ما إلى ذلك من مكنونات الكتب المقدسة، كلها أعماق لا لا يصل الإنسان إلى سبر غورها، و لكن عدم استطاعتنا أن ندرك أعمال العناية الإلهية ليس مما يدعو إلى عدم الإيمان بها، إذ أننا محاطون في عالم الطبيعة، بأسرار لا يمكن الوصول إلى فهمها، فلم يستطع فطاحل العلماء و الفلاسفة أن يفهموا كنه الحياة الظاهرة في ابسط مخلوقات الله، و إننا حيثما نلتفت نجد أسرارًا لا ندركها، فهل نستغرب إذن وجود أسرار في العالم الروحي يعسر علينا فهمها؟ و الصعوبة ليست في الحقائق ذاتها بل في ضعف العقل البشري و قصره، و مع ذلك فقد أعطانا الله في الكتب المقدسة بيانات كافية لإثبات الحقيقة أنها من مصدر الهي، فلا شك فيها إذا وجدنا فيها ما ليس في طاقتنا أن ندركه تمامًا SC 82.3
نعم، في الكتب المقدسة، كما قال الرسول بطرس٫ “أشياء عسرة الفهم يحرّفها غير العلماء و غير الثابتين... لهلاك انفسهم”، بطرس ٣ : ١٦، و قد اتخذ الملحدون هذه الأشياء العسرة الفهم حجة لعدم الإيمان، بيد أن النتيجة يجب أن تكون على النقيض من ذلك، لان هذه الصعوبات تكوّن حجة قوية على كونها مُنزلة، إذ لو خلت الكتب المقدسة، في إخبارها إيانا عن أمور الله، من كل ما يعسر علينا فهمه، و لو أدركت العقول البشرية الضعيفة ما جاء فيها من عظمته و جلاله، لاعتبر هذا الخلو برهانًا على أنها لا تحمل سمة الله التي تنفي عنا كل شك، أما سمو مواضيعها و جلالها فيولدان في القلوب إيمانًا بها و ثقة بانها كلمة الله المنزلة SC 83.1
يعرض الكتاب المقدس الحق ببساطة يتمكن معها عامة الناس من معرفته معرفة جلية، و ينشره بكيفية تلائم حاجات البشر و تمنياتهم، و لقد أذهلت ذوي العقول المثقفة و استهوتهم، غير أن الحقائق التي يعبر عنها الكتاب المقدس ببساطة متناهية تتناول مواضيع سامية، بعيدة الغور، فائقة قوة الإدراك البشري، حتى أننا نؤمن بها فقط لثقتنا بان الله تعالى هو معلنها، فنرى تدبير الفداء موضحًا بحيث تعرف كل نفس الخطوات التي عليها أن تخطوها في التوبة إلى الله و الإيمان بربنا يسوع المسيح الذي به تنال الخلاص من الله، و مع ذلك يحوي هذا التدبير الواضح أسرارًا يتستر فيها مجد الله، تذهل عقول دارسيها و تلهم المخلصين في طلب الحق وقارًا و إيمانًا، و لو امعن القارئ النظر فيها ازداد اقتناعًا و يقينًا بانها كلمات الله الحي، فينحني المنطق البشري أمام جلال الوحي الإلهي SC 83.2
يرفض الشكاك و الملحدون كلمة الله لأنهم يعجزون عن سبر غور أسرارها و ليس جميع الذين يدّعون الإيمان في أمن من هذا الخطر المحدق، فها الرسول بولس يحذرنا قائلاً “انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم الإيمان في الارتداد عن الله الحي”، عبرانيين ٣ : ١٢. انه لمن الصواب أن ندرس تعاليم الكتب المقدسة بتدقيق و إمعان، و أن نفحص كل شيء “حتى أعماق الله”، ١ كورنثوس ٢ : ١٠ كما قد اعلنها الله، لان “السرائر للرب الهنا و المعلنات لنا” تثنية ٢٩ : ٢٩، و لكن الشيطان يعمل على تضليل قوى العقل، فيدخل في دارس الكتاب المقدس شيئًا من العجب بذاته حتى انه يشعر بتضجر و فشل إن لم يستطع أن يفهم كلمات الوحي، و لا يصبر ريثما يعلنها له الروح القدس حين يشاء، و إذ يعهد بحكمته البشرية حاسبًا أنها كافية لإدراك معاني الكتب المقدسة، ثم يمنى بالفشل في بلوغ الغاية المنشودة فما يلبث أن يكذبها و يرفض سلطانها، و هذه النظريات و المعتقدات التي تولد الشك في العقول و تربكها و التي يزعمون أنها مبنية على كلمة الله، و هي بالحقيقة لا تمت إليها بصلة، بل تناقضها تناقضًا بينًا، إنما هي من استنباط الناس و تحريفهم، و كلمة الله بريئة منها براءة تامة SC 83.3
لو كان في مقدور المخلوق أن يحيط علمًا بالخالق و يدرك جميع أعماله إدراكًا كاملاً لبلغ بذلك الحد في التقدم و المعرفة حتى لم يبقَ له مجال للنمو في العلم و الازدياد في كمال الصفات، فلا تكون بعد أفضلية لله أو سيادة، و الإنسان، إذ قد بلغ الحد في العلم و الكمال، يتوقف عن التقدم، فلنشكرنّ الله أن الأمر بخلاف ذلك، لان الله، المذخر فيه جميع كنوز الحكمة و العلم”، كولوسي ٢ : ٣، لا يستقصى و لا يحدّ، و سيقضي الإنسان الأبدية كلها في البحث و الدرس دون أن يستنفذ كنوز حكمة الله وجوده و قوته SC 84.1
يريد الله منا أن نتقدم، حتى في هذه الحياة، تقدمًا مطردًا في فهم حقائق كلمته، و لا سبيل إلى ذلك إلا بإنارة الروح القدس الذي أوحى بها، لان “أمور الله لا يعرفها احد إلا روح الله و “الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله” كورنثوس ٢ : ١١ و ١٠، و قد وعد المخلص تلاميذه قائلاً “متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق... لأنه يأخذ مما لي و يخبركم” يوحنا ١٦ : ١٣ و ١٤ SC 84.2
يريد الله أن يستعمل الإنسان قواه العقلية، و ليس ما يزيد هذه القوى قوة و اقتدارًا و يرقي الذهن ترقية عالية مثل درس كلمة الله، على انه يجب علينا أن نحترس من تأليه العقل، لأنه يشارك سائر أعضاء البدن ضعفاتها و أسقامها، و إن كنا نريد ألاَّ تتلبس علينا أوضح الحقائق الكتابية يجب أن ندرسها ببساطة الولد و إيمانه مظهرين رغبتنا في التعلم و ملتمسين معونة الروح القدس، و إذا شعرنا بقدرة الله و حكمته و قدم استطاعتنا أن ندرك عظمته يلهمنا هذا الشعور وداعة و اتضاعًا، فنفتح الكلمة بوقار مقدس كما لو كنا نمثل أمام حضرته فعلاً، فيجب أن يقدم المرء على دورس كلمة الله معترفًا بوجود سلطة تفوق العقل و مخضعًا القلب و العقل ليهوه القيوم SC 85.1
يوضح الله الأشياء الكثيرة التي تبدو غامضة معقدة و التي نميل دائمًا إلى تحريفها و إساءة تأويلها للذين يدرسون الكلمة بروح الوداعة طالبين النور و الإرشاد، و لكن الكثيرين يقرؤون الكتاب المقدس و لا يجنون منه فائدة، و لربما يصيبهم ضرر بالغ إذ هم يفتحون كلمة الله بدون احترام و بدون صلاة، و أفكارهم لم تتوجه إلى الله و لم تثبت عواطفهم فيه و لم تتسق إرادتهم مع ارادته، فيخيم الشك على عقولهم و يتقوى فيهم عدم الإيمان فيملك العدو أفكارهم و يوحي اليهم بتفسيرات مضلة، و الذي لا يطلب أن يوائم الله قولاً و فعلاً مهما كان عالمًا مقتدرًا، هو عرضة للخطأ في فهم الكتاب المقدس و الضلال في تفسيره، فلا يعوّل عليه، و أولئك الذين يفتشون الكتاب المقدس بقصد العثور على تناقضات فيه إنما تنقصهم البصيرة الروحية، و إذ ينظرون إليه نظرًا معوجًا يرون في ابسط آياته و أوضحها أسباب الشك و عدم الإيمان SC 85.2
إن سبب الشك الأساسي، مهما تنكر و تستر، هو في الغالب الميل إلى الخطية، فلا يرحب المتكبر المحب للخطية بمناهي كلمة الله و إرشاداتها، و إذ لا يرغب في الانصياع لتعليمها تجده على استعداد أن يشك في صحتها و ينكر سلطتها، فلكي نصل إلى معرفة الحق يجب أن تكون فينا رغبة صادقة في معرفة الحق و ميل قلبي للسلوك بموجبه، و كل الذين يدرسون الكتب المقدسة بمثل هذا الروح يجدون فيها البراهين القاطعة على أنها كلمة الله حقًا، و قد يكتسبون من معرفة حقائقها ما يحكمهم للخلاص SC 85.3
قال يسوع “إن شاء احد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم”، يوحنا ٧ : ١٧، فعوضًا عن التساؤل و التماحك في ما لا تفهمه احرص أن تنتبه إلى النور الذي قد حصلت عليه فتأخذ نورًا اعظم، و اجتهد، بنعمة المسيح، أن تقوم بكل واجب قد صار واضحًا أمامك تنل قوة تقدّرك على فهم ما انت فيه الآن شاكك و على القيام به أيضًا SC 86.1
إن في الاختبار لدليلاً يدركه الجميع، متعلمين كانوا أو أميين، و الله يدعونا إلى امتحان صحة أقواله و صدق مواعيده إذ يأمرنا قائلاً “ذوقوا و انظروا ما أطيب الرب”، مزمور ٣٤ : ٨ فجدير بنا الاتكل على ما قاله غيرنا، بل لنذق نحن انفسنا و نعرف صدق كلماته “اطلبوا تأخذوا”، يوحنا ١٦ : ٢٤، لأنه لا بد أن يحقق لنا هذه المواعيد التي لم تخب قط و لن تخيب أبدًا، و إذ ندنو من يسوع و نفرح بملء محبته تزول شكوكنا و ينقشع ظلامنا في نور حضرته الجميل SC 86.2
قال الرسول بولس أن الله “انقذنا من سلطان الظلمة و نقلنا إلى ملكوت ابن محبته” كولوسي ١ : ١٣، و كل من قد انتقل من الموت إلى الحياة “قد ختم إن الله صادق”، يوحنا ٣ : ٣٣، فيمكنه أن يشهد قائلاً، احتجت إلى العون و وجدته في يسوع الذي سد حاجاتي و اشبع جوع نفسي و جعلني أومن الآن أن الكتب المقدسة إعلان بيسوع المسيح، فان سألتني عن سبب إيماني بيسوع أجبت أني اختبرته مخلصي و الهي “و إذا سألتني عن ثقتي بالكتب المقدسة أجبت أني وجدتها صوت الله لنفسي، و هكذا قد يكون لنا في انفسنا الشهادة أن الكتاب المقدس حق، و أن المسيح ابن الله، و أننا في إيماننا به “لم نتبع خرافات مصنعة” SC 86.3
حثَّ بطرس الرسول الاخوة على أن ينموا “في النعمة و في معرفة ربنا و مخلصنا يسوع المسيح”، بطرس الثانية ٣ : ١٨، فانه عندما يكون شعب الله ناميًا في النعمة يزداد على الدوام فهمًا و إدراكًا لكلمته تعالى، و يكون في استطاعته أن يرى نورًا جديدًا و جمالاً جديدًا في حقائقها المقدسة، و لقد صدق هذا القول في كل تاريخ الكنيسة على مدى العصور، و سيظل صحيحًا إلى النهاية، كقول الحكيم، أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد و ينير إلى النهار الكامل”، امثال ٤ : ١٨ SC 87.1
فبالإيمان نستطيع أن نتطلع إلى الأبدية ممسكين بوعد الله من جهة ما سنكون عليه من النمو العقلي و اتحاد مداركنا بالمدارك الإلهية و جعل كل قوة من قوى النفس على اتصال مباشر بمصدر النور، فحينئذ نستطيع أن نفرح و نتهلل لان كل الأمور التي تسبب لنا حيرة و ارتباكًا بشأن أعمال العناية ستكون واضحة جلية، و الأشياء التي تبدو لنا عسرة الفهم ستكون مدركة مفهومة، و كل ما بدا لعقولنا مشوشًا مضطربًا سنراه على أتم انسجام و اجمل تنسيق، فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز و لكن حينئذ وجهًا لوجه، “الآن اعرف بعض المعرفة و لكن حينئذٍ سأعرف كما عرفت”، ١ كورنثوس ١٣ : ١٢ SC 87.2