(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في متى ١٩: ١٦-٣٠، ٢٠: ١-١٦؛مرقس ١٠: ١٧-٣١؛ لوقا ١٨: ١٨-٣٠).
لقد غاب عن أنظار اليهود حق نعمة الله المجانية. فلقد علّم المعلّمون الشعب أنّ رضى الله ونعمته يجب أن يُكتسبا. وكانوا يؤمّلون أن يحصلوا على مجازاة الأبرار بأعمالهم. وهكذا كانت عبادتهم تمارس بروح تجارية طامعة. وحتى تلاميذ المسيح أنفسهم لم يكونوا متحررين تماما من هذه الروح، وقد انتهز المُخَلِّص كل فرصة ليريهم خطأهم. وقبلما نطق بمَثَل الفعلة مباشرة حدث حادث أفسح له المجالَ ليقدم لهم المبادئ السليمة. COLAr 360.1
ففيما كان سائرا في الطريق جاء رئيس شاب راكضا وجثا له وحيَّاه بوقار قائلا له: « أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟ » (متى ١٩: ١٦) . COLAr 360.2
إنّ ذلك الرئيس خاطب المسيح على أنه معلّم مكرم، دون أن يعرف انّه ابن الله. فقال له المُخَلِّص: « لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا. لَيْسَ أحَدٌ صَالِحًا إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ » (متى ١٩: ١٧). فكأنه يقول له: « على أي أساس تدعوني صالحا؟ » إنّ الله هو وحده الصالح. فإذا كنت تعترف بأنني صالح فيجب أن تقبلني كابنه ونائبه. COLAr 360.3
ثم أضاف يقول: « إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا » (متى ١٩: ١٧). إنّ صفات الله موضحة في شريعته، فلكي تكون في وفاق مع الله يجب أن تكون مبادئ شريعته هي نبع كل أعمالك. COLAr 361.1
إنّ المسيح لا يقلل مطاليب الشريعة. ولكنّه بلغة لا تخطيء يقدّم الطاعة لها كشرط الحياة الأبدية وهو نفس الشرط الذي طُلِب من آدم قبل سقوطه. والرب لا يتوقع من النفس الآن أقل ممّا توقع من الإنسان في الفردوس، أي الطاعة الكاملة والبرّ الذي لا عيب فيه. إنّ ما يطلب من الإنسان في عهد النعمة هو في نفس اتساع ما طلب من الإنسان الأول في عدن — أي التوافق مع شريعة الله التي هي مقدسة وعادلة وصالحة. COLAr 361.2
فإذ قال له السيد « احْفَظِ الْوَصَايَا » أجاب الشاب قائلا: « أَيَّةَ الْوَصَايَا؟” (متى ١٩: ١٨) فقد حسب أنّ المقصود هو فرضٌ طقسي، أمّا المسيح فكان يتحدث عن الشريعة المعطاة في سيناء. ثم ذكر له عدة وصايا مما كان مكتوبا على اللوح الثاني من الوصايا العشر. ثم أجملها كلها في وصية واحدة: « أَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ » (متى ١٩: ١٨، ١٩). COLAr 361.3
فأجابه الشاب قائلا بدون تردد: « هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُني بَعْدُ؟ » (متى ١٩: ٢٠). إنّ فهمهم للشريعة كان خارجيا وسطحيا. فمن وجهة نظر الحكم بالقياس البشري كان خلُقه نقيا لا شائبةَ فيه. وكانت حياته الخارجية خالية من الذنوب إلى حد كبير، وفي الواقع انّه ظن أنّ طاعته كانت بلا عيب. ومع ذلك فقد كان في قلبه خوف خفيّ من أنّ كل شيء لم يكن على ما يرام بينه وبين الله. هذا جعله يقدّم سؤاله القائل: «مَاذَا يُعْوِزُني بَعْدُ؟ » COLAr 361.4
فقال له المسيح: « إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي. فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ » (متى ١٩: ٢١، ٢٢). COLAr 361.5
إنّ من يحب نفسه هو متعدّ على الشريعة. هذا ما أراد يسوع أن يعلنه للشاب فقدّم له امتحانا يمكن أن يكشف عن أنانيةِ قلبه. فأراه مكان العيب في خلُقه. ولم يطلب الشاب أن يحصل على نورٍ أكثر. لقد أقام في قرارة نفسه صنما يخرّ أمامه ساجدا. فقد كان العالم هو إلهه. لقد ادّعى أنّه قد حفظ الوصايا، ولكنه كان يفتقر إلى المبدأ الذي هو روح وحياة كل الوصايا. فلم تكن في قلبه محبة صادقة لله أو للإنسان. فالافتقار إلى هذا كان افتقارا إلى كل شيء يؤهـله لدخول ملكوت السَّمَاوَات. فإذ كان محبا لذاته وللربح العالمي كان في حالة عدم توافق مع مبادئ السماء. COLAr 362.1
عندما أتى هذا الرئيس الشاب إلى يسوع استمال إخلاصه وغيرته قلب المُخَلِّص إليه: « نَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ » (مرقس ١٠: ٢١). فقد رأي في هذا الشاب إنساناً يمكن أن يقدم خدمة ككارز للبر. كان يمكنه أن يقبل هذا الشاب الموهوب النبيل باستعداد كما قد قبل الصيادين المساكين الذين تبعوه. فلو أنّ الشاب كـرّس موهبته لعمل خلاص النفوس لصار خادما للمسيح مجدّاً وناجحاً. COLAr 362.2
ولكن عليه أوّلا أن يقبل شروط التلمذة. عليه أن يسلّم نفسه لله في غير تحفّظ. إنّ يوحنا وبطرس ومتى ورفقاءهم عندما سمعوا دعوة المُخَلِّص تركوا كل شيء وقامـوا وتبعوه (لوقا ٥: ٢٨). ونفس هذا التكريس كان مطلوبا من الرئيس الشاب. وفي هذا لم يسأله الإقدام على تضحية أعظم مما فعل هو نفسه الذي « مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ » (٢كورنثوس ٨: ٩). لم يكن على الشاب إلاّ أن يتبع المسيح في الطريق الذي أرشده. COLAr 363.1
نظر المسيح إلى الشاب واشتاق إلى نفسه. كان يتوق إلى أن يرسله كرسول بركة للناس. وفي مكان ما طلب منه المسيح أن يتنازل عنه قدّم له امتياز صحبته ومشاركته. قال له: « اتْبَعْنِي ». إنّ بطرس ويعقوب ويوحنا اعتبروا هذا الامتياز فرحا. والشاب نفسه نظر إلى المسيح بإعجاب، فقد انجذب قلبه إلى المُخَلِّص. إلاّ أنّه لم يكن مستعدا لقبول مبدأ التضحية الذي طلبه المُخَلِّص. لقد فضل غناه على يسوع. نعم انه كان يريد الحياة الأبدية ولكنه لم يرد أن يقبل في نفسه تلك المحبة الخالية من الأنانية التي هي وحدها الحياة، وبقلب حزين مضى تاركا المسيح. COLAr 363.2
فلما مضى الشاب قال يسوع: « مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ » (مرقس ١٠: ٢٣). هذا الكلام أدهش التلاميذ. فلقد تعلّموا أن ينظروا إلى الأغنياء على أنهم محاسيب السماء، وكانوا هم أنفسهم يرجون أن يحصلوا على السلطان والغنى العالمي في ملكوت مسيّا، فاذا كان الأغنياء سيخيبون من دخول الملكوت فأي رجاء يبقى لباقي الناس؟ COLAr 363.3
« فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ: « يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ. فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ » (مرقس ١٠: ٢٤-٢٦). وها هم الآن يدركون أنّ ذلك الإنذار الخطير يشملهم هم أنفسهم. وفي نور أقوال المُخَلِّص انكشف شوقهم الخفي إلى السلطان والغنى. ففي شكهم من جهـة أنفسـهم تعجبـوا قـائلين: « فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟ » (مرقس ١٠: ٢٦). COLAr 364.1
« فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ » (مرقس ١٠: ٢٧). COLAr 364.2
إنّ إنسانا غنيا كهذا لا يقدر أن يدخل السماء. فأمواله لا تعطيه حقا يؤهله لشركة ميراث القديسين في النور. إنما فقط بواسطة نعمة المسيح التي لا استحقاق لأحد فيها يتيح لأي إنسان أن يجد دخولا إلى مدينة الله. COLAr 364.3
إنّ كــلام الرُّوح الْقُدُس موجّـه إلى الغـني كما إلى الفقـير حين يقـول: « إِنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ، لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ » (١كورنثوس ٦: ١٩، ٢٠). فعندما يؤمن الناس بهذا فإن أموالهم تكون بين أيديهم على أنها أمانة لتستخدم فيما يأمر به الله لأجل خلاص الهالكين وتعزية المتألمين والفقراء. هذا غير مستطاع عند الناس لأن القلب يتعلق بكنوزه الأرضية. فالنفس المقيّدة بخدمة المال آذانها صمّاء عن أن تسمع صرخة الحاجة الإنسانية. ولكن عند الله كلّ شيء مستطاع. فالقلب الأناني إذ ينظر إلى محبة المسيح الفريدة يلين ويخضع. وسيُقاد الإنسان الغني إلى أن يقول مع شاول الفريسي: « مَا كَانَ لِي رِبْحًا، فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي » (فيلبي ٣: ٧، ٨). حينئذ لن يعتبروا شيئا ملكا لهم. وسيفرحون إذ يعتبرون ذواتهم كوكلاء على نعمة الله المتنوعة ولأجل اسمه يصيرون خداما لكل الناس. COLAr 364.4
وقد كان بطرس أوّل من استردّ قواه من الاقتناع الذي أحدثه كلام المُخَلِّص. ففكر برضى وارتياح فيما قد تركه هو وإخوته لأجل المسيح. ثم قال: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فإذ تذكّر وعد المسيح المشروط الذي قدمه للرئيس حين قال له: فيكون لك كنز في السماء سأل المسيح حينئذ عن ماذا سيكون له هو ورفاقه من جزاء لتضحياتهم. COLAr 365.1
فهزّ جواب المُخَلِّص أوتار قلوب صيادي الجليل أولئك. فقد صور لهم الأمجاد التي حقّقت أسمى أحلامهم إذ قال لهم: الحق أقول لكم إنكم انتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون انتم أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر ثم أضاف قوله: « وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ » (متى ١٩: ٢٧-٢٩). COLAr 365.2
إلاّ أن سؤال بطرس القائل: « مَاذَا يَكُونُ لَنَا؟ » (متى ١٩: ٢٧) كشف عن روح كانت كفيلة بأن تجعل التلاميذ غير مؤهلين لأن يكونوا رسل المسيح ما لم تُعالج تلك الروح وتُصلح، لأنها كانت روح الأجير. إنّ التلاميذ في حين أنّهم كانوا قد اجتُذبوا بمحبة يسوع لم يكونوا قد تحرروا تماما من الروح الفرّيسية. فقد كانوا يعملون بفكرة استحقاقهم للجزاء بنسبة تعبهم. لقد احتضنوا روح تمجيد النفس والرضى عن النفس وجعلوا يقارنون بين بعضهم البعض. وعندما كان أحدهم يفشل في أي شيء كان الآخرون يغرقون في مشاعر التفوق. COLAr 366.1
ولكن حتى لا تغيب عن عقول التلاميذ مبادئ الإنجيل أورد لهم المسيح مثلا فيه شرح لهم الكيفية التي بها يتعامل الله مع خدامه، والروح التي يريدهم أن يخدموه بها. COLAr 366.2
فقال لهم: « مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ » (متى ٢٠: ١). كان من عادة من يطلبون عملا أن ينتظروا في السوق حيث كان يذهب المؤجرة ليجدوا من يخدمون. إنّ الرجل المذكور في المثل مصوّر على انه خرج ساعات مختلفة بحثا عن فعلة. والذين استؤجروا في ساعات الصباح الباكرة اتفقوا على أن يعملوا مقابل اجر معلوم، أما الذين بدأوا في الشغل بعد ذلك فقد تركوا تقدير أجرهم لفطنة رب البيت COLAr 366.3
« فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُ الأُجْرَةَ مُبْتَدِئًا مِنَ الآخِرِينَ إِلَى الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَارًا دِينَارًا. فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضًا دِينَارًا دِينَارًا » (متى ٢٠: ٨-١٠). COLAr 366.4
إنّ معاملة رب البيت للفعلة الذين اشتغلوا في كرمه تمثل لنا معاملة الله للأسرة البشرية. فهي على نقيض العادات الشائعة بين الناس. ففي الأشغال العالمية تُعطى الأجرة على قدر ما أُنجز من العمل. فالعامل يتوقع أن يأخذ فقط أجرة عمله الذي يستحقه. ولكن المسيح في هذا المثل كان يشرح مبادئ ملكوته — الملكوت الذي ليس من هذا العالم. إنّه لا يخضع لأي مقياس بشري. فالرب يقول: « لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي ... لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ » (إِشَعْيَاء ٥٥: ٨، ٩). COLAr 366.5
في هذا المثل نجد أنّ الفعلة الأولين اتفقوا على أن يشتغلوا مقابل مبلغ متفق عليه وقد أخذوا ذلك المبلغ المخصص لا أكثر. أمّا الذين أُجّروا بعد ذلك فصدقوا وعد السيد حين قال له: « فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ » (متى ٢٠: ٧). وقد برهنوا على ثقتهم فيه إذ لم يسألوه شيئا عن الأجرة. لقد وثقوا في عدالته وإنصافه. وقد كوفئوا لا على قدر كمية الشغل الذي قاموا به بل بحسب سخائه في قصده. COLAr 367.1
وهكذا الله يريدنا أن نثق بمن يبرر الفاجر. فهو يعطي الأجرة لا على قدر استحقاقنا بل على حسب قصده: « الَّذِي صَنَعَهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا » (أَفَسُس ٣: ١١)، « لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا » (تِيطُس ٣: ٥). وللذين يثقون به هو سيفعل « أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ » (أَفَسُس ٣: ٢٠). COLAr 367.2
فالذي يجعل العمل ذا قيمة في نظر الله ليس هو كمية العمل الذي نقوم به أو نتائجه المنظورة بل هو الروح التي بها نعمل العمل. إنّ الذين أتوا إلى الكرم في الساعة الحادية عشرة كانوا شاكرين على الفرصة المقدمة لهم للعمل. وقد امتلأت قلوبهم امتنانا لمن قد قبلهم. وعندما أعطاهم ربّ البيت أجر عمل يوم كامل اندهشوا جدّا. لقد عرفوا أنّهم لا يستحقون مثل ذلك الأجر. كما أنّ أمائر الحنان التي ارتسمت على وجه مستخدمهم ملأتهم فرحاً. إنّهم لم ينسوا قط صلاح رب البيت أو الأجر السخي الذي قد أخذوه وهكذا الحال مع الخاطئ الذي مع علمه بعدم استحقاقه دخل كرم السيد في الساعة الحادية عشرة. إنّ وقت خدمته قصير جدا بحيث لا يري نفسه مستحقّاً لأية أجرة، ولكن قلبه مفعم بالفرح لأنّ الله قد قبله. إنّه يخدم بروحٍ متواضعةٍ واثقةٍ، وهو شاكر على امتياز حسبانه شريكا للمسيح في عمله. والله يسر بأن يكرم هذه الروح. COLAr 367.3
إنّ الرب يريدنا أن نستريح فيه بدون سؤال عن مقدار أجرتنا. وعندما يسكن المسيح في النفس فإنّ فكرة الأجر لن تكون أهم مطلب. فهذا ليس الباعث الذي يحرّكنا للخدمة. نعم إننا بمعنى ثانوي علينا أن نحترم تعويض الأجرة. فالله يريدنا أن نقدر البركات التي وعدنا بها. ولكنه لا يريدنا أن نكون مشتاقين إلى أجورنا ولا أن نحس أننا يجب أن نأخذ تعويضا عن كل واجب نؤديه. وينبغي ألاّ تكون رغبتنا في الحصول على الأجر قدر رغبتنا في عمل الحق بغض النظر عن الربح. فيجب أن يكون باعثنا هو المحبة لله ولبعضنا البعض. COLAr 368.1
ولكن هذا المثل لا يتسامح مع من يسمعون الدعوة الأولى ولكنهم يهملون الدخول في كرم الرب. فعندما ذهب رب البيت إلى السوق في الساعة الحادية عشرة ووجد رجالا بطالين قال لهم: لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين فقالوا له : « لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ » (متى ٢٠: ٦، ٧). إنّه ولا واحد ممّن دُعوا في أواخر النهار كان موجودا في الصباح. فلم يسبق لهم أن رفضوا الدعوة. فالذين يرفضون وبعد ذلك يندمون يفعلون حسنا إذ يندمون، ولكن لا أمان لمن يستخفّ بدعوة الرحمة الأولى. COLAr 369.1
وعندما أخذ الفعلة الذين عملوا في الكرم « دِينَارًا دِينَارًا » (متى ٢٠: ٩، ١٠) فالذين بدأوا العمل باكرا في النهار استاءوا. ألم يشتغلوا اثنتي عشرة ساعة؟ هكذا تساءلوا، أو ليس من العدل أن يأخذوا أجرا أكثر ممن اشتغلوا ساعة واحدة في الوقت الذي فيه خفت الحرارة؟ فقالوا: « هؤُلاَءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ» (متى ٢٠: ١٢). COLAr 369.2
فقال رب البيت لواحد منهم: « يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ » COLAr 369.3
« هكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ » (متى ٢٠: ١٣-١٦). COLAr 369.4
إنّ الفعلة الأولين المذكورين في المثل يمثلون من يدّعون الأفضلية على غيرهم بسبب خدماتهم. إنّهم يشرعون في العمل بروح فيها يهنئون أنفسهم ولكنهم لا يدخلون في العمل روح إنكار الذات والتضحية. ربما يَّدعون أنّهم قد خدموا الله مدى حياتهم. وقد يكونون في مقدمة من احتملوا المشقات والعوز والتجارب ولذلك يظنّون أنفسهم مستحقين لأجر كبير. إنّهم يفكرون في الأجرة أكثر من تفكيرهم في امتياز كونهم خداما للمسيح. وهم يفكرون في أن تعبهم وتضحياتهم تؤهلهم للحصول على كرامة أكثر من غيرهم. ولكون هذا الادّعاء غير مُعترَف به يغضبون. فلو أدخلوا في عملهم روحاً محبةً واثقةً لكانوا يظلون في المقدمة. ولكن ميلهم إلى المشاكسة والتشكّي لا يمتّ إلى المسيحية بصلة ويبرهن على أنّهم غير أهل للثقة. وهذا يكشف عن رغبتهم في أن يكونوا متقدمين، وعلى عدم ثقتهم بالله، وروحهم الحسود الحقود على إخوتهم. إنّ صلاح الرب وكرمه هو بالنسبة إليهم فرصة للتذمر. وبهذا يبرهنون على أنّه لا توجد صلة بين نفوسهم وبين الله. وهم لا يعرفون فرح التعاون مع الخادم الأعظم. COLAr 369.5
لا يوجد شيء يكرهه الله أكثر من هذه الروح المتزمتة التي لا تكترث لغير نفسها. وهو لا يمكنه أن يعمل أو يتعاون مع أي إنسان تبدو منه هذه الصفات. فهو لا يحسّ بعمل روح الله. COLAr 370.1
لقد كان اليهود أول من دُعوا إلى كرم الرب ولهذا كانوا متكبرين وأبرار في أعين أنفسهم. وقد اعتبروا أنّ سني خدمتهم الطويلة تؤهلهم للحصول على أجر أكثر من غيرهم ولم يكن ما يثيرهم قدر إبلاغهم بأنّ الأمم سيسمح لهم بالحصول على امتيازات تساوي امتيازاتهم في أمور الله. COLAr 370.2
وقد حذر المسيح التلاميذ الذين كانوا أول من دعاهم ليتبعوه لئلا يُبقوا على نفس ذلك الشرّ فيما بينهم. وقد رأى أنّ الضعف الذي هو لعنة الكنيسة هو روح البرّ الذاتي فالناس يظنون أنّه يمكنهم أن يفعلوا شيئا به يستحقون مكاناً في ملكوت السَّمَاوَات. وقد يتصورون أنّهم عندما يحرزون بعض التقدم فالرب سيتقدم لمعونتهم. وهكذا يكون الجانب الأكبر من الثقة في الذات والجانب الأصغر في يسوع. وكثيرون ممن قد أحرزوا قليلا من النجاح قد ينتفخون ويظنون أنفسهم أفضل من غيرهم. وقد يتوقون إلى التملق ويأكل الحسد قلوبهم إذا لم يفتكر الناس فيهم أنّهم أهمّ بكثير من غيرهم. والمسيح يحاول أن يحمي تلاميذه من هذا الخطر. COLAr 370.3
إنّه لا يوجد مجال لأن نفتخر باستحقاق في ذواتنا: « لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ، لأَنِّي بِهذِهِ أُسَرُّ، يَقُولُ الرَّبُّ » (إِرْمِيَا ٩: ٢٣، ٢٤). COLAr 371.1
والأجـرة ليسـت من الأعمـال كي لا يفتخــر آخــر بـل الكـلّ من النعمــة: « فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَدْ وَجَدَ حَسَبَ الْجَسَدِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّرَ بِالأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ، وَلكِنْ لَيْسَ لَدَى اللهِ. لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ « فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا. أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ. وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ، وَلكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرًّا » (رومية ٤: ١-٥). لذلك لا مجال لأن يفتخر أحد على آخر أو يحقد على آخر. لا يوجد أحدٌ مفضّل على آخر ولا لأحد أن يدّعي أن الأجرة هي من حقه. COLAr 371.2
فالأولون والآخرون سيكون لهم نصيب في الأجرة العظيمة الأبدية، ويجب على الأولين أن يرحبوا بالآخرين بسرور. فالذي يحقد على الآخر لحصوله على الأجرة ينسى انه هو نفسه مخلص بالنعمة وحدها. أن مثل الفعلة توبيخ لكلّ حسد وشكّ. إن المحبة تفرح بالحق ولا تقرّ أية مفارقات حسودة. إنّ من عنده محبة يقارن فقط بين جمال المسيح وبين نقص أخلاقه هو. COLAr 372.1
هذا المثل هو إنذار لكل الخدام مهما طالت خدمتهم ومهما كثر عملهم وتعبهم، حتى أنّهم إذا لم يكونوا محبين لإخوتهم وليسوا متواضعين أمام الله فليسوا شيئا. ليس هنالك دين في تربّع الذات على العرش. فالذي يجعل تمجيد الذات هدفه يجد انّه مجرّد من تلك النعمة التي تستطيع وحدها أن تجعله كفوءا في خدمة المسيح. فكلما انغمس الإنسان في الكبرياء والرضى بالذات يُفسد العمل. COLAr 372.2
إنّ ما يجعل خدمتنا مقبولة لدى الله ليس هو طول مدة الخدمة بل هو استعدادنا للقيام بها عن طيب خاطر وولاؤنا. ففي كل خدمتنا يطلب منا تسليم الذات تسليما كاملاً. إنّ أصغر واجب نؤديه بروح الإخلاص ونسيان الذات هو مرضيّ أكثر لدى الله من أعظم عمل يفسده طلب ما للذات. إنّه ينظر ليرى مقدار ما فينا من روح المسيح ومقدار ما يظهر عملنا من صورة المسيح. إنّه يعتبر المحبة والأمانة اللتين بهما تعمل أكثر من كمية العمل الذي ننجزه COLAr 372.3
إنّما فقط عندما نُميت الأنانية، وعندما نقضي على التنازع لأجل السلطة والسيادة، وعندما يمتلئ القلب بروح الشكر وعندما تُعطّر المحبة الحياة — حينئذ فقط يكون المسيح ساكنا في النفس ويُعتَرَفُ بأننا عاملون مع الله COLAr 372.4
إنّ الخدام الأمناء لا يعتبرون خدمتهم عناء مهما تكن شاقة أو مضنية. فهم مستعدون لأن ينفقوا وينفقوا، ولكنّه عمل مسرّ يُعمَل بقلوب فرحة. فهم يُعبّرون عن فرحهم بالله بيسوع المسيح. فسرورهم هو السرور الموضوع أمام المسيح — « أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ » (يوحنا ٤: ٣٤). فهم متعاونون مع رب المجد. هذا الفكر يجعل كل تعب حلواً ويشدّد الإرادة ويقوّي الروح لمواجهة كل ما يصيبنا. إنّهم إذ يخدمون بقلوب خالية من الأنانية، وقد سمت لأنهم شركاء المسيح في آلامه، وشركاءه في عواطفه وإذ يتعاونون معه في عمله فإنّهم يساعدون في بهجة قلبه وتقديم الكرامة والحمد لاسمه الممجد. COLAr 372.5
هذه هي روح كل خدمة أمينة تقدم لله. وبسبب انعدام هذه الروح كثيرون ممّن يبدو أنّهم أولون يصيرون آخرين، في حين أنّ من عندهم هذه الروح مع أنّهم يحسبون آخرين يصيرون أولين. COLAr 373.1
يوجد كثيرون ممّن قد سلّموا ذواتهم للمسيح، ومع ذلك لا يجدون فرصة فيها يعملون عملا عظيما أو يُقدمون على تضحيات عظيمة في خدمته. أمثال هؤلاء يمكنهم أن يجدوا لأنفسهم العزاء في الفكر بأنّ تسليم الشهيد لا يجعله بالضرورة أكثر قبولا لدى الله. فقد لا يكون المرسل الذي يواجه الخطر والموت كل يوم هو الأرفع منزلة في أسفار السماء. فالمسيحي الذي هو هكذا في حياته الخاصة في تسليمه لذاته كل يوم، وفي خلوص قصده وطهارة فكره، وفي وداعته أمام الإثارة، وفي الإيمان والتقوى، وفي أمانته في القليل، والذي في حياته البيتية يمثل صفات المسيح — مثل هذا قد يكون أعظم في نظر الله من أشهر مرسلي العالم وشهدائه. COLAr 373.2
ما أبعد الفرق بين مقاييس الله ومقاييس الناس للخلُق. فالله يري تجارب كثيرة وجدت مقـاومة ولم يعرف عنها العـالم ولا حتى الأصـدقاء الأقـربون شيئاً — تجارب في البيت وفي القلب. وهو يري وداعة النفس أمام ضعفها، والتوبة الخالصة حتى عن فكر واحد شرّير. كما يرى التكريس القلبي لخدمته. وقد لاحظ ساعات الصراع المرير القاسي مع الذات — الصراع الذي كُلّل بالنصرة. كل هذا يعرفه الله والملائكة. يوجد سفر تذكرة مكتوب أمامه للذين اتّقوا الرب وللمفكرين في اسمه. COLAr 373.3
إنّ سرّ النجاح لا يوجد في علومنا أو مركزنا، لا في كثرة عددنا أو الوزنات المودعة بين أيدينا، ولا في مشيئة إنسان. فإذ نحسّ بعدم كفايتنا وعجزنا علينا أن نفكر في المسيح، وفيه الذي هو قوة كل قوة، وفكر كل فكر يحرز المستعدون والمطيعون نصرة بعد نصرة. COLAr 374.1
ومهما تكن خدمتنا قصيرة أو عملنا متواضعاً، فإذا اتبعنا المسيح بإيمان بسيط فلن نخيب من الأجرة. فما لا يستطيع حتى أعظم الناس أو أحكمهم أن يستحقّوه يمكن لأضعف الناس وأحقرهم أن ينالوه. إنّ باب السماء الذهبي لا يُفتح لمن يمجدون ذواتهم، ولا تـُرفع أرتاجه للمتكبّري الروح. ولكن الأبواب الدهرية تفتح على رحبها أمام اللمسة المرتعشة من طفل صغير. وسيكون ثواب النعمة مباركا لمن قد خدموا الله في بساطة الإيمان والمحبة. COLAr 374.2