(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في متى ١٣: ٣٣؛ لوقا ١٣: ٢٠، ٢١).
لقد جاء كثيرون من الرجال المتعلمين ذوي النفوذ ليسمعوا تعاليم نبي الجليل. فبعض من هؤلاء نظروا باهتمام مستفهم إلى الجمع الذي اجتمع حول المسيح وهو يعلم بجانب البحر. وفي هذا الجمع العظيم مُثلت كل طبقات المجتمع. كان هناك الفقراء والأميّون والمستعطي الرث الثياب واللص المطبوع بطابع الإجرام على وجهه والكسيح والداعر المنغمس في الشهوات والتاجر والرجل المتعطل عن العمل والعال والدون والأغنياء والفقراء، الجميع تزاحموا على بعضهم البعض طلبا لموضع لأقدامهم ليقفوا ويستمعوا لأقوال المسيح. فإذ نظر هؤلاء المثقفون إلى هذا الجمع الغريب جعلوا يسائلون أنفسهم قائلين: هل ملكوت الله مكون من مثل هؤلاء الناس؟ ومرة أخرى أجاب المسيح على تساؤلهم بمثل: COLAr 85.1
« يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيق حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ » (متى ١٣: ٣٣). COLAr 85.2
كان اليهود يعتبرون الخميرة أحياناً رمزا للخطية. وقد أُوصيَ الشعب أنه عند حلول عيد الفصح ينزعون كل الخمر من بيوتهم كما كان عليهم أن ينزعوا الخطية من قلوبهم. وقد حذر المسيح تلاميذه قائلا: « تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ » (لوقا ١٢: ١). والرسول بولس يتكلم عن « خَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ » (١كورنثوس ٨:٥). ولكن في المثل الذي أورده المُخَلِّص استخدمت الخميرة رمزاً لملكوت السَّمَاوَات. فهي تشرح قوة نعمة الله المحيية المشكِّلة. COLAr 85.3
ليس أحد نجساً أو فاسداً أو قد انحط إلى درجة تجعله بعيداً عن متناول فاعلية هذه القوة. وكل من يخضعون ذواتهم للروح القدس يُغرس في نفوسهم مبدأ حياة جديدة، وصورة الله الضائعة ستُعاد إلى البشرية. COLAr 86.1
إلاّ أنّ الإنسان لا يستطيع أن يغير نفسه باستخدام إرادته. فهو لا يملك قوة بها يمكن إحداث هذا التغيير. فالخميرة — التي هي شيء يأتي من الخارج بالكلية ينبغي وضعها في الدقيق قبلما يتم التغيير المطلوب. وهكذا ينبغي للخاطئ أن يقبل نعمة الله قبلما يصير مؤهلا لملكوت المجد. فكل الثقافة والتهذيب اللذين يستطيع العالم أن يقدمهما يخفقان في جعل إنسان منحطّ من أبناء الخطية ابناً للسماء. فينبغي أن تأتي القوة المجددة من الله. والتغيير يمكن حدوثه بواسطة الرُّوح الْقُدُس وحده. وكل من يريدون أن يخلصوا، من العال كانوا أم من الدون، أغنياء أم فقراء، ينبغي لهم أن يخضعوا لعمل هذه القوة. COLAr 86.2
وكما أنّ الخميرة إذ تختلط بالدقيق تعمل عملها من الداخل إلى الخارج، هكذا بتجديد القلب تعمل نعمة الله في تغيير الحياة. فمجرد التغيير الخارجي لا يكفي لجعلنا نصير في حالة وفاق مع الله. يوجد كثيرون ممن يحاولون الإصلاح بإصلاح هذه العادة الشريرة أو تلك، ويرجون بهذه الوسيلة أن يصيروا مسيحيين، لكن موضع ابتدائهم هو خاطئ، فأول عمل علينا أن نعمله هو في القلب. COLAr 87.1
إنّ الإقرار بالإيمان وامتلاك الحق في النفس هما أمران متباينان. فمجرد معرفة الحق لا يكفي. يمكننا أن نملك هذا ولكن طبيعة الأفكار قد لا تتغير. فيجب تجديد القلب وتقديسه. COLAr 87.2
إنّ الإنسان الذي يحاول حفظ وصايا الله لمجرد شعوره بأنّه ملزم بذلك — ولأنه يُطلب منه أن يفعل ذلك — لن يحصل أبداً على فرح الطاعة. فهو لا يطيع. فعندما تعتبر مطاليب الله عبئاً لأنها تقطع عنا رغائبنا وميولنا فيمكننا أن نعلم أنّ مثل هذه الحياة ليست حياة مسيحية. إنّ الطاعة الحقة هي تفاعل يبدأ في الداخل. وهي تنبثق من محبة البر ومحبة شريعة الله. إنّ جوهر كل بـرّ هو ولاؤنا لفـادينا. فهذا يجعلنا نفعل الحق لأنَّه حق — لأنَّه عمل الحق يرضي الله. COLAr 87.3
إنّ الحق العظيم حق تجديد القلب بعمل الرُّوح الْقُدُس يقدّم في حديث المسيح مع نيقوديموس حين قال له: « الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ … اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ » (يوحنا ٣: ٣-٨). COLAr 88.1
والرسول بولس إذ يكتب مسوقا من الرُّوح الْقُدُس يقول: « اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ. (بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ). وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ، بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ » (أَفَسُس ٢: ٤-٨). COLAr 88.2
إنّ الخميرة المخبأة في الدقيق تعمل عملها الغير المنظور في تخمير الكمية كلها، هكذا خميرة الحق تعمل خفية في سكون وبثبات في تغيير النفس. فالميول الطبيعية تلَّين وتخضع وتغرس في النفس أفكار ومشاعر وبواعث جديدة. ويوضع للإنسان مقياس جديد للخلق — حياة المسيح. والعقل يتغير، وقواه توقظ لتعمل في نواح جديدة. إنّ الإنسان لا تعطى له قوى جديدة ولكن القوى العقلية التي له تتقدس. والضمير يستيقظ. إننا نُزود بصفات وأخلاق تساعدنا على خدمة الله. COLAr 88.3
وكثيرا ما يثار السؤال: إذا لماذا يوجد أناس كثيرون جدا يَّدعون أنهم يؤمنون بكلمة الله ولكن لا يُرى فيهم أي إصلاح لا في الكلام ولا في الروح ولا في الخلق؟ ولماذا يوجد كثيرون جدا ممن لا يستطيعون أن يحتملوا أية مقاومة لأغراضهم وخططهم ومن يظهرون طبعا غير مقدس وأقوالهم فظة قاسية ومتغطرسة غضوبة؟ ففي حياتهم ترى نفس محبة الذات ونفس الانغماس الأناني ونفس الطبع والتسرع في الكلام الذي يُرى في حياة أهل العالم. ففي حياتهم توجد نفس الكبرياء السريعة التأثر، ونفس الخضوع للميول الطبيعية، ونفس فساد الخلق وانحرافه، كما لو كان الحق مجهولا لديهم تماما. السبب هو أنهم غير متجددين. فهم لم يخبئوا خميرة الحق في القلب — تلك التي لم يُعط لها المجال أو الفرصة لتعمل عملها. إنّ ميولهم الطبيعية التي ربوها في أنفسهم لعمل الشر لم تخضع لقوة الحق المغيّرة. وحياتهم تعلن عن عدم وجود نعمة المسيح فيهم وعن عدم الإيمان بقدرته على تغيير الخلق. COLAr 89.1
« الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ » (رومية ١٠: ١٧). إنّ الكلمة الإلهية هي العامل العظيم في تغيير الخلق. لقد صلى المسيح قائلا: « قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌ » (يوحنا ١٧: ١٧). إنّ كلمة الله لو درسها الإنسان وأطاعها فإنها تعمل في القلب مخضعة كل صفة غير مقدسة. إنّ الرُّوح الْقُدُس يأتي ليبكّت على خطية، والإيمان الذي ينبثق في القلب يعمل بالمحبة للمسيح فيجعلنا مشابهين لصورته في الجسد والنفس والروح. وحينئذ يمكن أن يستخدمنا الله لعمل مشيئته. والقوة المعطاة لنا تعمل عملها من الداخل إلى الخارج فتجعلنا نبلغ إلى الآخرين الحق الذي قد تسلمناه. COLAr 90.1
إن حقائق كلمة الله تسد حاجة الإنسان العظمى — ألا وهي تجديد النفس بالإيمان. وينبغي ألاّ نظنّ أنّ هذه الحقائق السامية أطهر أو أقدس من أن تتدخل في الحياة اليومية. إنّها حقائق تصل إلى السماء وتحتضن الأبدية، ومع ذلك فإنّ تأثيرها الحيوي ينبغي أن يتدخل ويُنسج في اختبار الناس. فيجب أنها تتغلغل في عظائم الأمور وصغائرها في الحياة. COLAr 90.2
فإذ تُقبل خميرة الحق في القلب فهي تنظم الرغائب وتطهر الأفكار وتجمل المزاج. وهي تحيي قوى العقل وقوى نشاط النفس، وترحّب قدرة الإنسان على الإحساس والحب. COLAr 91.1
إنّ العالم يعتبر الإنسان المُشبع القلب بهذا المبدأ لغزا. فالإنسان الأناني محبّ المال يعيش لكي يحرز لنفسه غنى هذا العالم وكراماته وملذاته. وهو يُسقط رجاء عالم الأبد من حسابه. أمّا بالنسبة إلى تلميذ المسيح فهذه الأشياء لن تستوعب كل قوى تفكيره. ولكنّه لأجل المسيح يجدّ وينكر ذاته حتى يمكنه المساهمة في العمل العظيم، عمل خلاص النفوس التي هي بلا مسيح وبلا رجاء في العالم. مثل هذا الإنسان لا يستطيع العالم أن يفهمه، لأنّه يجعل الحقائق الأبدية نصب عينيه دائما. لقد دخلت محبة المسيح بقوتها الفادية إلى القلب. وهذه المحبة تسيطر على كل عاطفة أخرى وترفع من يتمتع بها فوق قوة العالم المفسدة. COLAr 91.2
ويجب أن يكون لكلمة الله تأثير مقدِّس على عشرتنا — لكل فرد من أفراد الأسرة البشرية. إنّ خميرة الحق لن تنتج في النفس روح التنافس أو حب الطموح أو الرغبة في أن يكون الإنسان أوّلاً. نعم فإنّ المحبة التي هي ابنة السماء ليست محبة لذاتها ولا هي متقلّبة. ولا تستند إلى مديح الناس. إنّ قلب من يقبل نعمة الله يفيض بالمحبة لله ولمن قد مات المسيح لأجلهم. والذات لا تحارب لأجل الشهرة. وهو لا يحب الآخرين لكونهم يحبّونه أو يرضونه أو يقدرون أفضاله بل لأنهم مقتنى المسيح. فإذا أسيء فهم بواعثه أو أقواله أو أعماله أو حُرفت هذه فهو لا يغضب بل يسير في مجرى حياته الهادئ. إنّه شفوق وكثير الاهتمام وهو متواضع في رأيه عن نفسه، ومع ذلك فهو ممتلئ النفس بالرجاء، واثق أبداً برحمة الله ومحبته. COLAr 91.3
إنّ الرسول يوصينا قائلا: « نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ » (١بطرس ١: ١٥، ١٦). فينبغي أن تسيطر نعمة المسيح على الطبع والصوت. وإنّ عملها يُرى في الأدب وفي التقدير الذي يبديه الأخ لأخيه، وفي كلام الشفقة والتشجيع. فيوجد في البيت حضور ملائكي. والحياة يفوح منها شذا عطر يصعد إلى الله كبخور مقدس. والمحبة تتجلّى في الرفق واللطف والصبر والاحتمال. COLAr 92.1
المحيّا يتغير. فإذ يسكن المسيح في القلب فنوره يتلألأ في وجوه من يحبونه ويحفظون وصاياه. والحق يُكتب في ملامحهم. وسلام السماء العذب يتجلّى. وهم يظهرون الرقة الطبيعية، محبة أكثر من المحبة البشرية. COLAr 92.2
إنّ خميرة الحق تُحدث تغييرا في الإنسان كله فالخشن يصير مهذّبا والفظّ يصبح لطيفاً والأناني كريماً. وبواسطتها يتطهر النجسون ويغتسلون في دم الحمل وقوتها المانحة الحياة تجعل توافقا بين العقل والنفس والقوة وبين الحياة الإلهية. والمسيح يتمجد في سمو الخلق وكماله. فإذ تتمّ هذه التغييرات كلها يهتف الملائكة ويسبحون تسابيح الفرح العظيم ويبتهج الله والمسيح بالنفوس التي تشكلت حسب المثال الإلهي. COLAr 92.3