إنّ الرجل الذي أخذ الوزنة الواحدة: مضى وحفر في الأرض وأخفى فضة سيده (متى ٢٥: ١٨). COLAr 325.1
فالذي أخذ أصغر عطية ترك وزنته دون أن يستثمرها. في هذا يُقدَّم إنذار لكل من يشعرون بأن قلّة الهبات المعطاة لهم تعفيهم من خدمة المسيح. فلو أمكنهم أن يعملوا عملا عظيما فبأي سرور كانوا يباشرونه، ولكن لأنهم لا يستطيعون أن يقوموا إلاّ بالخدمات الصغيرة فهم يظنون أنّ لهم الحق في ألاّ يفعلوا شيئا. ولكنهم مخطئون في هذا. فالرب وهو يوزع العطايا إنّما يختبر الخلق. فالرجل الذي أهمل في تشغيل وزنته برهن على انّه عبدٌ غير أمين. فلو أخذ خمس وزنات لكان يخفيها كما فعل بالوزنة الواحدة. فسوء استخدامه للوزنة الواحدة برهن على أنّه يحتقر هبات السماء. COLAr 325.2
« اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ » (لوقا ١٦: ١٠). إنّ أهمية الأمور الصغيرة تُحتقر غالبا لأنها صغيرة ولكنها تُقدم كثيرا من التدريب الفعلي في الحياة. وفي الحق أنّه لا توجد أشياء غير جوهرية في الحياة المسيحية. إنّ بناء خلُقنا يتعرّض لمخاطر كثيرة حينما نبخس الأشياء الصغيرة أهميتَها. COLAr 326.1
« الظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ » (لوقا ١٦: ١٠)، إنّ الإنسان إذ لا يكون أمينا حتى في أصغر الواجبات يسلب خالقَه الخدمة التي هي من حقه. إنّ عدم الأمانة هذه لها ردّ فعل على الإنسان نفسه. فهو يخفق في نوال النعمة والقدرة وقوة الخلق التي يمكن الحصول عليها بواسطة الخضوع لله في غير تحفّظ فإذ يعيش بعيدا عن المسيح يتعرّض لتجارب الشيطان ويرتكب أخطاء في خدمته للسيد. فلكونه لا يسترشد بالمبادئ السليمة في الأمور الصغيرة فهو لا يستطيع أن يطيع الله في الأمور العظيمة التي يعتبرها عمله الخاص. فالنقائص التي يحتضنها في تصرّفه بالنسبة إلى التفاصيل الصغيرة تتغلغل في أهم الشؤون. فهو يتصرّف بموجب المبادئ التي قد عوّد نفسه عليها، وهكذا إذ تتكرر الأعمال تكوّن العادات، والعادات تكوّن الخلُق وبواسطة الخلُق يتقرّر مصيرنا في الحياة الحاضرة والأبدية. COLAr 326.2
إنّما فقط بالأمانة في صغائر الأمور يمكن للنفس أن تتدرب على أن تعمل بولاء وأمانة أمام المسؤوليات الجسام. لقد جعل الله دانيال ورفاقه يعاشرون عظماء بابل ويحتكون بهم حتى يتعرّف هؤلاء الوثنيون على مبادئ الدين الحقيقي. ففي وسط أمة أهلها يعبدون الأوثان كان على دانيال أن يمثّل صفات الله. ولكن كيف تسنّى له أن يؤهَّل لمثل ذلك المنصب ذي الثقة والكرامة العظيمين؟ إنّ أمانته في الأشياء الصغيرة هي التي شكلت حياته كلها. لقد أكرم الله في أصغر الواجبات فتعاون الرب معه. ولقد أعطى الله لدانيال ورفاقه « مَعْرِفَةً وَعَقْلاً فِي كُلِّ كِتَابَةٍ وَحِكْمَةٍ، وَكَانَ دَانِيآلُ فَهِيمًا بِكُلِّ الرُّؤَى وَالأَحْلاَمِ » (دانيال ١: ١٧). COLAr 326.3
وكما دعا الله دانيال ليشهد له في بابل كذلك هو يدعونا لنكون شهوده في العالم اليوم. ففي أصغر شؤون الحياة كما في أعظمها هو يريدنا أن نعلن للناس مبادئ ملكوته. COLAr 327.1
والمسيح في حياته على الأرض علّم الناس درس الاهتمام الحريص بالأمور الصغيرة. فعمل الفداء العظيم أثقل نفسَه على الدوام. فإذ كان يعلّم ويشفي أجهد عقلَه وجسمَه إلى أبعد حدود الإجهاد، ومع ذلك فلم تغِبْ عن انتباهه ابسطُ الأمور في الحياة وفي الطبيعة. وأعظم دروسه التعليمية كانت هي تلك التي فيها شرح حقائق ملكوت الله العظيمة بواسطة أشياء الطبيعة البسيطة. وهو لم يغفل حاجاتِ أحقرِ عبيده. فلقد سمعت إذنُه كلَّ صرخة محتاج. لقد كان واعيا إذ أحسّ بلمسة المرأة المريضة في زحمة الجموع. فأضعف لمسةٍ من لمسات الإيمان وجدت استجابة. وعندما أقام ابنة يايرس من الأموات ذكّر أبويها أنّها ينبغي أن تُعطى شيئا تأكله. وعندما قام من القبر بقوته العظيمة لم يترفّع عن أن يلف الأكفان التي كان ملفوفا فيها ويضعها بحرص في مكانها المناسب. COLAr 327.2
إنّ العمل الذي نحن مدعوون للقيام به كمسيحيين هو أن نتعاون مع المسيح لأجل خلاص النفوس. لقد دخلنا في عهد معه على القيام بهذا العمل. فإهمالنا العمل هو برهان على خيانتنا للمسيح. ولكن لكي نتمم هذا العمل علينا أن نتبع مثاله في الاهتمام الأمين وبضمير حيّ بالأمور الصغيرة. هذا هو سرّ النجاح في كل فرع من فروع المجهود والتأثير المسيحي. COLAr 328.1
إنّ الربّ يريد أن يصلَ شعبُه إلى أعلى درجات السلم حتى يمجدوه بامتلاكهم للمقدرة التي يرغب في منحها لهم. وبواسطة نعمة الله قد أُعِدّت كل مؤونة لأجلنا لنعلن أننا نسلك بموجب خطط أفضل من خطط العالم. علينا أن نبرهن على تفوقنا في الذكاء والفهم والمهارة والمعرفة لأننا نؤمن بالله وبقدرته على أن يؤثر في قلوب الناس. COLAr 328.2
ولكن لا حاجة لمن لا يملكون هبات كثيرة وعظيمة أن يفشلوا. بل ليستخدموا ما لديهم بأمانة متحفظين من كل نقط الضعف في أخلاقهم مجتهدين بنعمة الله في تقويتها. إنّ كل عمل من أعمال الحياة يجب أن ندخل فيه عنصر الأمانة والولاء إذ نغرس في نفوسنا السجايا التي تعيننا على إنجاز العمل. COLAr 328.3
وينبغي الانتصار على عادات الإهمال بعزم ثابت. كثيرون يظنون أنّ حجة النسيان هي عذر كافٍ عن أشنع الأخطاء. ولكن ألا يملكون قوى عقلية كغيرهم من الناس: إذا فعليهم أن يدربوا عقولهم على حفظ ما يلقى عليها وتذكره. إنّ النسيان والإهمال كلاهما خطية. فإذا كونت في نفسك عادة الإهمال فقد تهمل خلاص نفسك وأخيرا تجد أنك غير مستعد لملكوت الله. COLAr 328.4
ويجب إدخال الحقائق العظيمة في الأشياء الصغيرة. ومن اللازم إدخال الدين العملي إلى أحقر واجبات الحياة اليومية. وأعظم مؤهل يمكن أن يحصل عليه أي إنسان هو أن يطيع كلمة الله بثقة تامة. COLAr 329.1
إن كثيرين من الناس يشعرون أن حياتهم عديمة النفع لكونهم غير مرتبطين بعمل ديني مباشر، وانهم لا يفعلون شيئا لأجل تقدّم ملكوت الله. ولكن هذا خطأ. فإذا كان عملهم مما يجب أن يقوم به أحد فينبغي أن لا يتّهموا أنفسهم بعدم نفعهم في أسرة الله العظيمة. ويجب ألاّ يتجاهل أحد أحقر الواجبات. إنّ أي عمل شريف هو بركة والأمانة فيه قد تكون تدريبا بموجبه يؤتمن الإنسان على ودائع أسمى. COLAr 329.2
إنّ أي عمل يُعمل لأجل الله بتسليم كامل للذات فمهما يكن وضيعا هو مقبول لديه كأسمى خدمة. وأية تقدمة ليست صغيرة ما دامت مقدمة بخلوص القلب وفرح النفس COLAr 329.3
وأينما نكون فالمسيح يأمرنا بأن نأخذ على عاتقنا الواجب الذي يُقدّم لنا. فان كان هذا الواجب في البيت خذه بكل رضى وغيرة لتجعل البيت مكانا سعيدا. فإن كنتِ أمّا ربّي أولادك للمسيح. هذا هو في الواقع عمل الله كعمل الخادم في المنبر. فإن كان عملكِ في المطبخ فاجتهدي أن تكوني طاهيةً ممتازةً. أعدّي الطعام الصحّي المغذي الشهي، وفيما أنت تستعملين أفضل المواد الغذائية في إعداد الطعام تذكري انّك يجب أن تغذي عقلك بأفضل الأفكار. وإذا كان عملكَ حرثُ الأرض أو الاشتغال في أيّة تجارة أو حرفة أخرى فاجعل عملَك الحاضرَ ناجحا. واشغل عقلك فيما أنت صانع. ففي كل عملك مثّل المسيح واعمل ما كان يعمله لو كان في مكانك. COLAr 329.4
مهما تكن وزنتك صغيرة فإن عند الله مكانا لها. فتلك الوزنة الواحدة لو استُخدمت بحكمة سيُتمَّم عملُها المرتب لها. فبواسطة الأمانة في الواجبات الصغيرة علينا أن نعملَ بموجب خطّة الزيادة والله سيعمل لأجلنا بموجب خطة التكاثر أو المضاعفة. فهذه الأشياء الصغيرة ستصير أثمن المؤثرات في عمله. COLAr 330.1
ليجرِ الإيمان الحي كخيطٍ من ذهب في إتمام حتى أصغر الواجبات. وحينئذ فكلّ العمل اليومي سيساعد على النمو المسيحي. وسينظر المؤمن على الدوام إلى يسوع. فالمحبة له ستضفي على كل عمل يُعمل قوة حيوية. وهكذا فعن طريق الاستخدام الصائب لوزناتنا يمكننا أن نربط أنفسنا بالعالم الاسمي بسلسلة ذهبية. هذا هو التقديس الحقيقي لان التقديس ينحصر في إتمامنا لواجباتنا اليومية بفرح في طاعة كاملة لإرادة الله. COLAr 330.2
ولكنّ كثيرين من المسيحيين مازالوا ينتظرون أن يُسند إليهم عملُُ عظيم ليعملوه. فلكونهم لا يستطيعون أن يجدوا مكانا واسعا بالكفاية ليشبع طموحهم فهم يفشلون في إنجاز واجبات الحياة العادية بأمانة. فهذه يبدو أنّها غير ملذة في نظرهم. ويوما بعد يوم هم يفلتون الفرص لإظهار أمانتهم لله. وفي حين أنّهم ينتظرون عملا عظيما تمضي الحياة دون أن تتم أغراضها ودون أن يكمل عملها. COLAr 330.3