(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في لوقا ١٠: ٢٥-٣٧).
إنّ هذا السؤال القائل: « مَنْ هُوَ قَرِيبِي؟ » كان مثار كثير من الجدل الذي لا ينتهي بين اليهود. لم يكن عندهم شكّ بالنسبة إلى الوثنيين والسامريين. فهؤلاء كانوا غرباء وأعداء. ولكن أين يوضع الحدّ الفاصل بين شعب أمتهم وبين طبقات المجتمع المختلفة؟ ومن هو الذي يجب أن يعتبره الكاهن أو المعلم أو الشيخ قريبه؟ لقد قضوا حياتهم في ممارسة طقوس لا تنتهي لكي يجعلوا أنفسهم أنقياء. وقد علموا أن ملامستهم للجهال والمهملين من عامة الشعب تسبب لهم نجاسة تتطلب بذل جهد ممل ومتعب لإزالتها. وهل كان لهم أن يعتبروا « النَّجِسِينَ » أقرباء لهم؟ COLAr 346.1
وقد أجاب المسيح على هذا السؤال في مثل السامري الصالح. فقد برهن أنّ قريبنا لا يعني مجرد أن يكون الإنسان فردا في الكنيسة التي ننتمي إليها أو العقيدة التي ندين بها. وكلمة قريب لا توجد فيها أي إشارة إلى الجنس أو اللون أو أي تمييز طبقي. ولكن قريبنا هو أيّ إنسان محتاج إلى معونتنا. قريبنا هو كل إنسان جرحه العدو وسحقه. قريبنا هو كل إنسان يخصّ الله. COLAr 346.2
والذي دعا إلى إيراد مثل السامري الصالح هو سؤال قدمه ناموسي إلى المسيح. ففيما كان المُخَلِّص يعلم « إِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟ » (لوقا ١٠: ٢٥). لقد اقترح الفريسيون هذا السؤال على الناموسي على أمل أن يوقعوا المسيح في شرك من كلامه فأصغوا إلى جوابه بكلّ شوق. لكنّ المُخَلِّص لم يشتبك في جدال مع أحد. فطلب من السائل أن يجيب بنفسه على سؤاله. فسأله قائلا: « مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟ » (لوقا ١٠: ٢٦). كان اليهود لا يزالون يتهمون يسوع بأنّه يستخفّ بالناموس المُعطى من سيناء ولكنّه حوّل السؤال عن الخلاص إلى حفظ وصايا الله. COLAr 347.1
فأجابه الناموسي قائلا: « تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ » فقال له المســـيح: « بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا » (لوقا ١٠: ٢٧، ٢٨). COLAr 347.2
إنّ الناموسي لم يكن راضياً عن موقف الفريسيين وأعمالهم. فقد كان يقرأ الكتب المقدسة وهو مشتاق لمعرفة معناها الحقيقي. كان مهتما اهتماما حيويا بالمسألة فسأل قائلا بإخلاص: ماذا أعمل؟ وفي جوابه عن مطاليب الناموس أغفل كل مجموعة الوصايا الطقسية والفرضية. فلم يدّعِ أنّ لهذه الأشياء أيّة قيمة بل قدّم المبدأين العظيمين اللذين يتعلق بهما الناموس كلّه والأنبياء. وإنّ مدح المسيح وثناءه على هذا الجواب وضع المسيح في مركز امتياز مع المعلمين. فلم يستطيعوا أن يدينوه على مصادقته على ما قدمه رجل هو مفسر للناموس. COLAr 347.3
قال له المسيح: « اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا » (لوقا ١٠: ٢٨). ففي تعليمه كان دائما يقدم الشريعة على أنّها وحدة إلهية مبينا انّه يستحيل على إنسان أن يحفظ وصية ويكسر أخرى لأنّ نفس المبدأ الواحد يسري فيهن جميعا. ومصير الإنسان يتقرر بموجب طاعته لكل الناموس. COLAr 347.4
ولقد عرف المسيح أنّه لا يستطيع إنسان أن يطيع الناموس بقوته. فأراد أن يُرشد الناموسي إلى بحث أوضح وأكثر دقة حتى يجد الحق. إننّا لا نستطيع أن نحفظ الناموس إلاّ إذا قبلنا فضيلةَ وقوى المسيح ونعمته. فالإيمان بالكفارة عن الخطية يمكّن الإنسان الساقط من أن يحب الله من كل قلبه ويحب قريبه كنفسه. COLAr 348.1
وقد عرف الناموسي أنّه لم يحفظ الوصايا الأربع الأولى ولا الوصايا الأخرى. كان متبكّتا من أقوال المسيح الفاحصة، ولكن بدلا من الاعتراف بخطيّته حاول أن يتسامح معها. وبدلا من الاعتراف بالحق حاول أن يبرهن على مقدار صعوبة حفظ الوصية. وهكذا كان يرجو أن يتفادى الاقتناع ويبرّر نفسه في عيون الشعب. وأن كلام المسيح يبرهن على سؤال الرجل لم يكن ثمة ما يدعو إليه لأنَّه كان قادرا على أن يجيب عليه بنفسه. ومع ذلك فقد قدم إليه سؤالا آخر قائلا: « وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟ » (لوقا ١٠: ٢٩). COLAr 348.2
ومرّة أخري رفض المسيح الدخول في جدال. بل أجاب على السؤال بقصة حادثة وقعت وكانت ذكـراها لا تزال ماثلة في أذهان السـامعين. قال: « إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ » (لوقا ١٠: ٣٠). COLAr 349.1
كان على المسافر من أورشليم إلى أريحا أن يعبر في جزء من بريّة يهوذا. وكان الطريق يفضي إلى وادٍ ضيق موحش صخري كان يكمن فيه اللصوص وكثيراً ما كانت تُرى فيه مشاهد العنف. ففي هذا المكان هوجم المسافر وعُرّي من كل ثيابه الغالية وتُرِك على جانب الطريق بين حيّ وميّت. وفيما كان مطروحا في حالته تلك عرض أن كاهنا نزل في تلك الطريق فرأي الرجل مطروحا جريحا ومرضّضا ومتمرّغا في دمه، ولكنه تركه ومضى دون أن يمدّ إليه يد الغوث بل « جَازَ مُقَابِلَهُ » (لوقا ١٠: ٣١). ثم ظهر لاوي. فإذ دفعه فضوله لمعرفة ما قد حدث وقف ونظر إلى الرجل المتألم. وكان مقتنعا بما يجب عليه عمله ولكن ذلك الواجب لم يكن ممّا يروق له. وكان يتمنىّ لو لم يأت في ذلك الطريق حتى لا يرى ذلك الجريح. وقد اقنع نفسه بأن ليس له دخل في المسألة « جَازَ مُقَابِلَهُ » (لوقا ١٠: ٣٢). COLAr 349.2
ولكنّ سامرياً مسافرا جاء في نفس الطريق ورأي المتألم وعمل ما تنحّى غيره عن عمله. فبكلّ رقة وحنان خدم الجريح: « وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُق وَاعْتَنَى بِهِ. وَفِي الْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: اعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ » (لوقا ١٠: ٣٣-٣٥). كان كلّ من الكاهن واللاوي يدعي التقوى، ولكنّ السامري اظهر أنّه متجدد حقاً. كان ذلك العمل الذي قام به كريها لديه كما كان كريها لدى الكاهن واللاوي. ولكنّه برهن بروحه وعمله على أنه متوافق مع الله. COLAr 349.3
إنّ المسيح وهو يقدّم هذا الدرس قدّم مبادئ الناموس بكيفية مباشرة وفعالة، مبينا لسامعيه أنّهم قد أهملوا في تنفيذ هذه المبادئ. وكان كلامه محددا وسديدا بحيث لم يجد سامعوه فرصة للمماحكة. ولم يجد ذلك الناموسي في هذا الدرس شيئا يمكنه أن ينتقده. وقد زال تعصّبه ضد المسيح. ولكنه لم يكن قد انتصر على كراهيته القومية بحيث يذكر اسم السامري ممتدحا إياه. فعندما سأله المسيح قائلا: « أَيَّ هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيبًا لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ اللُّصُوصِ؟ فَقَالَ: الَّذِي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ » (لوقا ١٠: ٣٦، ٣٧). COLAr 350.1
قال له المسيح: « اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا » (لوقا ١٠: ٣٧). أي أظهر نفس الحنان والرقة لمن يحتاجونهما. وبهذا تبرهن على أنك تحفظ كل الناموس. COLAr 350.2
كان الخلاف العظيم بين اليهود والسامريين خلافا يتناول العقيدة الدينية، والسؤال عن ماذا يحدد العبادة الحقة. إنّ الفريسيين لم يريدوا أن يمتدحوا السامريين في شيء بل صبوا عليهم أمرّ لعناتهم. لقد كان النفور بين اليهود والسامريين على أشدّه حتى لقد بدا للمرأة السامرية أمراً غريبا أن يطلب منها المسيح جرعة ماء فقالت له: « كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟ » ثم أضاف البشير القول: « لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ » (يوحنا ٤: ٩). وعندما امتلأت قلوب اليهود بالعداوة القاتلة للمسيح حتى قاموا ليرجموه في الهيكل لم يجدوا كلاما يعبرون به عن عداوتهم أفضل من قولهم: « أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَنًا: إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟” (يوحنا ٨: ٤٨). ومع ذلك فقد أهمل الكاهن واللاوي نفس العمل الذي قد أوصاهما الرب به وفرضه عليهما في كونهما قد تركا سامريا مكروهاً ومحتقراً ليخدم أحد مواطنيهما. COLAr 350.3
لقد تمم السامري الوصية: تحب قريبك كنفسك وبهذا برهن على انّه أبرّ ممّن كانوا يشهّرون به. فإذ خاطر بحياته عامل الجريح معاملة الأخ لأخيه. إنّ هذا السامري يرمز إلى المسيح. إنّ مخلِّصنا قد أظهر نحونا محبة لا يمكن أن تضارعها محبة للإنسان. فعندما كنا مسحوقين وأمواتا لا محالة تحنن علينا. إنّه لم يجُزْ مقابلنا تاركاً إيانا في حال العجز واليأس لنهلك. ولم يظلّ في مسكنه المقدس السعيد حيث كان يحبه جميع أجناد السماء. لقد رأي حاجتنا الشديدة الملحّة وأخذ قضيتنا وقرن مصالحه بمصالح الإنسانية. لقد مات لكي يخلص أعداءه. وصلّى لأجل قاتليه. وإذ يشير إلى مثاله يقول لتلاميذه: « بِهذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا »، « كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا » (يوحنا ١٥: ١٧؛ ١٣: ٣٤). COLAr 351.1
كان الكاهن واللاوي قد ذهبا للعبادة في الهيكل الذي كانت خدمته معينة من الله نفسه. وكان الاشتراك في تلك الخدمة امتيازا عظيما ومجيدا، وقد أحس الكاهن واللاوي انّه حيث قد أُكرما ذلك الإكرام فليس مما يليق بكرامتهما أن يقدما خدمة لإنسان غريب مُلقى على قارعة الطريق. وهكذا أهملا الفرصة الخاصة التي قدمها لهما الله كنائبين عنه في جلب البركة لأحد بني جنسهما. COLAr 352.1
وكثيرون يرتكبون نفس هذا الخطأ اليوم. فهم يقسمون واجباتهم إلى قسمين متميزين. فأحدهما يتكون من الأمور العظيمة التي تنظمها شريعة الله، أما القسم الآخر فيتكون مما يُسمى بالأمور الصغيرة التي فيها يتجاهلون الوصية القائلة: تحب قريبك كنفسك. ومحيط هذا العمل يترك لهوى الإنسان أو مزاجه ويخضع لميله وبواعثه. وهكذا يتشوّه الخلق ويساء تمثيل ديانة المسيح. COLAr 352.2
يوجد من يظنّون أنّ في خدمة الإنسانية المتألمة تحقيراً لكرامتهم. وكثيرون ينظرون إلى من قد جعلوا هيكل النفس خرابا باحتقار وغير اكتراث. وآخرون يهملون الفقراء مدفوعين بدافع مختلف. إنّهم يخدمون، حسب اعتقادهم، في عمل المسيح لكي يقيموا مشروعا مستحقا، فهم يحسّون بأنهم عاملون عملا عظيما ولا يستطيعون التوقف للنظر في احتياجات المعوزين والمتضايقين. ففي التقدم بعملهم الذي يظنون انه عظيم يظلمون المساكين ويسحقونهم. وقد يضعونهم في ظروف شاقة قاسية ويجردونهم من حقوقهم أو يهملون حاجاتهم. ومع ذلك فهم يحسّون بأنّ هذا كله مشروع لأنهم يعملون على تقدم عمل الله كما يظنّون. COLAr 352.3
وكثيرون يتركون أخا أو قريبا ليكافح ضدّ ظروف معاكسة دون أن يجد عونا من أحد. فلكونهم يعترفون بأنهم مسيحيون فهذا قد يجعله يظنّ أنّهم في أنانيتهم الفاترة يمثلون المسيح. فلأن من يعترفون بأنهم خدام الرب غير متعاونين معه فإنّ محبة الله التي يجب أن تفيض منهم تتقطع بدرجة عظيمة ويحرم منها بنو جنسهم. ثم يمنع جانب كبير من الحمد والشكر من أن يرفع من القلوب والألسن البشرية الفائضة بهما إلى الله. فهو يسلب المجد اللائق لاسمه القدوس. وتُسلب منه النفوس التي قد مات المسيح لأجلها، النفوس التي يتوق للإتيان بها إلى ملكوته ليعيشوا في حضرته مدي دهور الأبد. COLAr 353.1
إنّ الحقّ الإلهي لا يُحدث إلاّ تأثيرا ضئيلا في العالم في حين كان يجب أن يُحدث تأثيرا عظيما بفضل ممارستنا إيّاه. إنّ مجرد الاعتراف بالديانة كثير، ولكنّ أكثره لا قيمة له. فيمكننا أن ندّعي أننا تلاميذ المسيح، وأن ندّعي بأننا نؤمن بكل حق وارد في كلمة الله. ولكن هذا لن يفيد أقرباءنا شيئا ما لم ننفّذ ما نعتقده في حياتنا اليومية. وقد يرتفع الاعتراف إلى عنان السماء، ولكنه لن يخلص نفوسنا أو بني جنسنا ما لم نكن مسيحيين بالحق. إنّ المثال الصالح يحقق منافع للعالم أكثر من كل اعترافنا. COLAr 353.2
الأعمال الأنانية لا يمكنها أبدا أن تخدم ملكوت الله. إنّ ملكوته هو ملكوت المظلومين والفقراء. ففي قلوب المعترفين بأنهم تلاميذه توجد حاجة إلى عطف المسيح الرقيق — ومحبة أعمق لمن قد قدرهم أعظم تقدير بحيث بذل نفسه لأجل خلاصهم. هذه النفوس غالية جدا، وأغلى بكثير من أية ذبيحة يمكننا أن نقدمها إلى الله. إنّ كوننا نبذل أعظم قوى نشاطنا لنجاح عمل يبدو عظيما في حين أننا نهمل المعوزين أو نصدّ الغريب عن أخذ حقه ليس خدمة يمكن أن تظفر برضى الله واستحسانه. COLAr 353.3
إنّ تقديس النفس بعمل الرُّوح الْقُدُس هو غرس طبيعة المسيح في القلب البشري. إنّ دين الإنجيل هو المسيح في الحياة — وهو مبدأ حيّ عامل. إنّه نعمة المسيح الظاهرة في الخلق والمثمرة في الأعمال الصالحة. إنّ مبادئ الإنجيل لا يمكن فصلها عن دائرة الحياة العملية. وكل فرع من فروع الاختبار والعمل المسيحي يجب أن يكون صورة تمثل حياة المسيح. COLAr 354.1
المحبة هي أساس التقوى. فمهما يكن نوع الاعتراف فلا يمكن أن يكون لإنسان محبة ظاهرة لله ما لم يحب أخاه محبة خالية من الأنانية. ولكن لا يمكننا امتلاك هذه الروح بواسطة جهدنا في محبة الآخرين. فالذي نحتاجه هو محبة المسيح في القلب. فعندما تندمج الذات في المسيح فالمحبة تنبثق من تلقاء ذاتها. ويمكن بلوغ الكمال في الخلق المسيحي عندما ينبثق من الداخل الوازع على مساعدة الآخرين ومباركتهم بلا انقطاع وعندما يملأ القلبَ ضياءُ السماءِ ويظهر على الوجه. COLAr 354.2
إنّ القلب الذي يسكنه المسيح يستحيل عليه أن يكون خاليا من المحبة. فإذا أحببنا الله لأنّه هو أحبنا أولا فسنحب كل من قد مات المسيح لأجلهم. ولا يمكننا ملامسة اللاهوت دون أن نلامس الناسوت، لأن ذاك الجالس على عرش الكون فيه يتحد اللاهوت بالناسوت. فإذ نرتبط بالمسيح نرتبط ببني جنسنا بحلقات سلسلة المحبة الذهبية. حينئذ تظهر في حياتنا شفقة المسيح وحنانه. لن ننتظر حتى يؤتي إلينا بالمحتاجين والتعساء ولن نحتاج إلى أن يستعطفنا أحد لنحسّ ببلايا الآخرين. بل في خدمتنا للمحتاجين والمتألمين ستكون أمرا طبيعيا بالنسبة إلينا كما كانت بالنسبة إلى المسيح حين كان يجول يصنع خيرا. COLAr 354.3
فأينما يوجد وازع للمحبة والعطف. وأينما يسعى القلب ليبارك الآخرين ويرفعهم هناك يعلن عمل روح الله القدوس. وفى أعماق الوثنية حدث أنّ أناسا لم يكونوا يعرفون شيئا عن شريعة الله المكتوبة، ولا سمعوا قط اسم المسيح كانوا لطفاء تجاه خدامه وحفظوهم مخاطرين في ذلك بحياتهم. فأعمالهم تلك ترينا عمل القوة الإلهية. لقد غرس الرُّوح الْقُدُس نعمة المسيح في قلب الإنسان الوحشي محييا عواطفه على نقيض طبيعته وتربيته. « النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ » (يوحنا ١: ٩) ينير خفايا نفسه، وهذا النور إذا انتبه إليه سيقوّم قدميه إلى ملكوت الله. إنّ مجد السماء هو في إقامة الساقطين وتعزية المحزونين المتضايقين. وأينما يسكن المسيح في القلوب فهو سيعلن بنفس هذه الطريقة. وديانة المسيح لابدّ أن تبارك أينما تعمل. وأينما تعمل فهناك الضياء والصفاء. COLAr 355.1
إنّ الله لا يعترف بأي تمييز من ناحية القومية أو الجنس أو الطبقات. فهو خالق كل الجنس البشرى فالجميع هم أفراد أسرة واحدة بالخلق والجميع واحد بالفداء. ولقد جاء المسيح لينقض كل حائط فاصل، وليفتح كل أقسام الهيكل لكي يمكن لكل نفس أن تقترب إلى الله بحرية. إنّ محبته عريضة جدا وعميقة جدا وكاملة جدا بحيث تنساب في كل مكان. وهي ترفع من دائرة الشيطان النفوس المسكينة التي قد انخدعت بتمويهاته وهي تضعها قرب عرش الله، العرش المحاط بقوس قزح الوعد. COLAr 356.1
وفي المسيح لا يهودي ولا يوناني ولا عبد ولا حر فالجميع صاروا قريبين بدم المسيح. (غلاطية ٣: ٢٨: أَفَسُس ٢: ١٣). COLAr 356.2
فمهما يكن الاختلاف في العقيدة الدينية فإنّ النداء الصادر من الإنسانية المتألمة يجب أن يسمع ويجاب. وحيث يكون الشعور بالبغضة مراً بسبب الخلاف في الدين فيمكن عمل خير كثير بالخدمة الفردية. إنّ خدمة المحبة تحطم التعصّب وتهدمه وتربح نفوسا لله. COLAr 356.3
ونحن يجب أن نتوقع الأحزان والصعوبات والاضطرابات من الآخرين. فيجب أن ندخل إلى أفراح وهموم العال والدون، الأغنياء والفقراء. وقد قال المسيح: « مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا » (متى ١٠: ٨). فكل من حولنا نفوس مسكينة مجرّبة وتحتاج إلى كلمات العطف وأعمال العون. فتوجد أرامل يحتجن إلى العطف والمساعدة. كما يوجد يتامى أمر المسيح تابعيه أن يقبلوهم كأمانة مسلمة لهم من الله. وفى أغلب الأحيان يمرّ الناس على هؤلاء ويهملونهم. وقد يكونون رثّي الثياب وخشني الطباع، ويبدو أنّهم منفردون في كل شيء، ولكنهم مع كل ذلك خاصة الله. لقد اُشْتروا بثمن، وهم أعزاء في نظره مثلنا تماما. وهم أفراد في أسرة الله العظيمة، المسيحيون كوكلاء لله مسؤولون عنهم. وهو يقول: دمه من يدك أطلبه. COLAr 356.4
إنّ الخطية هي أعظم كل الشرور، وواجبنا أن نشفق على الخاطئ ونساعده. ولكن لا يمكن الوصول إلى الجميع بنفس الطريقة. فيوجد كثيرون ممن يخفون جوع أرواحهم. هؤلاء يمكن مساعدتهم مساعدة عظيمة بكلمة رقيقة أو ذكري مشفقة. ويوجد آخرون ممن هم في أشد الحاجة ومع هذا فهم لا يعرفون ذلك. فهم يدركون فاقة النفس المخيفة. وكثيرون قد غاصوا إلى أعماق الخطية بحيث قد أضاعوا الإحساس بالحقائق الأبدية، وأضاعوا صورة الله ولا يكادون يعرفون ما إذا كانت لهم نفوس يجب أن تخلص أم لا. فلا إيمان لهم بالله ولا ثقة بإنسان. كثيرون من هؤلاء يمكن الوصول إليهم فقط عن طريق أعمال الشفقة غير المغرضة. ويجب الاهتمام بسد حاجاتهم الجسدية أولا. فينبغي إطعامهم وتنظيفهم وإلباسهم لباس الحشمة فإذ يرون برهان محبتكم التي لا تعرف الأنانية فسيكون من السهل عليهم أن يؤمنوا بمحبة المسيح. COLAr 357.1
ويوجد كثيرون ممن يخطئون ويحسّون بخزيهم وعارهم. إنهم ينظرون إلى أخطائهم وغلطاتهم حتى ليكادون ينساقون مع تيار اليأس. فعلينا ألاّ نهمل هذه النفوس عندما يلتزم الإنسان أن يسبح عكس التيار، فكل قوة التيار تحاول أن تجرفه إلى الوراء. إذا فلتمتد إليه يد معينة كما قد امتدت يد الأخ الأكبر لإنقاذ بطرس من الغرق. حدّثه بكلام الرجاء، كلام يوطد ثقتَه ويوقظ محبتَه. COLAr 357.2
إنّ أخاك السقيم الروح يحتاج إليك كما قد احتجت أنت إلى محبة أخيك. إنّه يحتاج لأن يعرف اختبار إنسان في مثل ضعفه. ويمكنه أن يعطف عليه ويعينه. إنّ معرفتنا لضعفنا يجب أن تساعدنا على مساعدة إنسان آخر في حاجته المرة. فينبغي ألاّ نتجاوز أي إنسان متألم دون أن نحاول أن نقدم له التعزية التي نتعزّى بها من الله. COLAr 357.3
إنّ معاشرتنا للمسيح واتصالنا الشخصي بالمُخَلِّص الحيّ تمكنان العقل والقلب والنفس من الانتصار على الطبيعة الدنيا. أخبر الضال عن اليد المقتدرة التي ستسنده والإنسانية اللامتناهية في المسيح التي تعطف عليه. لا يكفيه أن يؤمن بالناموس والعنف — الأشياء التي لا ترفق ولا تسمع صرخة الاستنجاد. إنّه بحاجة إلى مصافحة يد دافئة، والثقة بقلب مفعم بالحنان. اجعل عقله يتركز في فكرة الحضور الإلهي إلى جانبه دائما، إذ ينظر الرب إليه في رفق وحب. اجعله يفكر في قلب الآب الذي تحزنه الخطية، ويد الآب التي لا تزال ممتدة، وصوت الآب وهو يقول: « يَتَمَسَّكُ بِحِصْنِي فَيَصْنَعُ صُلْحًا مَعِي. صُلْحًا يَصْنَعُ مَعِي » (إِشَعْيَاء ٢٧: ٥). COLAr 358.1
فإذ تنشغل بهذا العمل فإنّ لك رفاقا لا تراهم عيون الناس. لقد كان ملائكة السماء إلى جوار السامري الذي اهتم بالغريب الجريح. وإنّ الملائكة القادمين من السماء يقفون إلى جانب كل من يخدم الله بخدمة بني جنسه. بل أن المسيح نفسه يتعاون معك. إنّه الشافي وإذ تخدم تحت إشرافه ستري نتائج عظيمة. COLAr 358.2
فعلى أمانتك في هذا العمل يتوقف ليس خير الآخرين فحسب بل مصيرك الأبدي أيضا. إنّ المسيح يجتهد في أن يقيم كل من يريد أن يرتفع إلى معاشرته لنكون واحدا معه كما انه واحد مع الآب. إنّه يسمح لنا بالاقتراب من الآلام والبلايا لكي يخرجنا من نطاق الأنانية. وهو يحاول أن ينمي فينا سجايا خلقه — كالحنان والرقة والمحبة. فإذ نقبل عمل هذه الخدمة فإننا ننتظم في مدرسته لنكون مؤهلين لمساكن الله. أما إذا رفضناها فإنما نرفض وصيته ونختار الانفصال بعيدا عن وجهه إلى الأبد. COLAr 358.3
إنّ الرب يعلن قائلا: « إِنْ حَفِظْتَ شَعَائِرِي » « أُعْطِيكَ مَسَالِكَ بَيْنَ هؤُلاَءِ الْوَاقِفِينَ » — أي بين الملائكة المحيطين بالعرش (زكريا ٣: ٧). فإذ نتعاون مع الخلائق السماوية في عملهم على الأرض فإننا نتأهب لمعاشرتهم في السماء « أَرْوَاحًا خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ » (عبرانيين ١: ١٤)، والملائكة في السماء سيرحبون بِمَن حين كانوا على الأرض عاشـوا لا ليُخـدَموا بل ليَخْدِموا. (متى ٢٠ :٢٨). وفي هذه المصاحبة المباركة ممّا يفرحنا إلى الأبد أننا سـنتعلم كل ما كان مشـتملا هذا السـؤال: « مَنْ هُوَ قَرِيبِي؟ » COLAr 359.1