إن أولى مسعى بذله الشيطان لهدم شريعة الله كان ذاك الذي قام به بين سكان السماء القديسين ، وقد ظهر إلى حين كأنه قد كلل بالنجاح ، إذ انخدع عدد كبير من الملائكة ، ولكن انتصار الشيطان الظاهري انتهى بالهزيمة والخسران والانفصال عن الله والطرد من السماء . AA 288.1
ولما تجددت الحرب على الأرض ظهر أن الشيطان غنم ميزة مرة أخرى ، إذ صار الإنسان ، بالتعدي ، أسيرا لإبليس ، وسلمت مملكة الإنسان ليدي ذلك العاصي الأكبر . وقد بدا الآن كأن الطريق مفتوح أمام الشيطان ليقيم مملكة مستقلة ويتحدى سلطان الله وابنه . على أن تدبير الخلاص فتح الباب أمام الإنسان لإمكانية عودة الوفاق بينه وبين الله ولإطاعة شريعته ولافتداء الإنسان والأرض نهائيا من سلطان الشرير . AA 288.2
ومرة أخرى انهزم الشيطان ، ومرة أخرى لجأ إلى الخداع على أمل أن يحول هزيمته إلى نصرة . ولكي يوقظ العصيان في قلوب الناس الساقطين صور الله على أنه إله ظالم لكونه سمح للإنسان بأن يتعدى شريعته . فقال ذلك المجرب الماكر : ( لماذا سمح الله بأن يجرب الإنسان لخطئ ويتسبب في جلب الشقاء والموت ، مع أنه تعالى يعرف النتيجة ؟ ) هذا وإن بني آدم إذ نسوا رحمة الله وطول أناته التي منحت الإنسان اختبار آخر بصرف النظر عن التضحية المذهلة الرهيبة التي أوجبها عصيانهم على ملك السماء ، أصغوا إلى المجرب وتذمروا على السيد الذي يستطيع وحده أن يخلصهم من سلطان المهلك المدمر . AA 288.3
هناك اليوم ألوف من الناس الذين يرددون صدى هذه الشكوى وهذا التمرد على الله . إنهم لا يرون أن تجريد الإنسان من حرية الاختيار هو سلب لاميتازه ككائن عاقل وجعله آلة تتحرك تلقائيا . إن الله لا يقصد أن يجبر إرادة الإنسان على إطاعته . لقد خلق الإنسان كائنا أدبيا ذا إرادة حرة ، وكسكان العوالم الأخرى ينبغي أن تمتحن طاعته ، ولكنه لا يصير إلى حالة تجعل خضوعه للشر أمرا لازما لا مندوحة عنه . إنه لا تجربة ولا امتحان يقدمان إليه يعجز هو عن الانتصار فيهما . لقد أعد الله العدة الكافية التي كان يمكن أن خفظ الإنسان من شر الهزيمة في صراعه مع الشيطان . AA 288.4
وإذ تكاثر الناس على الأرض انضم العالم كله تقريبا إلى صفوف المتمردين . ومرة أخرى حاول الشيطان أن يحرز النصرة . ولكن قدرة الله قضت على عمل الإثم مجددا واغتسلت الأرض بالطوفان من نجاستها الأدبية يقول النبي : ( حينما تكون أحكامك في الأرض (يا رب) يتعلم سكان المسكونة االعدل .. ولا يرى جلال الرب ) (إشعياء 26 : 9 ، 10) وهكذا حدث بعد الطوفان ، فإذ استراح سكان الأرض من أحكام الرب ودينونته عادوا يتمردون على الرب . وقد رفض العالم عهد الله وشرائعه مرتين ، فإن الناس قبل الطوفان وكذلك سلالة نوح طرحوا عنهم سلطان الله . حينئذ دخل الله في عهد مع إبراهيم واتخذ لنفسه شعبا خاصا ليكونوا أمناء على شريعته . ففي الحال بدأ الشيطان في إعداد أشراكه لكي يغوي هذا الشعب ويهلكه . وقد جرب بنو يعقوب ليختلطوا بالوثنيين عن طريق الزواج ويعبدوا أصناهم . إلا أن يوسف كان أميناً لله ، وكان ولاءه شهادة دائمة على صدق الإيمان الحقيقي . ولكي يطفئ الشيطان هدا النور جعل حسد إخوة يوسف له يسوقهم إلى بيعه كعبد في بلاد وثنية . ولكن الله سيطر على الحوادث بحيث جعل معرفته تعطى للمصريين . ففي بيت فوطيفار وفي السجن حصل يوسف على تعليم وتدريب أعداه مع مخافة الله لمركزه العظيم كرئيس وزراء الدولة . ومن قصر فرعون شعر الناس بتأثيره في كل البلاد فانتشرت معرفة الله في طول البلاد وعرضها . صار الإسرائيليون ناجحين وأثرياء في مصر . وأولئك الذين كانوا أمناء لله بينهم كان لهم تأثير واسع النطاق . وقد امتلأت قلوب كهنة الأصنام هلعا وهم يلاحظون الدين الجديد يلقى قبولا من الناس . ونفث الشيطان في قلوبهم سموم عداوته لإله السماء فحاولوا إطفاء النور . وقد أسند إلى الكهنة أمر تهذيب وارث العرش ، وكانت هذه الروح ، روح الإصرار على مقاومة الله والغيرة على عبادة الأوثان هي التي شكلت أخلاق الملك العتيد ، وأوجبت إيقاع القسوة والظلم على العبرانيين وفي خلال الأربعين سنة بعد هروب موسى من مصر بدا كأن الوثنية قد انتصرت . ومن سنة إلى سنة ضعفت آمال الإسرائيليين وتضاءلت . وقد تهلل ملك مصر وشعب مصر معتزين بقوتهم وسخروا من إله إسرائيل ، وكبرت هذه الروح واستشرت حتى بلغت أوج قوتها في فرعون الذي واجهه موسى . وعندما أتى القائد العبراني ومثل أمام الملك وقدم له رسالة من ( الرب إله إسرائيل ) لم يكن جلهه للإله الحقيقي بل تحديه لقدرته هو الذي لقنه الجواب حين قال : ( من هو الرب حتى أسمع لقوله لا أعرف الرب ) (خروج 5 : 2) . فمن البداية إلى النهاية لم تكن مقاومة فرعون لأمر الرب ناشئة عن الجهل بل عن العداء والتحدي . AA 289.1
ومع أن المصريين ظلوا طويلا يرفضون معرفة الله فقد أعطاهم الرب فرصة للتوبة . كانت مصر في أيام يوسف مأوى إسرائيل ، وقد أكرم الله وتمجد في الرفق الذي عومل به شعبه ، والآن فها هو الرب الطويل الأناة البطيء الغضب المملوء إشفاقا ورحمة أعطى لكل ضربة من الضربات وقتا كافيا لتعمل عملها . فالمصريون الذين حلت اللعنة عليهم بواسطة الخلائق التي كانوا يتعبدون لها أدركوا قدرة الرب ، وأن في استطاعة كل من أراد منهم أن يحضع لله وينجو من الدينونة ، ونتج عن تعصب الملك عناده انتشار معرفة الله قد سلم كثيرون من المصريين أنفهسهم لخدمته . AA 290.1
وبسبب ميل الإسرائيليين إلى الاندماج بالوثنيين ومحاكاتهم في عبادة الأصنام سمح الله لهم بالنزول إلى مصر حيث كان نفوذ يوسف وتأثيره ملومسين في كل مكان ، وحيث كانت الظروف تساعد على بقائهم شعبا خاصا . وفي مصر أيضا كان ينبغي أن انغماس المصريين في عبادة الأوثان ، والقسوة والاضطهاد الذين حلا بالعبرانيين في المدة الأخيرة من أيام اغترابهم في مصر تجعلهم يكرهون الوثنية ويمقتونها ، وكان ينبغي أن تجعلهم يهرعون للاحتماء بإله آبائهم ، ولكن الشطيان جعل نفس هذه العناية واسطة لخدمة أغراضه إذ أظلمت عقول الإسرائيليين وقادتهم إلى محاباة سادتهم الوثنيين في ممارساتهم . وبسبب الإكرام الخرافي الذي كان يبديه المصريون للحيوانات لم يكن يسمح للعبرانيين في أثناء سني عبوديتهم بتقديم ذبائح كفارية لله . وهكذا لم تتجه عقولهم بواسطة هذه الذبائح إلى الذبيحة العظمى ، فضعف إيمانهم . ولما حان وقت خلاص إسرائيل أقام الشيطان نفسه محاربا ومقاوما لمقاصد الله ، عازما على إبقاء ذلك الشعب العظيم البالغ عدده حينئذ أكثر من مليون نسمة في أسر الجهل والخرافات ، ذلك العشب الذي وعد الله أن يباركهم و يكثرهم قوة على الأرض ، وعن طريقهم يعلن معرفة مشيئته ، الشعب الذي كان سيجعلهم حفظه لشريعته — هذا الشعب نفسه - أراد الشيطان أن يبقيهم في ظلام الجهالة والعبودية لكي يستأصل من عقولهم ذكرى الله . AA 290.2
وحين أجريت المعجزات أمام الملك كان الشيطان في الميدان يعكس تأثيرها ويصد فرعون عن الاعتراف بعظمة الله وإطاعة أوامره . لقد بذل الشيطان أقصى جهده ليزيف عمل الله ويقاوم مشيئته ، وكانت النتيجة الوحيدة هي إعداد الطريق لإظهار قدرة الله ومجده بكيفية أعظم وأكمل ، ولجعل وجود الإله الحي الحقيقي وسلطانه أكثر جلاء ووضوحا في عيون الإسرائيليين وكل المصريين . AA 291.1
خلص الرب إسرائيل بإعلانات قوية لقدرته ، وبأحكام أجراها على كل آلهة مصر . ( أخرج شعبه بابتهاج ، ومختاريه بترنم .. لكي يحفظوا فرائضه ويطيعوا شرائعه ) (مزمور 105 : 43 - 45) . لقد أنقذهم من حالة المذلة التي كانوا فيها لكي يأتي بهم إلى أرض جيدة ، أرض أعدها في عنايته ، لكي تكون ملجأ لهم من أعدائهم ، حيث يمكنهم أن يسكنوا تحت ظل جناحيه . كان يريد أن يأتي بهم إلى نفسه ويحيطهم بالأذرع الأبدية . وجزاء لكل صلاحه ورحمته نحوهم كان المطلوب منهم ألا يكون لهم آلهة أخرى أمامه ، هو الإله الحي ، وأن يعظموا اسمه ويجعلوه ممجدا في الأرض . AA 291.2
وفي أثناء سني العبودية في مصر أضاع كثيرون من الإسرائيليين معرفة شريعة الله إلى حد كبير ، وخلطوا بين وصاياه والعادات والتقاليد الوثنية ، فأتى الله بهم إلى سيناء حيث أعلن لهم شريعته بصوته . AA 291.3
إن الشيطان والملائكة الأشرار كانوا في الميدان ، ففيما كان الله يعلن شريعته لشعبه كان الشيطان يدبر مكايده ليجرب الشعب حتى يخطئوا . هذا الشعب الذي اختاره الله لنفسه أراد الشيطان أن يفسده أمام وجه السماء . فإذا أفلح جعلهم يعتنقون الوثنية فسيلاشي كل قوة عبادة الله وفاعليتها ، إذ كيف يسمو الإنسان بالتعبد لإله ليس أسمى منه ولا أرفع شأنا ويمكنه أن يصوره بيديه ؟ إذا كان الناس يصيرون عميانا عن قدرة الله غير المحدود وعن جلاله ومجده بحيث يصورونه على هيئة تمثال منحوث أو كأحد الوحوش أو الزواحف ، وأذا كانوا ينسون صلتهم المقدسة إذ أنهم قد صوروا على صورة خالقهم بحيث يسجدون أمام أشياء عاصية وعديمة الإحساس ، إذا فسيفتح الباب على سعته للإباحية الدنسة ، ولن يكون هنالك رادع يكبح أميال القلب الشريرة وحيئنذ ستكون للشيطان السيادة الكاملة . AA 291.4
وعند سفح جبل سيناء نفسه بدأ الشيطان بتنفيذ خططه لهدم شريعة الله ، وهكذا استأنف عمله الذي بدأ به في السماء ، ففي أثناء الأربعين يوما التي قضاها موسى مع الله في الجبل كان الشيطان يعمل على إثارة الشكوك والارتداد والعصيان . وإذ كان الله يكتب شريعته ليسلمها لشعبه المختار ، رفض الإسرائيليون تقديم الولاء للرب وطلبوا آلهة من ذهب ! ولما نزل موسى من محضر مجد الرب الرهيب وبيده وصايا الشريعة التي كانوا قد تعهدوا بإطاعتها ، رآهم ، في تحد سافر لتلك الوصايا ، بسجودهم أمام تمثال الذهب . AA 292.1
والشيطان إذ أراد أن يسوق إسرائيل إلى هذا التجديف والإهانة الجريئة كان قد رسم خطة لإهكلاهم معتقدا أنه بما أن أولئك الناس قد برهنوا على انحطاطهم الشنيع ، وعادوا لا يحسون بقيمة الامتيازات والبركات التي منحهم إياها الله ، ولا بالعهود المقدسة المتكررة التي قطعوها على أنفسهم بالتمسك بولائهم للرب ، فالله لا بد من أن يطرحهم بعيدا عنه ويقضي عليهم بالهلاك . وهكذا تستأصل ذرية إبراهيم ، نسل الموعد الذي كان سيحتفظ بمعرفة الله الحي ، والذي كان النسل الحقيقي (المسيح) سيأتي منه ليهزم الشيطان . لقد رسم ذلك العاصي الأكبر خطة لإهلاك إسرائيل وهكذا يعيق مقاصد الله ويعرقلها . ولكنه انهزم مرة أخرى . ومع أن بني إسرائيل كانوا خطاة فإنهم لم يهلكوا ، فبينما أهلك من وقفوا بعناد إلى جانب الشيطان فجأة ، فالشعب المتذلل التائب غفرت خطاياه برأفة ، وكان لا بد أن يظل تاريخ هذه الخطية شهادة دائمة على شر الوثنية وقصاصها وعدالة الله ورحمته وطول أناته . AA 292.2
كان سكان الكون جميعا شهودا للمنظر الذي حدث في سيناء . ففي تنفيذ كلتا السياستين رؤي الفرق بين حكم الله وحكم الشيطان . ومرة أخرى رأى سكان العوالم الأخرى الأبرار نتائج ارتداد الشيطان ونوع الحكومات التي كان ليقيمها في السماء لو أتيح له أن يملك . AA 292.3
إن الشيطان إذ جعل الناس يتعدون الوصية الثانية أراد أن يحط ويحقر تفكيرهم عن الكائن الالهي ، وإذ جعلهم يغفلون الوصية الرابعة أراد أن ينسيهم الله بالكلية . إن حق الله في التوقير والعبادة فوق آلهة الوثنيين مبني على حقيقة كونه الخالق ، وأن كل الخلائق مدينة له بوجودها ، وهذا حق نجده مدونا في الكتاب ، فالنبي إرميا يقول : ( أما الرب الإله فحق . هو إله حي وملك أبدي ... الآلهة التي لم تصنع السماوات والأرض تبيد من الأرض ومن تحت هذه السماوات.. بلد كل إنسان من معرفته . خزي كل صائغ من التمثال ، لأن مسبوكة كذب ولا روح فيه . هي باطلة صنعة الأضاليل . في وقت عقابها تبيد . ليس كهذه نصيب يعقوب ، لأن مصور الجميع ، وإسرائيل قضيب ميراثه . رب الجنود اسمه ) (إرميا 10 : 10 — 12 ، 14 - 16) . إن السبت كتذكار لقوة الله الخالقة يشير إليه على أنه صانع السماوات والأرض . لهذا فهو شاهد على وجوده ومذكر بعظمته وحكمته ومحبته . فلو قدس الناس السبت دائما لما وجد في الأرض ملحد ولا عباد وثن . AA 292.4
إن شريعة السبت التي بدأت أصلا في عدن هي شريعة قديمة قدم الأرض نفسها . ولقد حفظها الآباء منذ بدء الخليقة فما بعد ذلك . وفي أثناء سني عبودية إسرائيل في مصر أجبرهم مسخروهم على انتهاك حرمة يوم السبت فضاعت معرفة قدسيته إلى حد كبير . وعندما أعلنت الشريعة في سيناء جاءت أولى كلمات الوصية الرابعة تقول : ( اذكر يوم السبت لتقدسه ) (خروج 20 : 8) . مببنة أن شريعة السبت لم تبدأ هناك في سيناء بل هي تعود بنا إلى أصلها عند بدء الخليقة . إن الشيطان لكي يلاشي الله من عقول الناس كان يهدف إلى ملاشاة هذا التذكار . فلو أمكن أن ينسى الناس خالقهم لما بذلوا أي جهد في مقاومة قوة الشر ، وحينئذ يتمكن الشيطان من فريسته . AA 293.1
إن عداوة الشطيان لشريعة الله ألزمته أن يحارب كل وصية من الوصايا العشر . فهنالك صلة وثيقة بين ذلك المبدأ العظيم ، مبدأ المحبة والولاء لله أبي الجميع ، ومحبة البنين وطاعتهم لوالديهم . فاحتقار سلطة الآباء لا بد من أن يقود الإنسان سريعا إلى احتقار سلطان الله . ولهذا فقد حاول الشطيان أن يقلل من الاقتناع بوجوب حفظ الوصية الخامسة . فبين الشعوب الوثنية قلما يكترث الناس للمبدأ المفروض في هذه الوصية . وفي أمم كثيرة كان الآباء يتركون أو يقتلون حين كان كبر سنهم يحول بينهم وبين قدرتهم على إعالة أنفسهم . وفي العائلة كانت الأم تعامل بأقل احترام . ومتى مات رجلها كان يطلب منها الخضوع لسلطة ابنها الأكبر . لقد فرض موسى على الأبناء إطاعة والديهم ، ولكن عندما ترك الإسرائيليون الرب أغفلوا الوصية الخامسة مع غيرها من الوصايا . AA 293.2
كان الشيطان ( قتالا للناس من البدء ) (يوحنا 8 : 44) حالما صار له الشيطان على الجنس البشري علاوة على كونه علم الناس أن يبغضوا ويقتلوا بعضهم بعضا ققد جعلهم بكل جرأة يتحدون سلطان الله ، فجعل كسر الوصية السادسة جزءا من دينهم الذي إياه يعتنقون . AA 294.1
وبسبب سوء فهم الناس لصفات الله أدى الأمر بالوثنيين إلى الاعتقاد أن تقديم الذبائح البشرية لازم لكي ترضى عنهم آلهتهم ، وهكذا تفشت أرهب اأوان القسوة في أشكال الوثنية المتعددة ، ومن بين هذه الفظائع كانت إجازتهم لأولادهم في النار أمام أوثانهم . ومتى جاز أحدهم في هذه المحنة دون أن يمسه أذى كان الناس يعتقدون أن ذبيحتهم قبلت ، والذي ينجو من الموت كان يعتبر أن الألهة قد اختصته بحبها ورضاها ، وكانت تغدق عليه الهبات والعطايا ويعطى له مقام رفيع فيما بعد ، ومهما كانت جرائمه شنيعة لم يكن يلحقه أي قصاص . أما إذا احترق أحدهم وهو يجوز في النار فقد ختم على مصيره ، وكانوا يعتقدون أن غضب الآلهة لا يمكن أن تهدأ إلا بالقضاء على الضحية بالموت ، ولذلك كان يقدم ذبيحة . وفي أيام الارتداد العظيم كانت مثل هذه الرجاسات تتفشى بين الإسرائيليين أنفسهم إلى حد ما . AA 294.2
وقديما أيضا كان الناس يتعدون الوصية السابعة باسم الدين . فكانت أحط الطقوس الرجسة والخليعة جزاءا عن العبادة الوثنية . وكانت الآلهة نفسها تصور وتمثل على أنها نجسة ، وكان عابدوها يطلقون العنان لأحط شهواتهم . وتفشت بين الناس رذائل غير طبيعية حتى اتصفت أعيادهم الدينية بالنجاسة العلنية الشاملة . AA 294.3
وفي وقت مبكر انتشرت خطية تعدد الزوجات ، وكانت ضمن الخطايا التي جلبت غضب الله على العالم قبل الطوفان ، ومع ذلك فقد انتشرت هذه الخطية بعد الطوفان مرة أخرى . إن مسعى الشيطان المدروس كان ليفسد سنة الزواج ويضعف من التزاماته ويقلل من قدسيته . إذ لم تكن هناك طريقة أضمن لتشويه صورة الله في قلب الإنسان وفتح الباب على سعته للرذيلة والشقاء . AA 294.4
ومنذ بدء الصراع العظيم كان غرض الشيطان أن يسيء تمثيل صفات الله ويثير التمرد على شريعته ، وبدا أن هذا العمل قد كلل بالنجاح ، إذ أن جماهير من الناس يصيخون بأسماعهم لمخادعات الشطيان ويقفون من الله موقف العداء ، ولكن في وسط عمل الشر نجد مقاصد الله تسير بثبات نحو الإنجاز ، وهو يعلن رحمته وعدله لكل الخلائق العاقلة . وبسبب تجارب الشطيان تعدى كل الجنس البشري شريعة الله ، ولكن بذبيحة ابنه انفتحت الطريق التي بواسطتها يمكنهم الرجوع إلى الله . وبنعمة المسيح يستطيعون أن يطيعوا شريعة الآب . وهكذا ففي كل عصر ، ومن وسط الارتداد والعصيان يجمع الله لنفسه شعبا يكون أمينا له — الشعب ( الذي شريعتي في قلبه ) (إشعياء 7 : 51) . AA 294.5
لقد أضل الشيطان الملائكة بمخاتلاته ، وهكذا كان دائما يتقدم في عمله بين الناس وسيظل على سياسته هذه إلى النهاية ، فلو أنه أعلن على الملأ أنه يحارب الله وشريعته لكان الناس يتحذرون ، ولكنه يتنكر ويمزج الحق بالضلال . إن أخطر الأكاذيب هي تلك التي يخالطها الحق ، وبهذه الوسيلة يقبل الناس الضلالات التي تأسر النفوس وتدمرها ، وبنفس هذه الطريقة يحمل الشيطان العالم معه ، ولكن سيأتي اليوم الذي سيضع نهاية لانتصاره . AA 295.1
إن معاملات الله للعصيان ستكون نتيجتها كشف كل العمل الذي ظل يعمل طويلا في الخفاء تحت طي الكتمان ، وأن نتائج حكم الشطيان وثمار إغفال الوصايا الإلهية وطرحها جانبا ستكشف أمام أنظار كل الخلائق العاقلة ، وستزكى لشريعة الله تماما وسيرى بأن كل معاملات الله كان القصد منها خير شعبه الأبدي وخير كل العوالم التي خلقها . والشيطان نفسه سيعترف على مرأى ومسمع كل سكان الكون بعدالة حكم الله وعدالة شريعته . AA 295.2
ولن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي فيه يقوم الله ليبرر سلطانه المهان ( لأنه هوذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب إثم سكان الأرض فيهم ) (إشعياء 26 : 21) ( ومن يحتمل يوم مجيئه ؟ ومن يثبت عن ظهوره ؟ ) (ملاخي 3 : 2) إن بني إسرائيل بسبب إثمهم منعوا من الاقتراب إلى الجبل حين كان مزمعا أن ينزل عليه ليعلن شريعته لئلا يهلكوا بنار مجد حضوره ، فإذا كانت مظاهر قدرته هذه ميزت المكان المختار لإعلان شريعة الله فكم يكون كرسي قضائه رهيبا حين يجيء لينفذ أحكام تلك الشرائع المقدسة ! وكيف يستطيع أولئك الذين داسوا سلطانه ادن يحتملوا مجده في ذلك اليوم العظيم يوم الجزاء الأخير ؟ إن مخاوف سيناء صورت للشعب مناظر يوم الدينونة ، وإن صوت البوق دعا إسرائيل لملاقاة الله ، وصوت رئيس الملائكة وبوق الله سيدعو الأحياء والأموت من كل الأرض للمثول أمام ديانهم . إن الآب والابن ، تحف بهما جماهير الملائكة ، كانا حاضرين على الجبل ، وفي يوم الدينونة العظيم سيأتي المسيح ( في مجد أبيه مع ملائكته ) (متى 16 : 27) . حيئنذ سيجلس على كرسي مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب . AA 295.3
وحين أعلن حضور الله على جبل سيناء كان مجد الرب كنار آكلة أمام عيون كل إسرائيل ، ولكن حين يجيء المسيح في مجده مع ملائكته القديسين فكل الأرض ستكون متقدة بنار حضوره الرهيب ( يأتي إلهنا ولا يصمت . نار قدامه تأكل ، وحوله عاصف جدا . يدعو السماوات من فوق ، والأرض إلى مداينة شعبه ) (مزمور 50 : 3 ، 4) إن نهرا من نار سيخرج من أمامه وستذيب النار العناصر بحرارة ملتهبة ، وستحترق الأرض والمصنوعات التي فيها ( عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته ، في نار لهيب ، معطيا نقمة للذين لا يعرفون الله ، والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح ) (2 تسالونيكي 1 : 7 : 8) . AA 296.1
منذ خلق الإنسان لم يرى قط إعلان قدرة الله كما حدث حين أعلنت الشريعة من سيناء . ( الأرض ارتعدت ، السماوات أيضا قطرت أمام وجه الله . سينا نفسه من وجه الله إله إسرائيل ) (مزمور 68 : 8) وفي وسط أرهب انتقاضات الطبيعة سمع صوت من السحابة كصوت بوق ، وكان الجبل يرتجف من أسفله إلى قمته . أما جموع إسرائيل الذين كانوا شاحبي الوجوه ومرتعبين من هول الخوف فقد انطرحوا بوجوههم على الأرض . إن ذلك الذي صوته زعزع الأرض قد أعلن قائلا : ( إني مرة أيضا أزلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضا ) (عبرانيين 12 : 26) والكتاب يقول : ( الرب من العلاء يزمجر ، ومن مسكن قدسه يطلق صوته ، يزأر زئيرا على مسكنه ) ( فترجف السماء والأرض ) (إرميا 25 : 30 ، يوئيل 3 : 16) وفي يوم ذلك المجيء العظيم تهرب السماء ( كدرج ملتف ) (رؤيا 6 : 14) وكل جبل وجزيرة سيتزحزحان من موضعهما ( ترنحت الأرض ترنحا كالسكران ، وتدلدلت كالعرزال ، وثفل عليها ذنبها ، فسقطت ولا تعود تقوم ) (إشعياء 24 : 20) . AA 296.2
( لذلك ترتخي كل الأيادي ( ويتحول كل وجه ( إلى صفرة ( )ويذوب كل قلب إنسان فيرتاعون . تأخذهم أوجاع ومخاض( يقول الرب : ( أعاقب المسكونة على شرها ( ) وأبطل تعظم المستكبرين وأضع تجبر العتاة ( (إشعياء 13 : 7 ، 8 ، 11 ، 13 ، إرميا 30 : 6) . AA 296.3
وحين أتى موسى من حضرة الله في الجبل حيث أخذ لوحي الشهادة لم يستطع بنو إسرائيل المذنوبين احتمال النور المجيد الذي كان يشع من وجهه ، فكم بالحري لا يستطيع العصاة أن يشخصوا في وجه ابن الله حين يظهر في مجد أبيه يحف به كل الجند السماويين ليصنع دينونة على من قد تعدوا شريعته ورفضوا كفارته . فأولئك الذين استخفوا بشريعة الله وداسوا دم المسيح تحت أقدامهم ( وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء .. أخفوا أنفسهم من المغاير وفي صخور الجبال ، وهم يقولون للجبال والصخور : اسقطي علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف . لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم . ومن يستطيع الوقوف ؟ ) (رؤيا 6 : 15 — 17) ( في ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية .. للجرذان والخفافيش ، ليدخل في نقر الصخور وفي شقوق المعاقل ، من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض ) (إشعياء 2 : 20 ، 21) . AA 296.4
حيئنذ سيرى ان تمرد الشطيان على الله قد انتهى بالهلاك له ولكل من اختاروا لأن يكونوا رعايا له . لقد أبان للناس أن التعدي ينتج عنه خير جزيل ، ولكن ( لأن أجرة الخطية هي موت ) (رومية 6 : 23) ( هوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور ، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشا ، ويحرقهم اليوم الآتي ، قال رب الجنود ، فلا يبقي لهم أصلا ولا فرعا ) (ملاخي 4 : 1) إن الشطيان الذي هو أصل كل خطية ، وكل فاعلي الشر الذين هم أغصانه سيستأصلون كلية . وستتلاشى الخطية وكل ما نتج عنها من ويل ودمار . يقول المرنم : ( أهلكت الشرير ، محوت اسمهم إلى الدهر والأبد . العدو تم خرابه إلى الأبد ) (مزمور 9 : 5 ، 6) . AA 297.1
ولكن في وسط عاصفة غضب الله لن يكون هناك ما يدعوا إلى خوف أولاد ( . . .الرب ملجأ لشعبه ، وحصن لنبي إسرائيل ( (يوئيل 3 : 16) فاليوم الذي يجيء بالرعب والهلاك لمن قد تعدوا شريعة الله سيجيء للمطيعين ( بفرح لا ينطق به ومجيد ) (1 بطرس 1 : 8) ، والرب يقول : ( اجمعوا إليّ أتقيائي ، القاطعين عهدي على ذبيحة » وتخبر السماوات بعدله ، لأن الله هو الديان ( (مزمور 50 : 5 ، 6) . AA 297.2
( فتعودون وتميزون بين الصديق والشرير ، بين من يعبد الله ومن لا يعبده ) (ملاخي 3 : 18) )اسمعوا لي يا عارفي البر ، الشعب الذي شريعتي في قلبه ) )هأنذا قد أخذت من يدك كأس الترنح .. لا تعودين تشربينها في ما بعد . أنا أنا هو معزيكم) (إشعياء 51 : 7 ، 22 ،12) . ( فإن الجبال تزول ، والآكام تتزعزع ، أما إحساني فلا يزول عنك ، وعهد سلامي لا يتزعزع ، قال راحمك الرب ) (إشعياء 54 : 10) . AA 297.3
وسيكون من نتائج تدبير الخلاص العظيم أن العالم يستعيد رضى الله كاملا ، فيستعيد كل ما قد خسر بسبب الخطية . وليس الإنسان وحده بل الأرض أيضا ستعتق لتكون الموطن الأبدي للطائعين . لقد ظل الشيطان يحارب مدة ستة آلاف سنة ليملك على العالم . والآن قد تم غرض الله الأصلي من خلقه للعالم ( أما قديسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين ) (دانيال 7 : 18) . AA 298.1
( من مشرق الشمس إلى مغربها اسم الرب مسبح ) (مزمور 113 : 3) ، ( في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده ) ( ويكون الرب ملكا على كل الأرض ) (زكريا 14 : 9) . يقول الكتاب : ( إلى الأبد يا رب كلمتك مثبتة في السماوات ) ( كل وصاياه أمينة . ثابتة مدى الدهر والأبد ) (مزمور 119 : 89 ، 111 : 7 ، 8) إن الوصايا المقدسة التي أبغضها الشيطان وحاول أن يلاشيها سيكرمها سكان المسكونة الأبرار . ( لأنه كما أن الارض تخرج نباتها ، وكما أن الجنة تنبت مزروعاتها ، وهكذا السيد الرب ينبت برا وتسبيحا أمام كل الأمم ) (إشعياء 61 :11). AA 298.2
* * * * *