إنّ الكتبة والفريسيين لم يكتفوا باتهام المسيح وحده بإهمال طقوس التلمود وفرائضه بل اتهموا تلاميذه أيضا كخطاة بسبب ذلك الإهمال. وكثيرا ما تحيرّ التلاميذ واضطربوا بسبب اللوم والاتهام اللذين صدرا من الذين كانوا قد اعتادوا أن يوقروهم كمعلميهم الدينيين. وقد فضح يسوع هذا الخداع، فأعلن أنّ الـبرّ الذي يعــتزّ به الفريسـيون إلى أبعد الحدود كان تافها لا قيمة له. كانت الأمة اليهودية قد ادّعت أنّها الشعب الخاص والمنعم عليه من الله، ولكن المسيح صور دينهم على أنه خالٍ من الإيمان المُخلص. فكل ادعاءاتهم للتقوى والمبتكرات والطقوس البشرية، وحتى إتمامهم لمطاليب الناموس الخارجية الذي كانوا يفاخرون به، لم تكن جوهرية ولا عملية في جعلهم قديسين. إنّهم لم يكونوا أنقياء القلب ولا شرفاء ولا شبيهين بالمسيح في خلقهم. ArMB 27.1
الدين الشرعي القانوني غير كاف لجعل النفس في حالة توافق مع الله، إنّ صحة المعتقد الذي كان يتمسك به الفريسيون في عنف وصرامة الخالي من الانسحاق والرقة والمحبة لم يكن أكثر من حجر صدمة للخطاة. فكانوا يشبهون ملحا بلا ملوحة لأنّ تأثيرهم لم يكن ذا قوة لحفظ العالم من الفساد. إنّ الإيمان الوحيد الصحيح هو « الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ » (غلاطية 5: 6) لتطهير النفس. فهو يشبه الخميرة التي تغير الخلق. ArMB 27.2
كان يجب أن يتعلّم اليهود كل هذا من تعاليم الأنبياء. فقبل ذلك بقرون جهرت صرخة النفس بصوتها في طلب التبرير عند الله ووجدت لها جوابا في أقوال ميخا النبي حين قال: « بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلهِ الْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُول أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكِبَاشِ، بِرِبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ ... قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ » (ميخا 6: 6 ـ 8). ArMB 27.3
ولقد أشار هوشع النبي إلى نفس جوهر الفرّيسية حين قال: « إِسْرَائِيلُ جَفْنَةٌ مُمْتَدَّةٌ. يُخْرِجُ ثَمَرًا لِنَفْسِهِ » (هوشع 10: 1). إنّ اليهود وهم يعترفون بأنهم يخدمون الله كانوا في الواقع يخدمون أنفسهم. وكان برّهم ثمرة جهودهم الخاصة لحفظ الناموس بحسب آرائهم ولأجل منفعتهم الذاتية. ولهذا لم يصيروا أفضل مما كانوا. وفى محاولتهم أن يجعلوا أنفسهم قديسين كانوا يجتهدون في أن يخرجوا الطاهر من النجس. إنّ شريعة الله مقدسة كما أنّه هو قدوس وناموسه كامل كما أنه هو كامل. وهو يقدم للناس برّ الله. وأنّه لمن المستحيل على الإنسان أن يحفظ الناموس من تلقاء نفسه لأنّ طبيعة الإنسان فاسدة ومشوّهة، وتخالف صفات الله كل المخالفة. إنّ أعمال القلب الأناني « كَنَجِسٍ » و « كَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا» (إِشَعْيَاء 64: 6). ArMB 27.4
وحيث أنّ الشريعة مقدسة فإنّ اليهود قد قصروا دون بلوغ البرّ بجهودهم لحفظ الشريعة. أمّا تلاميذ المسيح فيجب أن يحصلوا على برّ من نوع يختلف عن برّ الفريسيين إذا أرادوا دخول ملكوت السَّمَاوَات. لقد قدّم لهم الله في ابنه برّ الناموس الكامل. فإن فتحوا قلوبهم على سعتها لقبول المسيح فإن نفس حياة الله ومحبته تسكنان فيهم وتغيّرانهم ليصيروا على شبه صورته، وهكذا فعن طريق هبة الله المجانية يمكنهم امتلاك البرّ الذي يطلبه الناموس. أمّا الفريسيون فقد رفضوا المسيح « إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ اللهِ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ » (رومية 10: 3) فلَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ اللهِ. ArMB 27.5
ثم تقدم يسوع ليري سامعيه معنى حفظ وصايا الله ـ وانه طبع صفات المسيح فيهم. لأنَّ الله كان يعلن نفسه فيه أمامهم كل يوم. ArMB 28.1