ولم يذكِّر المسيح سامعيه في ذلك الوقت بأقوال الكتاب. ولكنه لجأ إلى شهادة اختبارهم. فإنّ السهول الفسيحة الممتدة شرقيّ الأردن كانت فيها مراع للقطعان، وفي الممرات وعلى الجبال التي اكتست بالغابات شرد الكثير من الخراف الضالة، واستلزمت عناية الراعي التفتيش عنها وإعادتها. كان يوجد بين الرجال الملتفين حول يسوع رعاة، وكذلك رجال كانت لديهم أموال استثمروها في القطعان والمواشي، وقد أمكن لجميعهم أن يقِّدروا ويفهموا المثل الذي أورده حين قال: « أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِدًا مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ » (لوقا ١٥: ٤). COLAr 167.4
قال لهم يسوع: هذه النفوس التي تحتقرونها هي ملك الله. فهي له بحق الخلق والفداء وهي غالية القيمة في عينيه. فكما يحب الراعي خرافه ولا يستطيع أن يستريح لو ضاع واحد منها فقط، كذلك الله يحب كل شريد إنما بدرجة أسمى بكثير. قد ينكر الناس حق محبته. وقد يبتعدون عنه وقد يختارون لأنفسهم سيدا آخر، ومع ذلك فهم خاصة الله وهو يتوق لاسترداد خاصته. إنّه يقول: « كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسْطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ، هكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالضَّبَابِ » (حِزْقِيَال ٣٤: ١٢). COLAr 168.1
وفي المثل نجد أن الراعي يخرج ليفتش عن خروف واحد — أقل ما يمكن أن يُحصى. وهكذا إذا لم يكن غير نفس واحدة هالكة، لكان المسيح يموت لأجل تلك النفس. COLAr 168.2
إنّ الشاة التي ضلت بعيدا عن الحظيرة هي أعجز كل الخلائق. فينبغي أن يفتش عنها الراعي بنفسه لأنها لا تستطيع أن تجد طريقها للعودة. وهكذا الحال مع النفس التي قد ابتعدت عن الله، فذلك الإنسان عاجز كالخروف الضال، ولو لم تأت محبة الله لإنقاذه لما أمكنه أن يجد طريق الرجوع إلى الله. COLAr 168.3
الراعي الذي يكتشف أنّ خروفا واحدا ناقصٌ لا ينظر في غير مبالاة إلى القطيع الذي آوى بأمان إلى الحظيرة قائلا: « عندي تسعة وتسعون، والبحث عن الخروف الضال يكلفني عناءً أكثر من اللازم. فليرجع وأنا أفتح له باب الحظيرة وأدخله ». كلا، فما أن ضلّ الخروف حتى تمتلئ نفس الراعي حزنا وجزعا. فيعدّ القطيع مرارا وتكرارا. وعندما يتأكد أن خروفا قد ضاع فهو لا ينام. بل يترك التسعة والتسعين في الحظيرة ويذهب مفتشا عن الخروف الضال. فكلما اشتد ظلام الليل والعواصف، وزادت خطورة الطريق ازداد جزع الراعي، وجَدَّ في بحثه. فهو يبذل كل جهده ليجد ذلك الخروف الواحد الضال. COLAr 168.4
فبأي ارتياح يسمع أول صرخاته الواهنة من بُعد. فإذ يتتبع الصوت يتسلق المرتفعات السريعة الانحدار ويذهب إلى حافة الهوة مخاطرا بحياته. وهكذا يبحث في حين تنبئه الصرخة التي صارت أضعف مما كانت بأن خروفه موشك على الموت. أخيرا يُكافأ مسعاه فقد وُجد الضال. وحينئذ لا ينتهره لأنّه سبّب له كل ذلك العناء، ولا يسوقه بالسوط ولا حتى يحاول أن يقوده إلى البيت. بل إنّه لفرط سروره يضع ذلك المخلوق المرتجف على منكبيه، وإذا كان مسحوقا أو مجروحا يضمه بين ذراعيه ويحتضنه حتى تعيدُ حرارة قلبهِ الحياة إليه. فبقلب مفعم بالشكر، لأنّ بحثه لم يذهب عبثا، يحمله عائدا به إلى الحظيرة. COLAr 169.1
شكرا لله لأنّه لم يعرض أمام أذهاننا صورة راع حزين عائد بدون الخروف. فالمثل لا يتحدّث عن الفشل بل عن النجاح والفرح باسترداده. هنا الضمان الإلهي بأنّه ولا شاة واحدة ضالة بعيدا عن حظيرة الله تُغفل أو تُترك بدون نجدة. فكل من يخضع ليُفتدي سيخلّصه المسيح من جب الفساد ومن أشواك الخطية. COLAr 169.2
فيا أيتها النفس اليائسة تشجّعي حتى ولو كنت قد فعلت شرّاً. لا تظن أنّ الله ربما يغفر معاصيك ويسمح لك بالمثول في حضرته. لقد تقدم الله إليك أولاً. فحين كنت في حالة العصيان عليه خرج يفتش عنك. فبقلب الراعي الحنَّان الرقيق ترك التسعة والتسعين وخرج إلى البرية ليجد ما قد هلك. فالنفس المُرضّضة الجريحة والموشكة على الهلاك يحيطها بذراعي محبته ويحملها فرحا إلى حظيرة الأمان. COLAr 169.3
كان اليهود يعلّمون الشعب قائلين إنّه قبلما تمتد محبة الله إلى الخاطئ عليه أوّلا أن يتوب. ففي رأيهم أنّ التوبة عمل بواسطته يحرز الناس رضى السماء. وهذا هو الفكر الذي جعل الفريسيين يصيحون في دهشة وغضب قائلين: « هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ ». فبناء على أفكارهم لم يكن يحق له أن يسمح بالاقتراب منه إلاّ لمن قد تاب. ولكن المسيح يعلمنا في مثل الخروف الضال أنّ الخلاص لا يأتينا عن طريق تفتيشنا عن الله بل عن طريق تفتيش الله عنا: « لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا » (رومية ٣: ١١، ١٢). فنحن لا نتوب لكي يحبنا الله، ولكنه يعلن لنا محبته لكي نتوب. COLAr 170.1
وعندما يعاد الخروف الضال إلى الحظيرة أخيرا فإنّ شكر الراعي يجد له تعبيرا في أغاني الفرح. فهو يدعو الأصدقاء والجيران قائلا لهم: « افْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ » (عدد ٦). وهكذا عندما يجد راعي الخراف العظيم إنسانا ضالا فالسماء والأرض تشتركان في الشكر والفرح. COLAr 170.2
« هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ » (عدد ٧). قال المسيح: إنكم أيها الفريسيون تحسبون أنفسكم محبوبين لدى السماء. وتظنون أنفسكم في أمان إذ تتحصّنون في برّكم. إذا فاعلموا أنكم إذا كنتم في غير حاجة إلى توبة فرسالتي ليست لكم. فهذه النفوس المسكينة التي تحسّ بفقرها وشرّها هي ذات النفوس التي قد أتيت لأخلّصها. فملائكة السماء مهتمون بهؤلاء الناس الهالكين الذين تزدرونهم. إنكم تشتكون وتسخرون عندما ينضم إليّ واحد من هؤلاء الناس. ولكن اعلموا أن الملائكة يفرحون وأنشودة النصرة يرنّ صداها في كل أرجاء السماء. COLAr 170.3
كان عند أحبار إسرائيل مثل يقول إنّه يكون فرح في السماء عندما يهلك إنسان أخطأ إلى الله، ولكن يسوع علمنا أنّ عمل الهلاك غريب بالنسبة إلى الله. فالذي تفرح به كل السماء هو إعادة صورة الله إلى النفوس التي قد خلقها. COLAr 171.1
وعندما يحاول إنسان ضلّ ضلالا بعيدا في الخطية أن يرجع إلى الله فهو يُقابَل بالانتقاد والشك. فهناك من يشكون فيما إذا كانت توبته صادقة، أو يهمسون قائلين: « إنّه لا ثبات عنده فأنا لا أصدق أنه سيصمد ». هؤلاء الناس لا يعملون عمل الله بل عمل الشيطان المشتكي على الإخوة. فبواسطة انتقاداتهم يؤمل الشرير أن يثبّط تلك النفس ويسوقها بعيدا عن الرجاء وعن الله. فليفكر الخاطئ التائب في الفرح الذي يكون في السماء برجوع الضال. فليستريح في محبة الله ولا يضعف قلبه في أي حالة بسبب سخرية الفريسيين وشكوكهم. COLAr 171.2
لقد فهم الأحبار إن مثل المسيح ينطبق على العشارين والخطاة، ولكن كان له أيضا معنى أوسع. فالمسيح لا يرمز بالخروف الضال إلى الفرد الخاطئ وحده بل أيضا إلى العالم الذي ارتدّ وأهلكته الخطية. فهذا العالم إن هو إلاّ ذرّة واحدة في عوالم واسعة يحكم عليها الله، ومع ذلك فهذا العالم الصغير الساقط — الخروف الواحد الضال — هو أغلى في نظره من التسعة والتسعين التي لم تضل عن الحظيرة. إنّ المسيح الرئيس الحبيب في المواطن السماوية تنازل عن مركزه العظيم السامي وألقى عنه المجد الذي كان له عند الآب لكي يخلص العالم الواحد الهالك. ولأجل هذا ترك العوالم المعصومة في الأعالي، التسعة والتسعين الذين أحبوه وجاء إلى هذه الأرض ليُجرح « لأَجْلِ مَعَاصِينَا» ويُسحق « لأَجْلِ آثَامِنَا » (إِشَعْيَاء ٥٣: ٥). فالله بذل نفسه في شخص ابنه لكي يكون له فرح إرجاع الخروف الضال. COLAr 171.3
« اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ » (١يوحنا ٣: ١). والمسيح يقول: « كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ » (يوحنا ١٧: ١٨). حتى « أُكَمِّلُ نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ … لأَجْلِ جَسَدِهِ، الَّذِي هُوَ الْكَنِيسَةُ » (كُولُوسِّي ١: ٢٤). إنّ كل نفس خلصها المسيح مدعوة لتعمل باسمه لأجل خلاص الهالكين. هذا العمل كان قد أُهمِل بين العبرانيين. أو ليسَ هو مهملا اليوم ممن يعترفون بأنّهم تلاميذ المسيح؟ COLAr 172.1
كم من الضالّين طلبتهم أيها القارئ وأرجعتهم إلى الحظيرة؟ فعندما تغضي عمّن يبدو أنه لا رجاء فيهم ولا جاذبية فهل تدرك أنّك تهمل النفوس التي يبحث المسيح عنها؟ ففي نفس الوقت الذي فيه تتحول عنهم قد يكـونون في أشدّ الحاجة إلى عطفك وشفقتك. في كل اجتماع يعقد للعبادة توجد نفوس تتوق إلى الراحة والسلام. قد يبدو أنهم عائشـون حياة عدم الاكتراث ولكنهم ليسوا عديمي الشـعور بقـوة الرُّوح الْقُدُس. فكثيرون منهم يمكن ربحهم للمسيح. COLAr 172.2
إذا كان الخروف الضال لا يُعاد إلى الحظيرة فسيظل هائما على وجهه حتى يهلك. وهنالك كثيرون ينحدرون إلى الهلاك لعدم وجود يد تمتد إليهم لتخليصهم. هؤلاء المخطئون قد يبدو أَنَّهُمْ قساة وطائشون، ولكن لو أَنَّهُمْ قد تمتعوا بنفس الامتيازات التي كانت للآخرين لكانوا قد برهنوا على نبل نفوسهم وكانت لهم مواهب أكثر نفعا من الآخرين. إنّ الملائكة يعطفون على هؤلاء الضالين. بل إنّ الملائكة يبكون في حين أن عيون الناس جافة من الدموع وقلوبهم مغلقة فلا يتسرب إليها العطف. COLAr 172.3
آه ما أحوجنا إلى عطف عميق يؤثر في النفس على المجربين والمخطئين! وما أحوجنا إلى المزيد من روح المسيح وإلى القليل من الأنانية! COLAr 173.1
لقد فهم الفريسيون مثل المسيح على أنّه توبيخ لهم. فبدلا من أن يقبل انتقادهم لعمله وبخهم على إهمالهم للعشارين والخطاة. وهو لم يفعل هذا جهارا لئلا يغلقوا قلوبهم دونه، ولكن مثله وضع أمامهم نفس العمل الذي طلبه الله منهم والذي لم يعملوه. فلو كانوا رعاة أمناء فان هؤلاء الذين كانوا رؤساء في شعب الله قديما كان يمكنهم أن يقوموا بعمل الراعي، وكانوا قد اظهروا رحمة المسيح ومحبته وكانوا انضمّوا إليه في أداء رسالته — ولكن رفضهم عمل هذا برهن على أنّ ادعاءهم التقوى إدعاء كاذب. وقد رفض كثيرون توبيخ المسيح ومع ذلك فإن كلامه بكّت بعضا منهم. فبعد صعود المسيح إلى السماء حل الرُّوح الْقُدُس على هؤلاء فانضموا إلى تلاميذه في القيام بنفس العمل المجمل في مثل الخروف الضال. COLAr 173.2