بعد أحد عشر يوما من رحيل الشعب عن جبل حوريب حلوا في قادش فى برية فاران التى لم تكن تبعد كثيرا عن حدود أرض الموعد ، وهنا اقترح الشعب وجوب إرسال جواسيس لمعاينة البلاد ، وقد عرض موسي الأمر أمام الرب فأجيبوا إلى طلبهم على أن يرسل من كل سبط رئيس للقيام بهذه المأمورية . فاختير أولئك الرجال حسب الإرشاد وأمرهم موسي بالذهاب لرؤية الأرض ، ما هي وما هو موقعها وما هي ميزاتها الطبيعية والشعب الساكن فيها ، أقوي هو أم ضعيف ، قليل أم كثير ، وأن يلاحظوا طبيعة تربة الأرض أجيدة أو ردية وما درجة خصوبتها ، كما أمروا أن يحضروا معهم من ثمر الأرض . AA 340.1
فذهبوا وعاينوا الأرض كلها إذ دخلوها من الحدود الجنوبية وتقدموا إلى أقصى الشمال ، ثم عادوا بعد غيبة بلغت أربعين يوما . ولقد كانت لبني إسرائيل آمال كبار ، فانتظروا عودة أولئك الرجال بصبر نافد ، وقد انتقلت أخبار عودة الجواسيس من سبط إلى سبط فاستقبلوهم بالفرح والهتاف ، واندفع الشعب لملاقاة أولئك الرسل الذين نجوا من مأزق تلك المأمورية المحفوفة بالمخاطر ، وقد أحضر الجواسيس عينة من ثمار الأرض دلت علي خصوبتها. وكان الوقت وقت نضوج العنب ، فأحضروا عنقودا من العنب كان كبيرا بحيث حمل بين رجلين ، كما أحضروا بعضا من التين والرمان الذي كان ينمو بوفرة هناك . AA 340.2
وقد سر الشعب لكونهم مزمعين أن يمتلكوا أرضا جيدة كهذه وأصغوا بكل انتباه إلى التقرير المقدم إلى موسي حتى لا تفوتهم كلمة ، فقال أولئك الجواسيس : ( قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها ، وحقا إنها تفيض لبنا وعسلا ، وهذا ثمرها ) (عدد 13 : 17 33 ، 14) فتحمس الشعب ، إذ كانوا مشتاقين إلى طاعة أمر الرب في الذهاب حالا لامتلاك الأرض . ولكن بعد ما أتوا علي وصف الأرض وخصوبتها فإن جميع الجواسيس ، ما عدا اثنين منهم ، أسهبوا في وصف المتاعب والمخاطر التى تعترض بني إسرائيل لو شرعوا في غزو كنعان ، وجعلوا يعددون أسماء الشعوب القوية الساكنة في جهات متعددة من البلاد كما قالوا إن المدن محاطة بأسوار منيعة وعظيمة جدا ، والشعب الذي فيها معتز وقوي ، وأنه من المستحيل عليهم أن يغلبوهم . كما قالوا إنهم رأوا هناك الجبابرة بني عناق ، وأنهم عبثا يفكرون في الاستيلاء على الأرض . AA 340.3
وهنا تغيير الموقف ، فلقد حل في مكان الرجاء والشجاعة ، الجبن واليأس القاتل حين عبر الجواسيس بالكلام عن أفكار قلوبهم العديمة الإيمان والممتلئة بالمثبطات التي أوصى بها الشيطان . وقد ألقى عدم إيمانهم ظلالا كثيفة ومحزنة على كل الجماعة ، فنسي الشعب قدرة الله العظيمة التى أبداها في إجراء ما يوؤل إلى خير تلك الأمة المختارة ، ولم يعط الشعب نفسه وقتا للتفكير والتأمل ، ولم يفكروا في أن الله الذي قد أوصلهم إلى ذلك المكان لا بد من أن يعطيهم الأرض ، و لم يذكروا كيف أنقذهم الله بكيفية عجيبة من أيدي ظالميهم ، وكيف شق لهم في البحر طريقا ، وكيف أهلك جيوش فرعون التى طاردتهم . لقد أسقطوا الله من حسابهم وتصرفوا كما لو كان يجب عليهم أن يتكلوا فقط على قوة السلاح . AA 341.1
وفي عدم إيمانهم حدوا من قدرة الله ، وشكوا في قوة اليد التي قادتهم إلى هنا بسلام ، وعادوا يرتكبون نفس الخطأ الماضي في التذمر على موسي وهارون ، وقالوا : ( إذا فهذه هي نهاية كل آمالنا العظيمة ، وهذه هي الأرض التى سرنا طول هذه الطريق من مصر إلى هنا لكي نمتلكها ! ) وقد اتهموا قادتهم بأنهم غرروا بالشعب وجلبوا المتاعب على إسرائيل . AA 341.2
وتهور الشعب في خيبتهم ويأسهم ، فصعد صراخهم وعويلهم إلى عنان السماء وامتزج بأصوات التذمر والتشويش . ولكن كالب كان يدرك الموقف على حقيقته ، وكان من الشجاعة بحيث تثبت في الدفاع عن كلمة الله ، وبذل كل ما في طوقه لكي يبطل الأثر الشرير الذي أحدثه ثبت في الدفاع عن كلمة الله ، وبذل كل ما في طوقه لكى يبطل الأثر الشرير الذي أحدثه في الشعب رفقاؤه غير الأمناء . وللحظة أصغى الشعب إلى كلمات الرجاء والشجاعة بخصوص الأرض الجديدة . إنه لم يناقض ما قاله زملاؤه بل قال نعم إن الأسوار عالية والكنعانيين أشداء ولكن الله كان قد وعد بالأرض لإسرائيل . وقد ألح على الشعب قائلاً : ( إننا نصعد ونمتلكها لأننا قادرون عليها ) . AA 341.3
ولكن العشرة قاطعوا كلامه وجعلوا يصورون الصعوبات والعقبات في صورة أشد قتاما من الأولى فأعلنوا قائلين : ( لا نقدر أن نصعد إلى الشعب ، لأنهم أشد منا .... الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها هي أرض تأكل سكانها ، وجميع الشعب الذي رأينا فيها أناس طوال القامة . وقد رأينا هناك الجبابرة ، بني عناق من الجبابرة . فكنا في أعيننا كالجراد ، وهكذا كنا في أعينهم. AA 341.4
إن هؤلاء الرجال إذ بدأوا السير في ذلك الطريق الخاطىء بكل إصرار ضد يشوع وكالب يتحدونهما ويتحدون الله ، وبمرور الوقت زادوا في إصرارهم ، لقد عزموا على تثبيط كل مسعى لامتلاك كنعان ، وعوجوا الحق تأييدا لتأثيرهم الوبيل ، إذ قالوا إنها ) أرض تأكل سكانها ( إن هذا القول فضلا عن كونه بلاغا شريرا فقد كان مجانبا للصواب ، وكاذبا ، ومتناقضا . لقد سبق للجواسيس أن قالوا إن الأرض خصبة وجيدة وغنية وأن الشعب الذي فيها قوم طوال القامة ، فكل هذا يكون مستحيلا لو أن المناخ كان غير موافق للصحة إلى درجة يمكن القول معها أن الأرض تأكل سكانها) . ولكن الناس متى أسملوا نفوسهم لعدم الإيمان فإنهم يجعلون ذواتهم تحت سلطة الشيطان ، ولا يستطيع أحد أن يتكهن إلى أين سيصل بهم الشيطان . AA 342.1
( فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت ، وبكى الشعب تلك الللية ) وسرعان ما تبع ذلك تمرد وثورة علنية ، لأن الشيطان تسلط تسلطا كاملا على الشعب ، وبدا كأن تلك الجماعة فقدت القدرة على التمييز ، إذ صاروا يلعنون موسي وهارون وتناسوا أن الله سمع كل كلامهم الشرير ، وأن ملاك حضرته وإن كان محتجا في عمود السحاب فقد كان يشهد انفجار غضبهم . فقد صرخوا في مرارة قائلين : ( ليتنا متنا في أرض مصر ، أو ليتنا متنا في هذا القفر ! ) ثم ثارت عواطفهم ضد الله فقالوا : ( لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف ؟ تصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة . أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر ؟ فقال بعضهم لبعض : ( نقيم رئيسا ونرجع إلى مصر ) وهكذا لم يتهموا موسي وحده بمرواغتهم في كونه وعدهم بامتلاك أرض لا قبل لهم بامتلاكها بل اتهموا الله نفسه بذلك . ثم أمعنوا في شرهم حتى أقاموا رئيسا يعود بهم إلى مصر التى ذاقوا فيها مرارة الآلام والعبودية والتي قد نجوا منها بقوة ذراع الله القدير . AA 342.2
ففي تذلل وحزن ( سقط موسي وهارون على وجهيهما أمام كل معشر جماعة بني إسرائيل ) وهما حائران لا يعلمان ماذا يفعلان ليحولا الشعب عن قصدهم الثائر المتسرع . وقد حاول كالب ويشوع تهدئة ذلك الشعب ، ففي ثيابهما الممزقة دليلا على الحزن والغضب اندفعا بين الشعب وسمع صوتهما يعلو فوق أصوات العويل والحزن المتمرد قائلا : ( الأرض التى مررنا فيها لنتجسسها جديدة جدا جداً . إن سر بنا الرب يدخلنا إلى هذه الأرض ويعطينا إياها ، أرضا تفيض لبنا وعسلا . إنما لا تتمردوا على الرب ، ولا تخافوا من شعب الأرض لأنهم خبرنا . قد زال عنهم ظلمهم ، والرب معنا . لا تخافوهم ) . AA 342.3
كان الكنعانيون قد أكملوا مكيال إثمهم ، ولم يرد الرب أن يصبر عليهم أكثر من ذلك ، فإذا تخلى الرب عن حمايتهم فلا بد من أن يصيروا فرائس سهلة المنال . و كانت الأرض مضمونة لإسرائيل بموجب عهد الله . ولكن التقرير الكاذب الذي قدمه الجواسيس الخونة حاز قبولا لدى الشعب ، وبسببه انخدعت كل الجماعة . لقد أتم أولئك الخونة عملهم ، ولو أن اثنين فقط هما اللذان أتيا بذلك التقرير المنكود وكان كل الجواسيس العشرة مشجعين للشعب على امتلاك الأرض باسم الرب لكان الشعب يفضلون تقرير الاثنين على تقرير العشرة سبب شكهم الأثيم . ولكن اثنين فقط هما اللذان انبريا للدفاع عن الحق بينما العشرة وقفوا إلى جانب المتردين . AA 343.1
وقد صاح الجواسيس غير الأمناء يشهرون بكالب ويشوع ، وصاح بعضهم يطلبون رجمهما بالحجارة . فتناول أولئك الرعاع المعتوهون حجارة لقتل ذينك الرجلين الأمينين ، واندفعوا إلى الأمام يصرخون صرخات مجنونة ، وفجأة سقطت الأحجار من أيديهم وساد السكوت على الجميع وارتعبوا من شدة خوفهم ، فلقد تدخل الله ليحول بينهم وبين غرضهم الإجرامي ، فأضاء الخيمة مجد حضوره كنور مشتعل . فرأى الجميع علامة حضور الرب . إن سيدا أعظم منهم قد أعلن نفسه ، ولم يجرؤ أحد على التمادي في المقاومة .أما الجواسيس الذين جاءوا بذلك الخبر السوء فجثموا في أماكنهم إذ قد صعقوا ، ثم أسرعوا يلهثون إلى خيمهم . AA 343.2
وهنا نهض موسي ودخل الخيمة ، فقال له الرب : ( إني أضربهم بالوبإ وأبيدهم ، وأصيّرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) ولكن موسي عاد يتوسل لأجل شعبه إذ لم يكن يرضيه هلاكهم وصيرورته هو شعبا أعظم منهم . فتوسل إلى الله بحق رحمته قائلا : ( فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلا : الرب طويل الروح كثير الإحسان .... اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك ، وكما غفرت لهذا الشعب من مصر إلى ههنا ) . AA 343.3
فوعد الرب موسى أن يبقي على إسرائيل فلا يهلكهم في الحال . ولكن بسبب عدم إيمانهم وجنبهم لم يكن للرب أن يعلن قدرته في إخضاع أعدائهم ، ولذلك ففي رحمته أمرهم بالعودة إلى البحر الأحمر إذ أن ذلك كان أسلم طريق . AA 344.1
إن الشعب في تمردهم على الله صرخوا قائلين : ( ليتنا متنا في هذا القفر ! ) وقد أجيبوا إلى طلبهم هذا إذ أعلن الرب قائلا : ( حي أنا يقول الرب ، لأفعلن لكم كما تكلمتم في أذني . في هذا القفر تسقط جثثكم ، جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا ... وأما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم ، فيعرفون الأرض التى احتقرتموها ) أما كالب فقد قال الرب عنه : ( وأما عبدي كالب فمن أجل أنه كانت معه روح أخرى ، وقد اتبعني تماما ، ادخله إلى الأرض التي ذهب إليها ، وزرعه يرثها ) وكما قضى الجواسيس أربعين يوما في رحلتهم كان على شعب إسرائيل أن يهيموا على وجوههم في القفر أربعين سنة . AA 344.2
وحين أخبر موسي الشعب بحكم الله عليهم استحال غضبهم إلى نوح وبكاء . عرفوا أن ذلك الحكم هو حكم عادل . أما الجواسيس العشرة غير الأمناء فضربهم الله بالوبأ فهلكوا أمام عيون كل إسرائيل ، فعلم الشعب أن في هلاك أولئك الجواسيس هلاكهم هم أيضا . AA 344.3
بدا الآن أن توبتهم عن تصرفهم الخاطئ كانت خالصة إلا أن حزنهم كان بسبب نتائج مسلكهم الشرير لا لأنهم شعروا بجحودهم وعصيانهم . ولما رأوا أن الله لم يتراجع في حكمه ثار عنادهم مرة أخرى و أعلنوا أنهم لن يعودا إلى البرية . إن الله حين أمرهم بالرجوع عن أرض العدو أراد أن يختبر خضوعهم فتحقق من أنه ليس خضوعا حقيقيا . لقد عرفوا أنهم أخطأوا خطية عظيمة في استسلامهم لعواطفهم الطائشة ، وفي محاولتهم قتل الجواسيس اللذين ألحا عليهم في إطاعة الله ، ولكنهم ارتعبوا حين اكتشفوا أنهم قد ارتكبوا خطأ رهيبا لا بد أن تنتج عنه نتائج وخيمة تلحق بهم . فقلوبهم لم تتغير ، إنما هم فقط كانوا يبحثون عن عذر يدعو إلى انفجار مماثل . وقد وجدوا ضالتهم حين أمرهم موسى ، بناء على أمر الله ، أن يعودوا إلى البرية . AA 344.4
إن حكم الله على إسرائيل بعدم دخول كنعان والبقاء في الفقر أربعين سنة كان خيبة أمل مريرة لموسي وهارون وكالب ويشوع . ومع ذلك فقد قبلوا حكم الله دون تذمر . ولكن أولئك الذين كانوا يشكون من معاملات الله لهم والذين أعلنوا أنهم يريدون العودة إلى مصر جعلوا ينوحون ويبكون بمرارة لأن البركات التي ازدروها أخذت منهم . ولم يكن هناك سبب للتذمر أو الشكوى فأعطاهم الله الآن سبب للبكاء . فلو أنهم ناحوا على خطيتهم حين كشفت لهم بكل أمانة لما حكم الله عليهم بهذا الحكم ، ولكنهم ناحوا بسبب القضاء الذي حل بهم . فلم يكن حزنهم دليلا على التوبة ولذلك فلم يكن ممكنا نقض ذلك الحكم . AA 344.5
لقد أحيوا تلك الليلة في البكاء ، ولكن مع الصباح أتاهم رجاء ، فعزموا على أن يكفروا عن جبنهم . إنهم حين أمرهم الله باحتلال البلاد رفضوا ، أما الآن فبعدما أمرهم الرب بالتراجع أظهروا العصيان نفسه ، وعزموا على غزو البلاد وامتلاكها ، إذ كانوا يؤملون أن الله سيقبل عملهم ويغير قصده نحوهم . AA 345.1
لقد جعله الله امتيازا لهم وواجبا عليهم أن يدخلوا الأرض في الوقت الذي عينه ، ولكن بسبب إهمالهم وعنادهم عاد الله فسحب منهم ذلك الامتياز . لقد حقق الشيطان غرضه في حرمانهم من دخول كنعان ، ولكن ها هو الآن يحرضهم عمل الشيء نفسه الذي منعهم الله من عمله ، والذي رفضوا عمله حين أمرهم الرب أن يعملوه ، وهكذا أفلح ذلك المخادع العظيم وأحرز الانتصار بكونه ساقهم إلى التمرد مرة ثانية . لقد شكوا في قدرة الله على أن يعمل مع مجهودهم عن معونة الله ، فصرحوا : ( قد أخطأنا إلى الرب . نحن نصعد ونحارب حسب كل ما أمرنا الرب إلهنا ) (تثنية 1 : 41) لقد أعماهم العصيان إلى درجة فظيعة . إن الرب لم يأمرهم قط أن يصعدوا ويحاربوا ، ولم يرسم لهم أن يفتحوا البلاد بالحرب ، بل بالطاعة المدققة لمطاليبه . AA 345.2
وعلى الرغم من أن قلوب الشعب لم تتغير فقد عمدوا إلى الاعتراف بإثمية وحماقة ثورتهم على تقرير الجواسيس . عرفوا الآن قيمة البركة التى رفضوها بتسرع كلي ، واعترفوا أن عدم إيمانهم هو الذي صدهم عن كنعان . لقد صرحوا معترفين بأن الخطأ كان فيهم وليس في الله الذي اتهموه ، في شرهم ، بالعجز عن إتمام وعده لهم ، وقالوا )قد أخطأنا) ومع أن اعترافهم لم يكن صادرا عن توبة حقيقية ، فقد برر عدالة الله في معاملاته لهم . AA 345.3
إن الرب لا يزال يعمل بنفس هذه الطريقة ليمجد اسمه في جعل الناس بعترفون بعدله . فحين يتذمر أولئك الذين يعترفون بمحبتهم له من تصرفات العناية الإلهية ويحتقرون مواعيده ويخضعون للتجربة فهم ينضمون إلى الملائكة الأشرار في محاولة إحباط مقاصد الله . والرب في غالب الأحيان يسيطر على الظروف بحيث يجعل أولئك الناس ، مع أن توبتهم ليست صادقة يقتنعون بخطيتهم ويلتزمون أن يعترفوا بشر مسلكهم وبعدالة الله وصلاحه في معاملاته لهم . هكذا الله يجعل العوامل المعاكسة تعمل على كشف أعمال الظلمة . ومع أن الروح التى دفعت الإنسان إلى ذلك المسلك الشرير لم تتغير تغيرا جوهريا ، فالانسان يقدم اعترافات تزكي كرامة الله ومجده وتبرر الموبخين الأمناء الذين يقيمهم ممن كانوا قد واجهوا المقاومات وأسيء تمثيلهم . وهكذا سيحدث حين ينصب غضب الله أخيرا ، فحين يجيء ( الرب في ربوات قديسيه ، ليصنع دينونة على الجميع ) فإنه أيضاً سوف ( يعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم ) (يهوذا 14 ، 15) إن كل خاطىء سيعلم ويعترف بعدالة حكم الدينونة الصادر عليه . AA 346.1
وبغض النظر عن حكم الله فقد تأهب أولئك الإسرئيليون ليشرعوا في غزو كنعان . وإذ كانوا مزودين بأسلحة الحرب ، وكانوا ، كما كانوا قدروا ، متأهبين للقتال . إلا أنهم كانوا ناقصين نقصا كبيرا في نظر الله وخدامه الحزانى . وبعد ذلك بحوالي أربعين سنة حين أمرهم الرب بالصعود إلى أريحا للاستيلاء عليها وعدهم بأنه سيذهب معهم . والتابوت الذي كان يحتوي على شريعة الله حمل أمام الجيوش . وكان على قادتهم المختارين أن يوجهوهم في كل حركاتهم تحت إشراف الله ، وبفضل تلك القيادة لم يصبهم أي أذى . أما الآن فعلى عكس أمر الله والنهي الخطير الذي أصدره لهم قادتهم ، وبدون أن يكون معهم موسى أو التابوت خرجوا ليلتحموا مع جيوش العدو . AA 346.2
وقد ضرب البوق بصوت الإنذار وأسرع موسى إلى أولئك القوم محذراً : ( لماذا تتجاوزون قول الرب ؟ فهذا لا ينجح . لا تصعدوا ، لأن الرب ليس في وسطكم لئلا تنهزموا أمام أعدائكم . لأن العمالقة والكنعانيين هناك قدامكم تسقطون بالسيف ) (عدد 14 : 41 — 43) . AA 346.3
كان الكنعانيون قد سمعوا بخبر تلك القوة الخفية التي بدا أنها تحرس هذا الشعب ، والعجائب التي أجريت لأجلهم ، فجمعوا قوة عظيمة من رجالهم لصد هؤلاء الغزاة ، ولم يكن للجيش الإسرائيلي المهاجك قائد ولا قدموا صلاة لكي يهبهم الله النصرة ، بل ذهبوا مدفوعين بذلك القصد اليائس المتهور ليغيروا المصير المحكوم به عليهم أو يموتوا في ساحة القتال .ومع أنهم لم يكونوا متمرنين على الحرب فقد كانوا جمعا غفيرا من الرجال المسلحين ، وكانوا يؤملون أنهم بهجمة واحدة مباغتة وعنيفة سينتصرون على كل مقاومة ، فبكل كبرياء هاجموا العدو الذي لم يتجرأ من قبل على مهاجمتهم . AA 346.4
كان الكنعانيون قد ثبتوا أقدامهم في مكان صخري لا يمكن الوصول إليه إلا بواسطة معابر وعرة ، في مصاعد خطرة ، ثم أن كثرة عدد العبرانيين زادت من فظاعة هزيمتهم ، وبكل بطء ساروا في معابر الجبال وكانوا عرضة للقذائف المميتة التي كان يرمونهم بها من عل، وأن كتلا هائلة من الصخور قد اندفعت ترعد وهبطت عليهم محدثة دويا هائلا فأصابت المهاجمين فتخضبت الأرض بدمائهم . والذين وصلوا إلى قمة الجبل يلهثون تعبا وهم صاعدون ردوا على أعقابهم بعنف شديد . فتراجعوا بعد أن منوا بخسارة فادحة ، وقد تناثرت في ساحة المعركة أشلاء القتلى ، وانهزم جيش إسرائيل شر هزيمة ، فكان الهلاك والموت هما النتيجة المحتومة لتمردهم الذي اختبروا مرراته . AA 347.1
وإذ أجبروا على التسليم أخيرا ، فالأحياء منهم رجعوا وبكوا أمام الرب ولم يسمع لصوتهم ولا أصغي إليهم (تثنية 1 : 45) وبتلك النصرة الفريدة التي أحرزها أعداء إسرائيل الذين كانوا ينتظرون مجيء ذلك الجيش العظيم بخوف ورعب ، تولدت في نفوسهم الثقة لمقاومتهم . وكل الأخبار التي كانوا قد سمعوها عن العجائب التي صنعها الله مع شعبه اعتبرها الكنعانيون الآن أخبار كاذبة ، وأحسوا أنه لا داعي للخوف . إن تلك الهزيمة الأولى التي أصابت إسرائيل والتي بسببها امتلأت قلوب الكنعانيين شجاعة و تصميما زادت من صعوبة غزو البلاد ، ولم يبق لإسرائيل غير السقوط أمام أعدائهم المنتصرين والاتداد إلى القفر عالمين أنه فيه ستسقط جثث جيل بأكمله . AA 347.2
* * * * *