في فترة غياب موسى كان الوقت وقت انتظار وتوقف لإسرائيل ، لقد عرف الشعب أن قائدهم صعد فوق الجبل مع يشوع ، وأنه دخل في السحابة الكثيفة الظلام التي كان يمكن رؤيتها من أسفل السهل ، والمستقرة على قمة الجبل ، والتي كانت تلتمع فيها بين حين وآخر أنوار بروق حضور الله . كانوا ينتظرون حضور موسى بشوق . ولأنهم كانوا معتادين وهم في مصر رؤية تمثيلات مادية للآلهة فقد غدا من الصعب عليهم أن يتكلوا على كائن غير منظور ، ولذلك كانوا يعتمدون على موسى ليسند إيمانهم ، والآن فها هو قد أخذ من بينهم ، وقد مضت أيام وأسابيع ومع ذلك فهو لم يرجع ، ورغم أنهم كانوا ينظرون السحابة ماثلة أمامهم فقد تراءى لكثيرين ممن كانوا في المحلة أن قائدهم رحل عنهم ، أو أنه ذهب طعما للنار الآكلة ومات محترقا. AA 274.1
في خلال فترة الانتظار هذه كان لديهم متسع من الوقت للتأمل في شريعة الله التي سمعوها ولإعداد قلوبهم لقبول الإعلانات الجديدة التي سيعلنها لهم . ولم يكن لديهم وقت كاف لمثل هذا العمل ، ولو أنهم طلبوا إدراكا أكمل لمطاليب الله وكانوا متضعي القلوب أمامه لكان ذلك درعا تقيهم من التجربة ، إلا أنهم لم يفعلوا هذا ، فسرعان ما صاروا عديمي الاكتراث عديمي الانتباه ومتمردين ، وقد بدا هذا واضحا بين اللفيف بنوع خاص ، فلقد نفد صبرهم إذ كانوا يريدون مواصلة السير إلى أرض الموعد التي تفيض لبنا وعسلا ، ولكن وعد امتلاكهم لأرض الموعد كان يشترط فيه الطاعة ، أما هم فقد نسوا هذا وأغفلوه . وكان بينهم من اقترحوا العود إلى مصر ، ولكن سواء كان سيرهم رجوعا — إلى مصر أو تقدما إلى كنعان فإن جماهير الشعب كانوا قد عقدوا العزم على ألا ينتظروا موسى أكثر من ذلك . AA 274.2
فإذا أحسوا بعجزهم في غياب قائدهم عادوا إلى خرافاتهم القديمة ، وكان ( اللفيف ) هم أول من أمعنو في التذمر وإظهار الضجر ، وكانوا هم القادة في الارتداد الذي تبع ذلك . وبين كل الخلائق التي كان المصريون يعتبرونها رمزا للآلهة كان العجل ، فاقترح أولئك الذين مارسوا عبادة الأوثان في مصر أن يصوروا عجلا فصنعوه وعبدوه ، ورغب الشعب في عمل صورة تمثل الله وتسير أمامهم بدلا من موسى . إن الله لم يعط للناس أي صورة عن نفسه ، وقد نهى عن كل تمثيل مادي لذلك الغرض . ثم أن العجائب العظيمة التي أجراها في مصر وعبر بحر سوف كان القصد منها تثبيت إيمانهم فيه كالإله الحقيقي الوحيد ومعين إسرائيل القدير غير المنظور . وقد منحت لهم رغبتهم في أن يكون لهم إعلان منظور لحضوره في عمود السحاب والنار الذي كان يرشد جموعهم وفي إعلان مجده على جبل سيناء ، ولكن مع وجود سحابة حضوره ماثلة أمام عيونهم ارتدوا بقلوبهم إلى أوثان مصر ومثلوا مجد الله غير المنظور في صورة ثور (انظر خروج 32) . AA 275.1
وفي غياب موسى كانت السلطة القضائية في يد هارون فاجتمع جمهور غفير من الشعب حول خيمته قائلين له : ( قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر ، لا نعلم ماذا أصابه ) ثم قالوا إن السحابة التي قادتهم إلى ذلك المكان استقرت الآن على الجبل بصفة مستديمة ، ولن تعود تقودهم في رحلاتهم ، فينبغي أن يكون لهم تمثال في مكانها ، وإذا قرروا العودة إلى مصر كما اقترح بعضهم فسيجدون نعمة في عيون المصريين لو حملوا هذا التمثال واعترفوا به إلها لهم . AA 275.2
مثل هذه الأزمة كانت تتطلب وجود رجل ثابت الحزم قوي الإرادة ذي شجاعة لا تعرف الخوف أو التراجع ، رجل يعتبر كرامة الله أعظم من رضى الجماهير أو سلامة شخصه وحتى الحياة نفسها . ومن قائد إسرائيل الحالي لم يكن حائزا هذه الصفات . اعترض هارون على الشعب بكل ضعف ووجل ، ولكن تردده وتهيبه في تلك اللحظة الحرجة زادا من تصميم الشعب . وقد زاد الشغب ، وساد على الشعب نوع من الخبل أو الجنون الأعمى عديم التفكير ، كانت هنالك جماعة ممن ظلوا على ولائهم لعهد الله ولكن الأكثرية الساحقة من الشعب اشتركت في ذلك الارتداد. وقليلون ممن نبذوا الاقتراح بعمل تمثال لأنه عبادة وثنية تحرش بهم الباقون وعاملوهم بكل خشونة ، وفي وسط ذلك الشغب والاهتياج قتلوهم . AA 275.3
خاف هارون على سلامته ، وبدلا من أن يقف بكل نبل وشجاعة للدفاع عن كرامة الله خضع لمطاليب الجماهير ، وكان أول ما عمله هو أنه طلب أن تجمع أقراط الذهب من كل الشعب ويؤتى بها إليه ، وكان يؤمل أن كبريائهم ستجعلهم يرفضون تلك التضحية . ولكنهم بكل رضى خلعوا عنهم زينتهم و من هذه صنع عجلا مسبوكا على مثال آلهة مصر ، فصرخ الشعب قائلين : ( هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ) وبكل نذالة سمح هارون بهذه الإهانة للرب ، بل لقد فعل أكثر من هذا فإذ رأى مقدار الحفاوة التي بها استقبل الشعب ذلك الصنم الذهبي بنى أمامه مذبحا وأعلن قائلا : ( غدا عيد للرب ) وانتشر هذا الخبر من جماعة إلى أخرى بواسطة أصوات المبوقين في المحلة كلها . ( فبكروا في الغد واصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة . وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ) وبحجة عمل عيد للرب أسلموا أنفسهم للشراهة والطرب الخليع . AA 276.1
ما أكثر ما نرى في أيامنا هذه المحبة الملذات متخفية في ثياب ( صورة التقوى ) ! إن تلك الديانة التي تبيح للناس الانغماس في إشابع رغباتهم النفسانية أو الشهوانية هي ديانة تسر الجماهير اليوم كما في أيام إسرائيل . كما أن هنالك كثيرين من المذعنين أمثال هارون ، الذين مع كونهم لهم السطلة في الكنيسة يخصعون لرغبات الناس غير المكرسين وهكذا يشجعونهم على التمادري في خطيتهم . AA 276.2
لم تكن قد مضت على أيام قليلة منذ أخذ أولئك العبرانيون على أنفسهم عهدا مقدسا أمام الله بأن يطيعوا صوته . لقد وقفوا يرتجفون خوفا أمام الجبل وهم يصغون إلى كلام الله القائل : ( لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ) وكان مجد الله لا يزال مستقرا فوق سيناء أمام عيون كل الجماعة ولكنهم ارتدوا وطلبوا آلهة أخرى ( صنعوا عجلا في حوريب ، وسجدوا لتمثال مسبوك ، وأبدلوا مجدهم بمثال ثور ) (مزمور 106 : 19 ، 20) أي جحود أكثر من هذا كان يمكن أن يظهروه ، وأية إهانة أكثر جرأة من هذه كان يمكن أن تصدر منهم نحو ذاك الذي أعلن نفسه لهم كالآب الرحيم والملك الكلي القدرة ؟! AA 276.3
وإذ كان موسى في الجبل أنذر بارتداد الشعب في المحلة وأمر بالعودة إليهم بدون إبطاء إذ قال له الله ( اذهب انزل . لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر . زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به . صنعوا لهم عجلا مسبوكا ، وسجدوا له ) . لقد كان الله يستطيع أن يقتل ذلك الارتداد في مهده ولكنه سمح له بأن يستفحل إلى هذا الحد لكي يمكنه أن يعلم الجميع درسا بمعاقبته للخيانة والارتداد . AA 276.4
لقد ألغي مع شعبه ، فأعلن الله لموسى قائلا : ( اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم ، فأصيرك شعبا عظيما ) لقد كان شعب إسرائيل ولا سيما اللفيف ميالين دائما للتمرد على الرب والتذمر على قائدهم . وكانوا يحزنونه بعدم إيمانهم وبعنادهم ، وكان أمر قيادتهم إلى أرض الموعد عملا شاقا ومتعبا جدا . لقد حرمتهم خطاياهم رضى الله ، وكان العدل يتطلب أملاكهم ، لذلك اقترح الله أن يهكلهم ويصير موسى أمة عظيمة . AA 277.1
قال الله : ( اتركني ... أفنيهم ) ولو قصد الله أن يهلك إسرائيل فمن ذا الذي كان يستطيع أن يتوسل لأجلهم ؟ ما كان أقل الذين يتركون الخطاة لمصيرهم ، وما كان أقل الذين يرفضون إبدال التعب والمشقة والتضحية التي لا يكافأون عليها بغير الجحود والتذمر ليقبلوا بكل سرور مركزا يضمن لهم الراحة والكرامة ، ما دام أن الرب نفسه هو الذي يقدم لهم تلك الراحة ! AA 277.2
إلا أن موسى فطن إلى وجود أساس للرجاء حيث لم يكن غير الفشل والغضب ، وأدرك أن كلام الله القائل له : ( اتركني ) لم يكن القصد منه منعه بل تشجيعه على التشفع دلالة على أنه لا شيء آخر غير صلوات موسى يمكن أن تخلص إسرائيل ، وأنه لو توسل إليه موسى هكذا فسيبقي على شعبه ( فتضرع موسى أمام الرب إلهه ، وقال لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة ؟ ) . AA 277.3
وقد أشار الرب إلى أنه قد تبرأ من شعبه ، وقد أخبر موسى قائلا عنهم : ( شعبك الذي أصعدته من أرض مصر ) ولكن موسى بكل وداعة تنازل عن حقه في قيادة إسرائيل . إنهم لم يكونوا شعب موسى بل شعب الله - ( شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة ) وقد توسل قائلا : ( لماذا يتكلم المصريون قائلين : أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ، ويفنيهم عن وجه الأرض ؟ ) . AA 277.4
وفي خلال الأشهر القليلة منذ ترك إسرائيل مصر انتشرت أخبار نجاتهم العظيمة ووصلت إلى أسماع كل الأمم المجاروة ، ولقد جثم الخوف والتوجس على صدور الوثنيين ، وكان الجميع يراقبون ليروا ما الذي سيفعله إله إسرائيل لشعبه ، فلو أنهم أهلكوا الآن فأعداؤهم سينتصرون ويهان الله ، وسيدّعي المصريون أن اتهاماتهم كانت صحيحة — فبدلا من أن يقود AA 277.5
الرب شعبه إلى البرية ليقدموا ذبائحهم وضحاياهم جعلهم يصيرون هم الضحايا . إنهم ما كانوا ليدخلوا في حسابهم خطايا إسرائيل . إن إهلاك الشعب الذي أكرمه الله على ملأ من العالم يجلب على اسمه العار . ما أعظم مسؤولية أولئك الذين أكرمهم الله إكراما عظيما في أن يجعلو اسمه تسبيحة في الأرض ، وبأي حرص يجب عليهم أن يتحفظوا من ارتكاب الخطية ومن أن يستمطروا على أنفهسم دينونة الله ، الأمر الذي يجعل الأشرار يعيرون اسمه ! AA 278.1
وإذ كان موسى يشفع في إسرائيل زايله جبنه في غمرة اهتمامه الشديد ومحبته لأولئك الذين من أجلهم استخدمه الله في صنع تلك العظائم ، وقد أصغى الرب إلى توسلاته واستجاب تلك الصلاة الدالة على إنكار الذات . لقد امتحن الله عبده ، امتحن أمانته ومحبته لتلك الجماعة الخاطئة الجاحدة ، وصمد موسى بكل نبل وشجاعة أمام الامتحان . إن اهتمامه بإسرائيل لم يكن ناشئا عن أي غرض نفساني . وكان نجاح شعب الله المختار أعلى ، في اعتباره ، من كل كرامة ذاتية ، وأغلى من امتياز صيرورته أبا لأمة عظيمة . وقد سر الله بأمانته وبساطة قلبه واستقامته فـأسند إليه ، كراع أمين ، تلك المأمورية العظيمة ، مأمورية قيادة الشعب إلى أرض الموعد . AA 278.2
فلما نزل موسى ويشوع من الجبل ( ولوحا الشهادة ) بيد موسى سمعا أصوات هتاف وصراخ من ذلك الجمع المهتاج إذ كانوا في حالة ضجيج وحشي . أما يشوع الرجل المحارب فأول ما خطر له هو أن عدوا يهاجم الجماعة فقال : ( صوت قتال في المحلة ) ولكن حكم موسى بالنسبة إلى ذلك الاضطراب كان أقرب إلى الصواب . لم يكن الصوت صوت قتال بل مرح وعربدة ، فقال : ( ليس صوت صياح النصرة ولا صوت صياح الكسرة ، بل صوت غناء أنا سامع ) . AA 278.3
فلما اقتربا من المحلة شاهدا الشعب يهتفون ويرقصون حول صنمهم ، لقد كان المنظر منظر عردبة وثنية ، على مثال ما كان يشاهد في الأعياد الوثنية في مصر ، ولكن ما كان أبعد الفرق بين هذه الجلبة والعبادة المقدسة والوقورة لله ! فاغتم موسى جدا . إنه قادم توا من محضر مجد الله ، ومع أن الرب كان قد أخبره بما يحدث في المحلة فإنه لم يكن مستعاد لذلك العرض المقيت لانحطاط إسرائيل ، فحمي غصبه . ولكي يظهر كراهيته ونفوره من جريمتهم طرح لوحي الحجر وكسرهما على مرأى من كل الشعب ، وكان يعني بذلك أنه ما داموا قد كسروا عهدهم مع الله فالله كسر عهده معهم . AA 278.4
وإذ دخل موسى المحلة مر في وسط تلك الجموع المعربدة ، وإذ أمسك بالصنم ألقى به في النار ثم طحنه حتى صار ناعما وذراه على وجه مياه الجدول الجاري من الجبل وسقى الشعب . وبهذا تبرهن لهم بطل وتفاهة الإله الذي كانوا يتعبدون له . AA 279.1
واستدعى ذلك القائد العظيم أخاه المذنب ، وبكل عبوسة سأله قائلا : ( ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة ؟ ) فحاول هارون أن يحمي نفسه ويدافع عن مسلكه بأن أخبره عن صخب الشعب ، وبأنه لو لم يذعن لرغباتهم لكان قد قتل ، قائلا : ( لا يحم غضب سيدي . أنت تعرف الشعب أنه في شر . فقالوا لي : اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر ، لا نعلم ماذا أصبه . فقلت لهم : من له ذهب فلينزعه ويعطني . فطرحته في النار فخرج هذ العجل ) لقد أراد أن يقنع موسى بأن معجزة قد حدثت — أن الذهب الذي قد ألقي به في النار استحال إلى عجل بقوة خارقة للطبيعة . ولكن أعذار هارون ومراوغاته لم تكن تجدي فتيلا ، ولذلك عومل ، بالعدل على أنه المذنب الأكبر . AA 279.2
إن حقيقة كون هارون قد حصل على بركات وإكرامات أكثر من كل ما حصل عليه الشعب زادت من هول خطيته وشناعتها . إن هارون ( قدوس الرب ) (مزمور 106 :16) هو الذي صنع الصنم وأعلن عن عيده ، إنه هو الذي كان قد تعين ليكون كليما لموسى ، وشهد الله عنه قائلا : ( أنا أعلم أنه هو يتكلم ) (يحسن الكلام) - (خروج 4 : 14) وهو الذي أخفق في إيقاف أولئك الوثنيين عند حدهم وفي منعهم عن إجرء قصدهم الذي به تحدوا السماء ، فذاك الذي عمل الله بواسطته في إيقاع أحكام الله وضرباته على المصريين وألهتهم ، سمع قول الشعب ، دون أن يتأثر ، معلنين أمام التمثال المسبوك : ( هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعتدك من أرض مصر ) إنه هو الذي كان مع موسى على الجبل ورأى مجد الرب ، ورأى أنه في ظهور ذلك المجد لم يكن هناك ما يمكن أن تؤخذ له صورة ، وهو هو نفسه الذي حول ذلك المجد إلى تمثال ثور . ذاك الذي أسند الله إليه أمر حكم الشعب في غياب موسى هو الذي أقر عصيان الشعب ( وعلى هارون غضب الرب جدا ليبيده ) (تثنية 9 : 20) ولكن إجابة لشفاعة موسى الحارة أبقي على حياة هارون . وفي توبته وتذلله بسبب هذه الخطية العظيمة عاد الله للرضى عنه . AA 279.3
لو كان لهارون من الشجاعة ما يجعله يثبت إلى جانب الحق دون التفات إلى العواقب لأمكنه أن يوقف ذلك الارتداد عند حده ، ولو أنه بدون تردد ثبت على ولائه لله ، ولو أنه بصّر الشعب بمخاطر سيناء وذكرهم بالعهد المقدس الذي عاهدوا به الله أن يكونوا مطيعين لشريعته لأمكن إيقاف ذلك الشر عند حده ، ولكن إذعانه لرغبات الشعب وعدم تردده في تنفيذ خططهم وهو هادئ النفس جرأهم على الإمعان في خطيتهم والتمادي فيها أكثر مما فكروا من قبل . AA 280.1
فلما جابه موسى أولئك العصاة بعد عودته إلى المحلة ، فإن توبيخاته الصارمة والغضب الذي أظهره في كسر لوحي الشريعة المقدسين كانت في نظر الشعب على نقيض ما فعله أخوه هارون في كلامه الحلو وتصرفاته الوقورة ، ولذلك مالوا إلى جانب هارون . ولكي يبررهارون نفسه عاد باللائمة على الشعب إذ اعتبرهم مسؤولين عن الضعف الذي أبداه في الخضوع لمطالبهم ، ولكن بالرغم من ذلك فقد كانوا معجبين بلطفه وصبره . غير أن الله لا ينظر كما ينظر الإنسان ، فإن روح الخنوع والاستسلام التي ظهرت في هارون حين رغب في إرضاء الشعب قد أعمت عينيه عن هول الجريمة التي أقرها . إن الطريق الذي سلكه في كونه ألقى بنفوذه إلى جانب الخطية في إسرائيل كان من نتائجه أن مات آلاف من الشعب وكم كان البون شاسعا في هذا الأمر بين هارون وموسى الذي إذ كان ينفذ قضاء الله بكل أمانة برهن على أن خير إسرائيل أغلى في نظره من النجاح أو الكرامة أو الحياة نفسها . AA 280.2
ليس بين كل الخطايا التي يعاقب عليها الله خطية أفظع في نظره من تلك التي تشجع الآخرين على فعل الشر . إن الله يريد أن يبرهن خدامه على ولائهم له حيث أنهم يوبخون العصيان بكل أمانة مهما يكن ذلك العمل مؤلما ، فالذين عهدت إليهم السماء برسالة يؤدونها ينبغي ألا يكونوا ضعفاء أو مذعنين انتهازيين . عليهم ألا يهدفوا إلى تعظيم أنفسهم ، ولا أن يتهربوا من القيام بالواجبات غير المرغوب فيها لديهم بل أن يتمموا عمل الرب بولاء لا أثر فيه للتردد . AA 280.3
ومع أن الله قد أجاب صلاة موسى في الحيلولة بين بني إسرائيل والهلاك فإن ذلك الارتداد العلني كان لا بد له من قصاص علني . إن العصيان الذي سمح هارون للشعب بالوقوع فيه ، إن لم يسحق بسرعة سيحدث شغبا وجرأة لعلم الشر ويوقع الأمة كلها في هلاك لا يجبر ، إذا فليمحق ذلك الشر بمنتهى القسوة الرهيبة ، فإذ وقف موسى في باب المحلة قال للشعب : ( من للرب فإلي ) فالذين لم يشتركوا في ذلك الارتداد كان يجب أن يتخذوا موقفهم عن يمين موسى ، والذين أذنبوا وتابوا يقفون عن يساره ، فأطاعوا الأمر . ووجد أن سبط لاوي لم يشترك أحد أفراده في تلك العبادة الوثنية . ومن بين الأسباط الأخرى وجد عدد كبير جدا من الذين مع كونهم أخطأوا قد أعلنوا توبتهم ، إلا أن جمعا غفيرا آخر ومعظمهم من اللفيف الذي أوعزوا بصنع العجل بكل عناد أصروا على التمرد والعصيان . فباسم ( الرب إله إسرائيل ) أمر موسى من كانوا عن يمينه الذين حفظوا أنفسهم من عبادة الأوثان أن يتقلدوا سيوفهم ويقتلوا كل من أصروا على التمرد ( ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل ) ، فبدون اعتبار للمركز أو الجنس أو الصداقة قطع أولئك الزعماء الثائرون الأشرار من أرض الأحياء ، أما الذين تابوا أو تذللوا فقد أبقي على حياتهم . AA 280.4
كان الذين باشروا ذلك العمل المرعب يعملون بسلطان الله إذ كانوا ينفذون حكم ملك السماء . فليحترس الناس لئلا وهم في عماهم البشري يحكمون على بني جنسهم ويديوننهم ، ولكن حين يأمرهم الله بأن ينفذوا حكمه على الإثم فينبغي أن يطيعوه . إن أولئك الذين قاموا بهذا العمل المؤلم أعلنوا بهذه الكيفية كراهيتهم للعصيان وعبادة الأوثان ، وكرسوا أنفسهم تكريسا أكمل لخدمة الإله الحقيقي ، فأكرم الرب أمانتهم بأن ميز سبط لاوي على باقي الأسباط . AA 281.1
لقد ارتكب بنو إسرائيل خيانة ضد ذلك الملك الذي كان قد أغدق عليهم بركاته ، والذي كانوا قد تعهدوا من تلقاء أنفسهم بأن يطيعوه ، فلكي يصان حكم الله وسلطانه كان لا بد أن يعامل الخونة بالعدل ، ومع ذلك فحتى في هذا الوقت ظهرت رحمة الله ، فبينما حفظت كرامة شريعته منحت لهم حرية الاختيار وقدمت للجميع فرصة للتوبة ، ولم يقطع من أرض الأحياء غير الذين أصروا على العصيان . AA 281.2
كان من الضروري جدا أن تعاقب هذه الخطية لترى الأمم المجاورة سخط الله على عبادة الأوثان . وبتنفيذ العدالة في المذنبين كان ينبغي لموسى الذي كان آلة في يد الله ، أن يكتب في السفر احتجاجا علنيا حازما ضد خطيتهم . وحين يدين الإسرائيليون فيما بعد وثنية القبائل المجاورة فإن أعداء إسرائيل سيلصقون بهم التهمة قائلين إن هذا الشعب الذي اعترف أن الرب هو إلهه قد صنعوا عجلا وعبدوه في حوريب . وحينئذ فمع أنهم سيلتزمون بأن يعترفوا بذلك الحق المخجل فإن بني إسرائيل سيشيرون إلى المصير الرهيب الذي صار إليه العصاة برهانا على أن خطيتهم لم يقرها الله ولا أغضى عنها . AA 281.3
وقد تطلبت المحبة كما تطلب العدل تماما تنفيذ حكم العدالة على هذه الخطية . إن الله هو حارس شعبه كما أنه ملكهم . وهو يستأصل كل من يصرون على العصيان حتى لا يسقطوا الآخرين معهم إلى الهلاك . إن الله بإبقائه على حياه قايين برهن للكون كله على النتيجة التي كان يمكن أن يصير إليها العالم لو بقيت الخطية بدون قصاص . إن التأثير الذي أحدثته حياة قايين وتعاليمه في نسله من بعده أدى إلى حالة من الفساد استوجبت هلاك العالم كله بالطوفان ، وإن تاريخ الناس الذين عاشوا قبل الطوفان يشهد على أن طول العمر ليس بركة للخاطئ وأن صبر الله الطويل لم يردعهم عن شرورهم ، فعلى قدر ما طالت حياة الناس زاد فسادهم . AA 282.1
وهذا هو نفس ما يصدق على الارتداد في سيناء ، فلو لم يقع قصاص سريع على المتعدين لنتجت نفس تلك النتيجة ، ولكان العالم يصير إلى حالة من الفساد شبيهة بحالته في أيام نوح ، لو أبقي على هؤلاء العصاة لتبعت ذلك شرور كثيرة أكثر مما حدث حين أبقي على حياة قايين . إن رحمة الله قد سمحت بهلاك الألوف لكي تمنع لزوم إيقاع حكم الدينونة على الملايين . فلكي يخلص الأكثرية كان لا بد من معاقبة الأقلية . زد على ذلك أن الشعب ، إذ كانوا قد طرحوا عنهم نير الولاء لله ، أسقطوا حقهم في حمايته لهم . فإذ يحرمون من تلك الحماية فالأمة كلها ستتعرض لعدوان أعدائها ، ولو لم يقض على الشر فورا لكان الشعب قد سقطوا بأيدي أعدائهم العديدين الأشداء ، كان من اللازم لأجل خير إسرائيل ولكي تتعلم كل الأجيال القادمة درسا نافعا ، أن تعاقب الجريمة على الفور ، وقد كانت رحمة عظيمة للخطاة أنفسهم أن يوقفوا عن السير في طريقهم الشرير . إذ لو أبقي على حياتهم فإن نفس الروح التي ساقتهم إلى التمرد على الله كان لا بد من أن تظهر في الكراهية والحروب بينهم ، وأخيرا يهلك بعضهم بعضا . فلأجل مبحة الله للعالم ولإسرائيل وحتى للعصاة أنفسهم عوقبت تلك الجريمة بقسوة وسرعة مخيفة . AA 282.2
وإذ اكتشف الشعب هول جريمتهم ساد الرعب كل المحلة ، فقد خافوا لئلا يهلك الرب كل المذنبين ، وإذ رثى موسى لهم في كربهم وعدهم بالذهاب مرة أخرى ليتضرع إلى الله لأجلهم . AA 283.1
قال لهم : ( أنتم قد أخطأتم خطية عظيمة ، فأصعد الآن إلى الرب لعلي أكفر خطيتكم ) . فذهب ، وفي اعترافه أمام الله قال : ( آه ، قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب . والآن إن غفرت خطيتهم ، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت ) فجاءه الجواب : ( من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي . والأن اذهب اهد الشعب إلى حيث كلمتك . هوذا ملاكي يسير أمامك . ولكن في يوم افتقادي أفتقد فيهم خطيتهم ) . AA 283.2
في صلاة موسى تتجه أفكارنا إلى أسفار السماء المسجل فيها بكل دقة أسماء الناس وأعمالهم ، صالحة كانت أم شريرة . وسفر الحياة يشمل أسماء كل من دخلوا خدمة الله ، فإذا ارتد بعضهم عنه وفي عنادهم أصروا على السير في طريق الخطية وتقست قلوبهم أخيرا ضد تأثير وحه القدوس ففي يوم الدينونة ستمحى أسماؤهم من سفر الحياة ويحكم عليهم بالهلاك . وقد تحقق موسى هون مصير الخطاة ، ومع ذلك فإذا كان لا بد من أن يرفض الرب إسرائيل فقد رغب هو أن يمحى اسمه من ضمن أسمائهم . إنه لم يكن يحتمل أن يرى قصاص الله يحل بأولئك الذين أظهر الرب رحمة عظيمة في خلاصهم . إن تشفع موسى في إسرائيل يرمز إلى وساطة المسيح لأجل الخطاة ، ولكن الرب لم يسمح لموسى أن يحمل خطية العصاة كما حمل المسيح : بل قال له : ( من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي ) . AA 283.3
وفي حزن عميق دفن الشعب قتلاهم . لقد سقط ثلاثة آلاف بفم السيف . وبعد ذلك بقليل تفشى الوبأ في المحلة والآن جاءتهم رسالة تقول إن الرب لن يعود يسير معهم في رحلاتهم إذ أعلن الرب قائلا : ( إني لا أصعد في وسطك لأنك شعب صلب الرقبة ، لئلا أفنيك في الطريق ) ثم أمرهم قائلا : ( ولكن الآن اخلع زينتك عنك فاعلم ماذا أصنع بك ) (انظر خروج 33) وقد شمل المحلة كلها النوح والبكاء ، ففي انسحاق وتذلل ( نزع بنو إسرائيل زينتهم من جبل حوريب ) . AA 283.4
وبموجب تعليمات إلهية نقلت الخيمة التي كانت تقام فيها العبادة مؤقتا ( بعيدا عن المحلة ) وكان هذا برهانا جديدا على أن الله قد انسحب من بينهم . إن الله سيعلن نفسه لموسى ولكن ليس لمثل ذلك الشعب ، وأحس الشعب بذلك التوبيخ ومرارته فأحزنهم ذلك وآلمهم جدا ، وبدا تلك الجماعة المعذبة الضمير أن هذا نذير بكارثة أعظم . ألم يفصل الرب موسى بعيدا عن المحلة لكي يهلكهم هلاكا ماحقا ؟ إلا أنهم لم يتركوا بدون رجاء . نعم إن الخيمة نصبت بعيدا عن المحلة إلا إن موسى دعاها ( خيمة الاجتماع ) فكل من تابوا حقا ورغبوا في الرجوع إلى الرب سُمح لهم بالتوجه إلى الخيمة للاعتراف بخاطاياهم وطلب رحمة الرب ، فبعد عودتهم إلى خيامهم دخل موسى إلى خيمة الاجتماع ، وبكل شوق واجف جعل الشعب يرقبون ظهور علامة على أن تشفعات موسى فيهم قد قبلت ، فلو تنازل الله لمقابلته لكان لهم أن يؤملوا أنهم لن يهلكوا كلية ، فلما نزل عمود السحاب ووقف عن باب الخيمة بكى الشعب من فرط السرور ، وقام كل الشعب وسجدوا كل واحد في باب خيمته . AA 284.1
عرف موسى جيدا مقدار زيغان وضلال وعمى أولئك الذين كانوا تحت رعايته ، كما عرف الصعاب التي كان عليه أن يحاربها ويقوى عليها ، ولكنه كان قد تعلم أنه لكي يضبط الشعب وجب عليه أن يطلب العون من الله ، فتوسل إليه في طلب إعلان أوضح لإرادته تعالى ويقين أكمل بحضوره ، فقال : ( أنت قائل لي : أصعد هذا الشعب ، وأنت لم تعرفني من ترسل معي . وأنت قد قلت عرفتك باسمك ، ووجدت أيضا نعمة في عيني . فالآن إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فعلمني طريقك حتى أعرفك لكي أجد نعمة في عينيك . وانظر أن هذه الأمة شعبك ) . AA 284.2
فجاءه الجواب يقول : ( وجهي يسير فأريحك ) على أن موسى لم يقنع بهذا . لقد طغى على نفسه شعور بالنتائج المخيفة التي تقع لو ترك الرب إسرائيل لعنادهم وقساوة قلوبهم . لم يكن يحتمل أن تنفصل مصالحه عن مصالح إخوته ، فصلى إلى الرب حتى يعود للرضا عن شعبه ، وأن تظل علامة حضوره مرشدة لهم في رحلاتهم ، فقال : ( إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا ، فإنه بماذا يعلم أني وجدت نعمة في عينيك أنا وشعبك ؟ أليس بمسيرك معنا ؟ فنمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب الذين على وجه الأرض ) . AA 284.3
( فقال الرب لموسى : هذا الأمر أيضا الذي تكلمت عنه أفعله ، لأنك وجدت نعمة في عيني ، وعرفتك باسمك ) ومع ذلك فلم يكف النبي عن توسلاته ، لقد أجيب إلى كل طلباته ولكنه كان يتعطش إلى أدلة أعظم على رضى الله ، وها هو الآن يطلب أمرا لم يسبق لبشري أن طلبه إذ قال : ( أرني مجدك ) . AA 285.1
ولم يوبخه الله على طلبه هذا كأنه دليل على الكبرياء أو الغطرسة ، بل أجابه جوابا كريما إذ قال : ( أجيز كل جودتي قدامك ) إن مجد الله المكشوف لا يمكن لإنسان في هذ الجسد القابل للفناء أن يراه ويعيش ، ولكن الله أكد لموسى أنه سيريه من مجده الإلهي على قدر احتماله . فدعي للصعود إلى قمة الجبل مرة أخرى ، وإذ بتلك اليد االتي أبدعت العالم ، تلك اليد التي تزحزح الجبال ولا تعلم (أيوب 9 : 5) أمسكت بهذا المخلوق المجبول من التراب ، هذا الرجل العظيم الإيمان ووضعته في شق في الصخرة حيث مر مجد الله وجودته أمامه . AA 285.2
فهذا الاختبار - وفق كل شيء آخر وعد الله له بأن وجهه سيلازمه — كان تأكيدا لموسى بالنجاح في العمل الذي أمامه ، واعتبر هذا أثمن بكثير من كل حكمة مصر وعلومها ، ومن كل ما بلغه كرجل دولة أو كقائد حربي . لا يمكن أن أية قوة أرضية أو حنكة عالمية أو علم مادي تنفع بديلا عن حضور الله المستمر مع الإنسان . AA 285.3
بالنسبة إلى العصاة مخيف هو الوقوع بين يدي الله الحي ، أما موسى فقد وقف وحده في حضرة الله السرمدي ولم يخلف لأن روحه كانت في حالة انساجم مع خالقه ، يقول المرنم : ( إن راعيت إثما في قلبي لا يستمع لي الرب ) (مزمور 66 : 18) ولكن : ( سر الرب لخائفيه ، وعهده لتعليمهم ) (مزمور 25 : 14) AA 285.4
وقف أعلن الله نفسه قائلا : ( الرب إله رحيم ورؤوف ، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء . حافظ الإحسان إلى ألوف . غافر الإثم والمعصية والخطية . ولكنه لن يبرئ إبراء ) (انظر خروج 34) . AA 285.5
( فأسرع موسى وخر إلى الأرض وسجد ) ثم عاد يتوسل إلى الرب لعله يغفر إثم شعبه ويتخذهم ميراثا ، فأجيب إلى طلبه ، ووعد الرب في رحمته أن يعود ليشمل برضاه بني إسرائيل ، ولأجلهم يفعل عجائب لم تخلق ( في كل الأرض وفي جميع الأمم ) . AA 285.6
ظل موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة . وفي هذه المرة كما في المرة الأولى كان الرب يعوله بطريقة عجائبية . لم يسمح لأحد آخر أن يصعد معه ، ولم يكن يسمح لأحد بالاقتراب من الجبل في أثناء غيابه ، وبأمر الرب أعد لوحي حجر وأخذهما معه في صعوده إلى أعلى الجبل ، ومرة أخرى ( كتب (الرب) على اللوحين كلمات العهد ، الكلمات العشر ) وفي أثناء تلك الفترة الطويلة التي قضاها موسى في شركة مع الله انعكس على وجهه مجد وجه الرب ولم يكن هو يعلم ذلك ، ففي أثناء نزوله من الجبل كان وجهه يلمع بنور يبهر الأبصار . إن نورا كهذا النور كان يتلألأ على وجه استفانوس حين أوقف أمام قضاته ، ( فشخص إليه جميع الجالسين في المجمع ، ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك ) (أعمال الرسل 6 : 15) قد ارتد هارون والشعب إلى الوراء من أمام موسى ، إذ ( خافوا أن يقتربوا إليه) فإذ رأى موسى ارتباكهم ورعبهم وهو يجهل سبب ذلك ألح عليهم في الاقتراب منه ، وأراهم عهد الرب بمصالحته لهم وأكد لهم أن الله قد عاد للرضى عنهم ، ولم يلاحظوا في صوت موسى شيئا آخر غير المحبة والتوسل ، وأخيرا تجاسر أحدهم على الدنو منه وإذ اعتراه الخوف بحيث ألجم لسانه عن الكلام أشار إلى وجه موسى ثم إلى السماء ، ففهم موسى ، القائد ، العظيم المقصود بتلك الإشارات ، ففي خطيتهم التي كانوا يحسون بها وهم شاعرون بأنهم ما زالوا واقعين تحت طائلة سخط الله ، لم يستيطعوا احتمال نور السماء ، االذي لو كانوا مطيعين الله لكان يملأهم فرحا . إن الخوف ملازم للذنوب ، فالنفس المتحررة من الخطية لا تحاول الاختباء من نور السماء . AA 285.7
كان لدى موسى الشيء الكثير ليخبرهم به وإذ أشفق عليهم حين رآهم خائفين وضع برقعها على وجهه ، وظل يفعل هكذا كلما عاد إلى المحلة بعد اختلائه مع الله . AA 286.1
قصد الله بهذا اللمعان أن يطبع على عقول شعب إسرائيل صفة القداسة والعظمة والسمو التي لشريعته ، ومجد الإنجيل الذي سيعلنه المسيح . وحين كان موسى في الجبل لم يعلن له الله الشريعة وحدها بل أيضا تدبير الخلاص . وقد رأى أن ذبيحة المسيح كان تشير إليها كل صور العصر اليهودي ورموزه ، وأن النور السماوي الذي كان يتلألأ من جلجثة والذي لم يكن أقل بهاء أو مجدا من شريعة الله هو الذي تألق بلمعانه على وجه موسى . إن ذلك النور الإلهي كان يرمز إلى مجد النظام الذي كان موسى وسيطه المنظور وممثل الوسيط الحقيقي الوحيد . AA 286.2
إن النور المنعكس على وجه موسى يمثل البركات التي يمكن أن يحصل عليها الشعب الحافظ الشريعة بوساطة المسيح . وهو يشهد أنه كلما كانت شركتنا مع الله أقرب وأوثق ، وكلما كانت معرفتنا لمطاليب الله أوضح وأعمق ازددنا تشبها بصورة الله وأقبلنا بسرعة على مشاركة الرب في طبيعته الإلهية . AA 287.1
كان موسى رمزا إلى المسيح ، فكما وضع شفيع إسرائيل برقعا على وجهه لأن الشعب لم يقووا على الشخوص في مجد وجهه وبهائه ، كذلك المسيح الوسيط الإلهى أخفى لاهوته تحت ستار الناسوت حين أتى إلى الأرض . فلو أنه أتى متسربلا ببهاء السماء ونورها لما أمكنه الاتصال بالناس في حالة الخطية التي كانوا فيها ، وما كانوا يستيطعون احتمال مجد حضوره ، ولذلك وضع نفسه وصار ( في شبه جسد الخطية ) (رومية 8 : 3) حتى يستطيع الوصول إلى جنسنا الساقط ويرفعه . AA 287.2
* * * * *