انقضى على وصول إسرائيل إلى سيناء بعض الوقت قبل البدء ببناء خيمة الاجتماع ، وقد أقيم ذلك المسكن المقدس أولا في بدء العام الثاني بعد الخروج ، ثم تبع ذلك تقديس الكهنة والاحتفال بعيد الفصح وإحصاء الشعب وتكملة التنظيمات المختلفة الجوهرية واللازمة لنظامهم المدني أو الديني ، حتى لقد مر ما يقرب من السنة من المحلة في سيناء . وهنا اتخذت عبادتهم شكلا واضحا ، ووضعت القوانين لحكم الأمة ، ونفذ نظام أنفع ، استعداد لدخولهم أرض كنعان . AA 328.1
تميز حكم إسرائيل بأفضل نظام ، كما كان نظاما عجيبا في كماله وبساطته . إن النظام المستخدم بكيفية مدهشة في كمال كل أعمال الله المخلوقة وترتيبها ظهر في النظام العبراني . لقد كان الله مركز السلطة والحكم كملك إسرائيل ، أما موسى فكان القائد المنظور من الشعوب بتعيين من الله ، لكي يصدر القوانين والشرائع باسمه ، وبعد ذلك انتخب مجلس مكون من سبعين رجلا من شيوخ الأسباط ليساعدوا موسى في تدبير الشؤون العامة للأمة ، ثم يأتي الكهنة الذين كانوا يطلبون مشورة الرب في الهيكل . وكان الرؤساء والأمراء وتحت هؤلاء كان ( رؤساء ألوف ، ورؤساء مئات ، ورؤساء خماسين ، ورؤساء عشرات ) . وأخيرا كان الموظفون الذين يمكن استخدامهم للقيام بواجبات خاصة (تثنية 1 : 15) . AA 328.2
كانت محلة العبرانيين منظمة تنظيما دقيقا ، فقد كانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام عظيمة لكل قسم مركزة الخاص في المحلة ، ففي الوسط كانت خيمة الاجتماع ، مكان سكنى الملك غير المنظور ، وحولها انتشرت مساكن الكهنة واللاويين ، وخلف هذه نصبت خيام كل باقي الأسباط . AA 328.3
وقد وكل إلى اللاويين أمر حراسة الخيمة وكل متعلقاتها ، سواء في أثناء نزولهم أو رحيلهم ، فحين كانت تتحرك المحلة كان عليهم أن ينقضوا الخيمة المقدسة ، فإذا وصلوا إلى مكان للإقامة فيه بعض الوقت كان عليهم أن ينصبوها . ولم يكن يسمح لأحد من سبط آخر أن يقترب وإلا كان جزاؤه الموت . وكان اللاويون منقسمين إلى أقسام ثلاثة ، نسل أولاد لاوي الثلاثة ، وقد عين لكل قسم مركزه وعمله الخاص ، فأمام الخيمة وعلى أقرب قرب منها كانت خيام موسى وهارون ، وإلى ناحية الجنوب كان القهاتيون الذين كان عملهم حراسة التابوت وغيره من الأثاث ، وإلى الشمال كان أولاد مراري الذين كانوا مسؤولين عن الأعمدة والقواعد والألواح وما إليها ، وفي المؤخرة كانت جماعة الجرشونيين الذين كان عليهم أن يحرسوا الستائر والسجف . AA 328.4
وتعين أيضا مركز كل سبط ، فقد كان على كل سبط أن يسير أو يعسكر إلى جوار رايته كما أمر الرب قائلا : ( ينزل بنو إسرائيل كل عن رايته بأعلام لبيوت آبائهم . قبالة خيمة الاجتماع حولها ينزلون ) ( كما ينزلون كذلك يرتحلون . كل في موضوعه براياتهم ) (عدد 2 : 2 ، 7) أما اللفيف الذين رافقوا إسرائيل من مصر فلم يكن يسمح لهم بالسكنى في نفس المحلة مع الأسباط ، بل كان عليهم أن يسكنوا في أطراف المحلة ، وكان يجب أن يمنع أولادهم من بين الجماعة إلى الجيل الثالث (تثنية 23 : 7 ، 8) . AA 329.1
وقد أمروا بالنظافة المدققة ، كما أمروا بإتباع النظام الدقيق في كل المحلة وما جاورها ، ونفذت القوانين الصحيحة بحذافيرها ، وكل من كان نجسا من أي عارض كان محظورا عليه دخول المحلة . هذه الإجراءات كانت لازمة وضرورية لحفظ الصحة بين ذلك الجمهور العظيم ، كما كان من اللازم أيضا مراعاة النظام والطهارة التامين ، حتى يستطيع بنو إسرائيل التمتع بحضور الله القدوس في وسطهم ، إذ قد أعلن قائلا : ( لأن الرب إلهك سائر في وسط محلتك ، لكي ينقذك ويدفع عنك أعداءك أمامك . فلتكن محلتك مقدسة ) (تثنية 23 : 14) . AA 329.2
وفي كل رحلات إسرائيل رحل ( تابوت عهد الرب ... أمامهم ... ليلتمس لهم منزلا ) (عدد 10 : 33) فذلك التابوت المقدس الذي كان يحمله بنو قهات والذي كانت بداخله شريعة الله المقدسة ، كان يجب أن يسير في الطليعة ، وكان موسى وهارون يسيران أمامه ، وكان الكهنة حاملو الأبواق الفضية يسيرون قريبا ، وكان هؤلاء الكهنة يتلقون الأوامر من موسى وهم بدورهم يبلغونها للشعب بواسطة الأبواق ، وكان على قادة كل فريق أن يعطوا أوامر واضحة لفريقهم عن كل التحركات الواجب القيام بها ، والتي كانت تعلنها الأبواق ، وأي شخص لا يذعن لهذه الأوامر كان جزاؤه الموت . AA 329.3
إن الله هو إله ترتيب ونظام ، وكل ما له علاقه بالسماء هو في أتم نظام ، فالخضوع والتدريب المتقن هما الطابعان اللذان يميزان تحركات الأجناد السماويين . والنجاح يواكب فقط النظام والعمل المنسجم . إن الله يطلب النظام والتنسيق في عمله الآن ليس أقل مما كان في أيام إسرائيل . وكان من يخدمون الله ينبغي أن يعملوا عملهم بفهم وذكاء لا بغير اكتراث أو كيفما اتفق . يريد الرب أن يعمل عمله بإيمان ودقه لكي يختم عليه بختم الرضا والاستحسان . AA 330.1
وقد أرشد الله الإسرائيليين بنفسه في كل رحلاتهم ، وكان نزول عمود السحاب يدل على مكان نزولهم . وطوال ما كان عليهم أن يظلوا في خيامهم كانت السحابة تحل فوق الخيمة الشهادة . و حين كان عليهم أن يستأنفوا رحلاتهم كانت السحابة ترتفع عالية فوق الخيمة . كانوا يقدمون توسلات وابتهالات مقدسة عن نزولهم وعند رحيلهم ( وعند ارتحال التابوت كان موسى يقول : )قم يا رب ، فلتتبدد أعداؤك و يهرب مبغضوك من أمامك ) . و عند حلوله كان يقول : ( ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل ) (عدد 10 : 35 ، 36) . AA 330.2
كانت المسافة بين سيناء وقادش الواقعة على حدود كنعان تقطع في أحد عشر يوما فقط ، وقد استأنف شعب إسرائيل السير حين أعطت السحابة إشارة التقدم إلى الأمام وكانوا يؤملون سرعة دخولهم إلى الأرض الجديدة . لقد صنع الرب معجزات وعجائب حين أخرجهم من أرض مصر ، فأي بركات لا يحق لهم أن ينتظروا الحصول عليها الآن وقد عاهدوا الله رسميا أن يقبلوه ملكا عليهم ، واعترف بهم أنهم الشعب المختار لله العلي ؟ AA 330.3
إلا أن كثيرين منهم رحلوا عن ذلك المكان الذي حلوا فيه طويلا ، مترددين ، فكادوا يعتبروته وطنا لهم . لقد حشد الرب شعبه ليحتموا بين تلك الجبال الصخرية بعيدا عن كل الأمم الأخرى ليكرر على مسامعهم شريعته المقدسة . ولقد أحبوا الشخوص إلى الجبل المقدس الذي على قمته البيضاء وصخوره المسننة الجرداء ظهر لهم مرارا مجد إله السماء . وكانت لذلك المنظر صلة وثيقة بحضور الله وملائكته الأطهار حتى لقد بدا لهم أنه يمتاز بقداسه عظيمة بحيث لا يليق الرحيل عنه بدون اكتراث ، أو حتى برضى وعن طيب خاطر . AA 330.4
ولما أعطى المبوقون الإشارة تقدمت الجماعة كلها إلى الأمام فحمل اللاويون الخيمة وساروا بها في الوسط وسار رجال كل سبط في المكان المعين لهم تحت رايتهم ، وكانت كل العيون تتطلع بشوق لتعرف في أي اتجاة ستقودهم السحابة ، فلما سارت في اتجاه الشرق حيث تراكمت صخور الجبال بعضها فوق بعض في لونها الأسود الموحش غمر الحزن والشك قلوب الكثيرين . AA 331.1
ولما تقدموا زادت وعورة الطريق ، فقد امتد طريقهم في وسط مهاو قاحلة وأودية صخرية ، وكان القفر العظيم حولهم من كل جانب ( أرض قفر وحفر ، ... أرض يبوسه وظل الموت ، ... أرض لم يعبرها رجل ولم يسكنها إنسان ) (إرميا 2 : 6) ففي تلك الممرات الصخرية البعيدة والقريبة تجمع الرجال والنساء والأولاد والبهائم والعربات وصفوف طويلة من القطعان والصيران ، وكان سيرهم بالضرورة بطيئا ومتعبا ، ولم تكن تلك الجموع ، بعد نزولها في سيناء أمدا طويلا ، مستعدة لتحمل مخاطر الطريق ومتاعبها . AA 331.2
وبعدما ساروا مسيرة ثلاثة أيام بدأ البعض يجاهرون بتذمرهم ، وهذه التذمرات بدأت من اللفيف الذين لم يكن كثيرون من أفراده قد انضموا إلى إسرائيل تماما ، فكانوا دائما يترقبون فرصة للتذمر والانتقاد . لم يكن أولئك المتذمرون راضين عن الوجهة التي كانوا سائرين إليها ، بل كانوا دائماً يعيبون الطريق الذي كان موسى يقودهم فيه ، مع أنهم كانوا يعرفون جيدا أنه كان يتبع قيادة السحابة مثلهم سواء بسواء . وحيث أن عدم الرضى مرض معد فسرعان ما شمل كل المحلة . AA 331.3
ومرة أخرى جعلوا يصرخون طالبين أن يأكلوا لحما ، فمع أنهم كانوا يحصلون على المن بوفره فانهم لم يكتفوا بذلك . إن بني إسرائيل في أثناء عبوديتهم في مصر كانوا مجبرين على أن يعيشوا على أبسط أنواع الطعام ، ولكن شهوتهم القوية التي أثارها الحرمان والعمل المضني جعلتهم يستسيغون طعمه ويعتبرونه لذيذا ، وكثيرون من المصرين الذين بينهم كانوا قد تعودوا قبلا الأطعمة اللذيذة الفاخرة فكانوا أول المتذمرين . وعندما أعطى الله للشعب المن قبيل وصولهم إلى سيناء أعطاهم لحما أيضا استجابة لصراخهم ، ولكنه لم يعط لهم أكثر من يوم واحد . AA 331.4
كان الله يستطيع بكل سهولة أن يعطيهم لحما كما قد أعطاهم المن . ولكنه حرمهم من اللحم لأجل خيرهم . لقد كان قصده أن يقدم لهم طعاما ليسد حاجتهم أفضل من الطعام المهيج الذي كان كثيرون قد اعتادوه في مصر . إن شاهيتهم الفاسدة المعكوسة كان يجب إصلاحها لكي يستطيعوا أن يستسيغوا الطعام الذي أعطى للإنسان من البدء — وهو ثمار الأرض التي قد أعطاها الله لآدم وحواء في عدن . هذا هو السبب الذي لأجله حرم الله جماعة الإسرائيليين إلى حد كبير من أكل لحوم الحيوانات . AA 332.1
لقد جربهم الشيطان لأن يعتبروا هذا الحرمان ظلما وقسوة ، وجعلهم يشتهون ما حرم عليهم لأنه رأى أن النهم يفضى إلى الشهوانية ، وبهذه الوسيلة يسهل عليه أن يجعلهم تحت سيطرته . إن مسبب الأمراض والشقاء يهاجم الناس حيثما يضمن لنفسه أعظم نجاح . وعن طريق التجارب المتعلقة بالشهوة للطعام أوقع الناس إلى حد بعيد في الخطية منذ الوقت الذي فيه أغوى حواء على الأكل من الثمرة المنهى عنها . هذه هي نفس الوسيلة التي استخدمها ليسوق إسرائيل إلى التذمر على الله . إن عدم الاعتدال في الأكل والشرب الذي يقود إلى الانغماس في الشهوات الدنيا يهيئ الناس للاستخفاف بكل الالتزامات الأدبية ، وحين تهاجمهم التجربة يكون لهم القليل من القوة للمقاومة . AA 332.2
لقد أخرج الله إسرائيل من مصر ليؤسسهم في أرض كنعان كشعب مقدس طاهر سعيد .ولكي يتم هذا الغرض جعلهم يجوزون في دور من التدريب لأجل خيرهم وخير ذريتهم ، فلو أنهم رغبوا عن إشباع شهواتهم إطاعة لنهي الله الحكيم لما عرفوا الوهن أو المرض ، ولكان أولادهم يتمتعون بقوة جمسانية وعقلية عظيمة ، وكانوا يحصلون على إدراك صحيح للحق والواجب ، وقوة على التمييز والحكم الصائب . و لكن رفضهم الامتناع عما نهى عنه الرب وإتمام مطاليبه منعهم إلى حد كبير من الوصول إلى المقياس الذي أرادهم أن يبلغوه ، وحرمهم البركات التي كان مستعدا أن يمنحهم أياما . AA 332.3
يقول صاحب المزامير : ( جربوا الله في قلوبهم ، بسؤالهم طعاما لشهوتهم . فوقعوا في الله. قالوا : ( هل يقدر الله أن يرتب مائدة في البرية ؟ هوذا ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية . هل يقدر أيضا أن يعطي خبزا ، أو يهيئ لحما لشعبه ؟ ( . لذلك سمع الرب فغضب ) (مزمور 78 : 18 — 21) لقد كثرت التذمرات وزاد الشغب بينهم في أثناء رحيلهم من البحر الأحمر إلى سيناء ، ولكن إشفاقا من الرب على جهلهم وعمى قلوبهم لم يفتقد خطيتهم بدينونته وقصاصه ، ولكنه منذ ذلك الحين أعلن لهم نفسه في حوريب ، وحصلوا على نور عظيم ، إذ كانوا شهودا لجلال الله وقدرته ورحمته ، ولذلك جلب عليهم عدم إيمانهم وتذمرهم ذنبا أعظم وفوق هذا فإنهم كانوا قد عاهدوا الله أن يتخذوه ملكا ليهم ويخضعوا لسلطانه . لهذا كان تذمرهم حينئذ عصيانا ، فكان لا بد من قصاص سريع وعلني إذا كان لا بد من حفظ إسرائيل من الفوضى والهلاك ( فاشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت في طرف المحلة ) (أنظر سفر العدد 11) فأولئك الذين كانوا أكثر المتذمرين جرما ماتوا محترقين بنار البرق التي سقطت عليهم من السحابة . AA 332.4
ففي رعبهم توسل الشعب إلى موسى أن يصلي إلى الرب لأجلهم ، ففعل ، وأخمدت النار وتذكارا لهذه الدينونة دعا موسى ذلك المكان تبعيرة أي )حريق أو نار( . AA 333.1
لكن الشر تفاقم أكثر مما كان ، فبدلا من أن يلجأ الناجون إلي التذلل والتوبة فقد بدا كأن هذا الحكم المخيف قد زاد من تذمرهم ، ففي كل مكان اجتمع الشعب في أبواب خيامهم يبكون وينوحون . ( واللفيف الذي في وسطهم اشتهى شهوة . فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوا : من يطعمنا لحما ؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا ، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم . والآن قد يبست أنفسنا . ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن ! ) وهكذا أعلنوا تبرمهم بالطعام الذي أعده لهم خالقهم . ومع ذلك فقد كان هنالك برهان دائم على ملائمته لحاجتهم . لأنه رغم المتاعب التي قاسوها لم يكن في كل أسباطهم واهن ولا هزيل . AA 333.2
غاص قلب موسى في داخله ، فتوسل إلى الله لكي لا يهلك إسرائيل ، حتى ولو صار أبا لأمة عظيمة ، وفي محبته لهم طلب أن يمحى اسمه من سفر الحياة بدلا من أن يتركوا ليهلكوا . قد خاطر بكل شيء لأجلهم ، ومع ذلك فهذا كان جوابهم . لقد اتهموه بأنه السبب في كل متاعبهم حتى كل الآلام التي لم يكن لها وجود ، فضاعفت تذمراتهم الشريرة من ثقل الرعاية والمسؤولية التي كان ينوء تحتها . ففي ضيقة نفسه جرب أن يشك في الله نفسه ، فكادت صلاته تكون شكوى ، فقال : ( لماذا أسأت إلى عبدك ؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي ؟ ... من أين لي لحم أعطي جميع هذا الشعب ؟ لأنهم يبكون قائلين : أعطنا لحما لنأكل . لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع هذا الشعب لأنه ثقيل علي ) . AA 333.3
أصغى الرب إلى صلاته وأمره أن يدعو سبعين رجلا من شيوخ إسرائيل — رجالا ليسوا متقدمين في الأيام فحسب بل عظماء ذوي حكم صائب واختبار طويل ويقبل ( بهم إلى خيمة الاجتماع ) ثم قال : ( فيقفوا هناك معك . فأنزل أنا وأتكلم معك هناك ، وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم ، فيحملون معك ثقل الشعب ، فلا تحمل أنت وحدك ) . AA 334.1
وسمح الرب لموسى أن يختار لنفسه أعظم الرجال أمانة وكفاءة ليقاسموه المسؤولية ، وقد يساعد نفوذهم في كبح اهتياج الشعب وقسوتهم وتسكين ثورتهم ، ومع ذلك فإن شرورا خطيرة ستنتج عن ترقية أولئك الرجال ، فما كانوا يختارون لو أن موسى أبدى إيمانا يتناسب مع البراهين التي حصل عليها لقدرة الله وصلاحه ، ولكنه بالغ في تجسيم أثقاله وخدماته ، وكاد ينسى حقيقة كونه لم يكن أكثر من آله استخدمها الله . إنه لم يكن ليعذر في إظهار أقل القليل من روح التذمر التي كانت لعنة إسرائيل ، فلو أنه اعتمد على الله اعتمادا كليا لكان أرشده على الدوام وأعطاه قوة لمواجهة كل الطوارئ . AA 334.2
أمر موسى أن يعد الشعب لما كان الله مزمعا أن يفعله لأجلهم فقال له الرب ( وللشعب تقول : تقدسوا للغد فتأكلوا لحما ، لأنكم قد بكيتم في أذني الرب قائلين : من يطعمنا لحما ؟ إنه كان لنا خير في مصر . فيعطيكم الرب لحما فتأكلون . تأكلون لا يوما واحدا ، ولا يومين ، ولا خمسة أيام ، ولا عشرة أيام ، ولا عشرين يوما ، بل شهرا من الزمان ، حتى يخرج من مناخركم ، ويصير لكم كراهة ، لأنكم رفضتم الرب الذي في وسطكم وبكيتم أمامه قائلين : لماذا خرجنا من مصر ؟ ) . AA 334.3
فصاح موسى قائلا : ( ست مئة ألف ماش هو الشعب الذي أنا في وسطه ، وأنت قد قلت : أعطيهم لحما ليأكلوا شهرا من الزمان . أيذبح لهم غنم وبقر ليكفيهم ؟ أم يجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم ؟ ) . AA 334.4
وقد وبخه الرب على شكه فقال له : ( هل تقصر يد الرب ؟ الآن ترى أيوافيك كلامي أم لا ) . AA 334.5
وردد موسى كلام الرب في مسامع الشعب وأعلن لهم عن تعيين السبعين شيخا ، وأن الوصية المقدمة لهؤلاء الرجال المختارين من هذا القائد العظيم تصلح نموذجا لاستقامة القضاء للقضاة والمشترعين في هذه الأيام إذ يقول : ( اسمعوا بين إخوتكم واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله ، لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء . للصغير كالكبير تسمعون . لا تهابوا وجه إنسان لأن القضاء لله ) ( تثنيه1 : 16 ، 17) . AA 334.6
وهنا دعا موسى السبعين رجلا إلي الخيمة ، ( فنزل الرب في سحابة وتكلم معه ، وأخذ من الروح الذي عليه وجعل على السبعين رجلا الشيوخ . فلما حلت عليهم الروح تنبأوا ، ولكنهم لم يزيدوا ) فكالتلاميذ في يوم الخميس منحوا ( قوة في الأعالي ) وقد سر الله أن يعدهم لعملهم بهذه الكيفية ، وأن يكرمهم أمام عيون الجماعة لكي يضعوا فيهم ثقتهم كمن قد اختارتهم السماء لمشاركة موسى في حكم إسرائيل . AA 335.1
وقد جاء برهان جديد على الروح السامية روح الإيثار التى كان يتصف بها ذلك القائد العظيم . ذلك أن رجلين من السبعين إذ كانا بكل تواضع يحسبان أنفسهما غير مستأهلين لذلك المركز العظيم الذي ينطوي على مسؤوليات خطيرة لم يذهبا إلى الخيمة مع إخوتهما . ولكن الروح حلي عليهما حيث كانا ، فطفقا يتنبآن ، فما سمع يشوع بذلك أراد أن يوقف ذلك التشويش خشية أن يؤدى ذلك إلي الانقسام . فيشوع هذا ، حرصا من على كرامة سيده قال له : ( يا سيدى موسى ، اردعهما ! فقال له موسى : هل تغار أنت لي ؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحه عليهم ) . AA 335.2
وقد هبت ريح شديدة من البحر وساقت أسرابا من السلوى ( مسيرة يوم من هنا ومسيرة يوم من هناك ، حوالي المحلة ، ونحو ذراعين فوق وجه الأرض ) وطوال ذلك اليوم والليل واليوم التالي أشتغل الشعب في جمع ذلك الطعام الذي أعطي لهم بطريقة عجائبية ، وقد أعطيت لهم كميات هائلة منه ( الذي قلل جمع عشرة حوامر ) ، والذي زاد عن حاجتهم في ذلك اليوم جففوه وحفظوه بحيث كانت تلك الكمية تكفيهم شهراً كاملاً كما قد وعدهم الرب . AA 335.3
أعطى الرب للشعب ذلك الشيء الذي لم يكن لخيرهم الأسمى لأنهم أصروا على اشتهائه ، فلم يقنعوا بالأشياء التى تبرهن أنها نافعه لهم ، وقد أشبعت شهواتهم الجامحة ولكن كان عليهم أن يتحملوا النتائج ، لقد أولموا بدون تحفظ غير أنهم عوقبوا علي إفراطهم في الحال ، ( وضرب الرب الشعب ضربة عظيمة جدا ) ، فسقط عدد كبير منهم وماتوا بحمى محرقة ، بينما ضرب أكثرهم إجراما حالما ذاقوا ذلك الطعام الذي اشتهوه . AA 335.4
وفي حضيروت ، المكان التالي الذي حلوا فيه بعد رحيلهم عن تبعيره ، كانت هنالك في انتظار موسى تجربة أقسى وأمر مما سبق ، كان هارون ومريم يشغلان مركزا ساميا ، مركز الكرامة والقيادة في إسرائيل ، وقد أعطيت لكل منهما موهبة النبوة ، وأشركهما الله مع موسى في خلاص العبرانيين فبلسان النبي ميخا قال الله : ( وأرسلت أمامك موسى وهارون ومريم ) (ميخا 6 : 4) ولقد ظهرت قوة أخلاق مريم منذ أمد بعيد إذ وقفت في صباها علي شاطئ النيل تراقب السفط الذي كان فيه أخوها الطفل موسى ، واستخدم الله قوة ضبطها لنفسها ولباقتها في حفظ حياة محرر شعبه ، وإذ كانت مريم امرأة موهوبة في الشعر والموسيقى قادت نساء إسرائيل في الغناء والرقص عند شواطىء البحر الأحمر ، وكان الشعب يحبها وكانت السماء تكرمها حتى صارت الثانية بعد موسى وهارون ولكن نفس الشر الذي أحث التشويش والنزاع في السماء منذ البدء ثار في قلب هذه المرأة الإسرائيلية ، ولم تعدم شريكا يشاطرها سخطها . AA 336.1
حين اختير الشيوخ السبعون لم تستشر مريم ولا هارون ، فثارت في نفسيهما الغيرة من موسى ، وعندما أتى يثيرون زيارة موسى حين كان الشعب في طريقهم إلى سيناء أثار استعداد موسي لقبول مشورة حمية الخوف في نفسيهما لئلا ينال يثرون حظوة ونفوذا لدى القائد العظيم (موسي) أكثر منهما . وفي تنظيم مجلس السبعين أحس هارون ومريم أن مركزهما وسلطتهما قد أغفلا . و لم يكن هارون ومريم يعرفان شيئا عن ثقل الهم والمسؤولية التى كان موسي رازحا تحتها ، ومع ذلك فلكونهما قد اختيرا لمعاونته اعتبرا نفسيهما أنهما يشاركانه بالتساوى في حمل عبء القيادة ، واعتبرا كذلك أنه لا داعي لتعيين مساعدين آخرين . AA 336.2
كان موسي يحس بأهمية الحمل العظيم المسند إليه كما لم يحس به أى إنسان آخر . وكان موقنا من ضعفه فجعل الله مشيرا له ، أما هارون فكان يقدر نفسه أكثر مما يلزم ، وكان أقل من موسي ثقة بالله ، لذلك أخفق حين أسندت إليه مسؤولية هامة ، وبرهن علي ضعف أخلاقه بإذعانه المهين في أمر العبادة الوثنيه في سيناء . وكان هارون ومريم اللذين أعماهما الحسد والطموح نسيا هذا ، لقد منح الله هارون كرامة عظيمة إذ عين عائلته في الوظائف الكهنوتية المقدسة ، ومع ذلك فحتى هذا زاد من رغبته في تعظيم نفسه ( هل كلم الرب موسي وحده ؟ ألم يكلمنا نحن أيضا ؟ ) ( انظر سفر العدد 12) فإذ كانا يعتبران أن لهما من الحظوة لدى الله مثل ما لموسي تماما أحسا بأنهما أهل لنفس المركز ونفس السلطان كموسي . AA 336.3
وإن مريم ، إذ استسلمت لروح السخط وجدت سببا للشكوى في حوادث كان الله مسيطرا عليها بكيفية خاصة . لقد أغضبها زواج موسي ، لأن اختياره زوجة من شعب آخر بدلا من اختياره زوجة من العبرانيات كان إهانة لعائلتها وكبريائها القومية . لقد عوملت صفورة باحتقار مقنع . AA 337.1
ومع أن زوجة موسي دعيت )المراة الكوشية) فقد كانت في حقيقة الأمر مديانية الأصل ، ولذلك كانت نسل ابراهيم وتختلف في منظرها عن العبرانيات إذ كانت أشد سمرة منهن . ومع أن صفورة لم تكن إسرائيلية فقد كانت تعبد الإله الحقيقي . كانت امرأة خجولا لا تحب الظهور ، كما كانت لطيفة ومحبة ويزعجها ويحزنها منظر الألم ، وهذا هو السبب الذي لأجله رضي موسي برجوعها إلي مديان حين كان في طريقه إلي مصر . لقد أراد أن يوفر عليها ألم مشاهدة الضربات التى كانت مزمعة أن تحل بالمصريين . AA 337.2
ولما اجتمعت صفورة برجلها في البرية رأت أن أثقاله تضعف قواه وكاشفت يثرون بمخاوفها ، فاقترح عليه بعض الإجراءات للتخفيف عنه . كان هذا هو السبب الرئيسي في نفور مريم من صفورة ، فإذ كانت تتألم من إهمال موسي المزعوم لها ولهارون اعتبرت أن زوجة موسي هي السبب ، واستنجت أن تأثيرها فيه حال بينه وبين اطلاعهما علي أسراره ومشوارته كما كانت الحال قبلا . لو ثبت هارون إلى جانب الحق لأمكنه أن يوقف الشر ، ولكن بدلا من أن يبصر مريم بشر تصرفها بادلها الشعور وأصغى إلى شكواها واشترك معها في غيرتها من موسي . AA 337.3
احتمل موسي اتهاماتها بسكوت وبدون تذمر . إن الاختبار الذي حصل عليه في أثناء سني التعب والانتظار في مديان — أى روح الوداعة والاحتمال التى نماها فيه - هو الذي أعد موسي ليواجه ، بصبره عدم إيمان الشعب وتذمراتهم ، وحسد وكبرياء ذنيك اللذين كان ينبغي أن يكونا مساعديه الثابتين . لقد كان موسي ( حليما جدا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض ) وهذا هو السبب الذي لأجله أعطيت له حكمة وإرشاد إلهيان أكثر من غيره ، يقول الكتاب ( يدرب الودعاء في الحق ، ويعلم الودعاء طرقه ) (مزمور 25 : 9) إن الله يدرب الودعاء ويرشدهم لأنهم قابلون للتعليم وراغبون وراغبون فيه . إن لهم رغبة صادقة في معرفة إرادة الله واتمامها ، وقد وعد المخلص قائلا : ( إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليمل ) (يوحنا 7 : 17) وقد أعلن على لسان يعقوب قائلا : ( وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة ، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير ، فسيعطى له ( ولكن وعده هو فقط لأولئك الذين يرغبون في اتباع الرب تماما . إن الله لا يرغم إرادة أي كان ، ولذلك لا يقدر أن يرشد المتكبرين جدا حيث أنهم لا يرغبون في التعلم ، الذين يصرون علي السير في طريقهم الخاص . أما الرجل ذو الرأيين — الذي يطلب عمل إرادته بينما هو يعترف بأنه يحمل إرادة الله فالكتاب يقول عنه : ) فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شئيا من عند الرب ) (يعقوب 1 : 5 ، 7) . AA 337.4
لقد اختار الله موسي و وضع روحه عليه ، ولذلك فإن مريم وهارون بتذمراتهما كانا خائنين ليس فقط للقائد المعين من الله بل لله نفسه ، فذانك المتمردان اللذان كانا يتهامسان سرا استدعيا إلى الخيمة ليقفا مع موسي وجها لوجه ( فنزل الرب في عمود سحاب و وقف في باب الخيمة ، ودعا هارون ومريم ) لم ينكر علهما ادعاءهما بأن لهما موهبة النبوة ، وقد يكون أن كلمهما في الرؤى والأحلام ، أما موسي الذي أعلن الرب نفسه عنه قائلا ( هو أمين في كل بيتي ) فقد أعطى له أن يتمتع بشركة أوثق وأعمق — لقد كان الرب يكلمه فما إلى فم . ثم قال لهما الله : ( لماذا لا تخشيان أن تتكلما علي عبدى موسي ؟ فحمي غضب الرب عليهما ومضي ) لقد اختفت السحابة عن الخيمة علامة عل سخط الله وغضبه فضربت مريم ، إذ صارت “برصاء كالثلج( لقد أبقي على هارون ، إلا أنه وقع تحت توبيخ صارم في القصاص الذي وقع على مريم . فالآن بعد ما انحطت كبرياؤهما في التراب اعترف هارون بخطيتهما ، وتوسل لأجل اخته حتى لا تترك لتموت بسوط البرص الكريه المميت ، فإجابة لصلاة موسى طهرت من برصها ، ومع ذلك فقد حجزت خارج المحلة سبعة أيام . و لم تعد علامة رضى الله (السحابة) إلى الخيمة إلا بعد ما نفيت مريم بعيدا عن المحلة ، فاحتراما لمقامها السامى ولشدة الحزن عليها بسبب الضربة التي أصابتها بقيت الجماعة كلها — في حضيروت بانتظار عودتها . AA 338.1
وكان غرض الله من إعلان سخطه هذا أن يكون تحذيرا لكل إسرائيل ليكون رادعا لروح البرم والتمرد بينهم . فلو لم توبخ مريم علنا على خطية السخط التي بدرت منها لنتج عنها شر عظيم . إن الحسد هو من أعظم الصفات الشيطانية التي يمكن أن تحل في القلب البشري ، وهي من شر الخطايا الوبيلة في نتائجها . يقول الحكيم “ا لغضب قساوة و السخط جراف ، و من يقف قدام الحسد ) (أمثال 27 : 4) لقد كان الحسد هو الذي أحدث التشويش في السماء من البدء ، وسبب الانغماس فيه شرورا لا تحصى لبني الإنسان ( لأنه حيث الغيرة والتحزب ، هناك التشويش وكل أمر رديء ) (يعقوب 3 : 16) . AA 338.2
ينبغي ألا نستخف بذم الآخرين أو إقامة أنفسنا قضاة ندين بواعثهم و أفعالهم ( لا يذم بعضكم بعضا أيها الإخوة . الذي يذم أخاه ويدين أخاه يذم الناموس و يدين الناموس . وإن كنت تدين الناموس ، فلست عاملا بالناموس ، بل ديانا له ) (يعقوب 4 : 11) يوجد ديان واحد وهو ( الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب ) (1 كورنثوس 4 : 5) فأي إنسان يجعل نفسه ديانا أو قاضيا لنبي جنسه إنما يغتصب حق الخالق . AA 339.1
والكتاب يحذرنا بنوع خاص من إلقاء التهم جزافا ضد الذين دعاهم الله ليكونوا سفراء له . والرسول بطرس إذ يصف جماعة من الخطاة الخلعاء يقول : ( جسورون ، معجبون بأنفسهم ، لا يرتعبون أن يفتروا على ذوي الأمجاد ، حيث ملائكة — وهم أعظم قوة وقدرة — لا يقدمون عليهم لدى الرب حكم افتراء ) (2 بطرس 2 : 10 ، 11) وبولس الرسول وهو يعلم قادة الكنيسة يقول : ( لا تقبل شكاية علي شيخ إلا علي شاهدين أو ثلاثة شهود ) (1 تيموثاوس 5 : 19) فذاك الذي وضع على أولئك الناس تلك المسؤولية الثقيلة مسؤولية تعليم شعبه وتبشيرهم لا بد من أن يدين الناس علي الكيفية التى بها يعاملون خدامه . فعلينا أن نكرم الذين قد أكرمهم الله . إن القصاص الذي حل بمريم ينبغي أن يكون توبيخا لكل من ينغلبون من الحسد ويتذمرون على الذين يضع الله عليهم مسؤولية عمله . AA 339.2
* * * * *