الْمَزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ
« وَالْمَزْرُوعُ بَيْنَ الشَّوْكِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَهَمُّ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى يَخْنُقَانِ الْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ » (متى ١٣: ٢٢).COLAr 45.2
إنّ بذار الإنجيل كثيرا ما يقع بين الشوك والأعشاب المضرّة الوبيلة، فإذا لم يحدث تغيير أدبي في القلب البشري، وإذا لم يتخلّص الإنسان من العادات والأعمال القديمة والحياة الماضية حياة الخطية، وإذا لم تُطرد صفات الشيطان بعيدا عن النفس فإنّ الحنطة تختنق. وسيكون الشوك هو الحصاد وستقتلع الحنطة.COLAr 45.3
يمكن للنعمة أن تنمو وتترعرع فقط في القلب الذي هو مُعدّ على الدوام لقبول بذار الحق الثمين. إنّ أشواك الخطية تنمو في أيّة تربة، وهي في غير حاجة إلى فلاحة أو خدمة، أمّا النعمة فينبغي أن تُزرع بكل حرص وعناية. إنّ العوسج والأشواك لمستعدة أبدا لأن تنمو بسرعة، فينبغي لعمل التطهير أن يتقدم باستمرار. فإذا لم يُحفظ القلب تحت سلطان الله، وإذا لم يعمل الرُّوح الْقُدُس بلا انقطاع في تنقية الخلق والسمو به فإنّ العادات القديمة ستُظهر نفسها في الحياة. يمكن أن يعترف الناس بإيمانهم بالإنجيل ولكن ما لم يتقدسوا بالإنجيل فإنّ اعترافهم يُمسي عديم الجدوى. وإذا لم يحرزوا الانتصار على الخطية فالخطية تنتصر عليهم. فالأشواك التي قطعت ولكنها لم تُستأصل تنمو بسرعة حتى لتغشى كل النفس.COLAr 45.4
لقد ذكر المسيح الأشياء التي هي خطرة على النفس. ذكر، كما جاء في مرقس، هموم العالم وغرور الغنى وشهواتِ سائر الأشياء، بينما لوقا يذكر هموم الحياة وغناها ولذّاتها. هذه هي التي تخنق الكلمة وتوقف نمو البذار الروحي. فإذ تكفّ النفس عن أن تستمد الغذاء من المسيح تموت الميول الروحية من القلب.COLAr 46.1
« هُمُومُ هذَا الْعَالَمِ ». لا توجد طبقة من الناس بعيدة عن متناول الهموم العالمية. فبالنسبة إلى الفقراء نجد أنّ التعب والحرمان والخوف من العوز تجلب عليهم الارتباكات والأعباء. أمّا الأغنياء فيأتيهم الخوف من الخسائر وكثير من الهموم الجزعة. إن كثيرين من اتباع المسيح ينسون الدرس الذي قصد الرب بأن نتعلمه من زنابق الحقل. فهم لا يركنون إلى رعايته الدائمة. إنّ المسيح لا يستطيع أن يحمل أعباءهم لأنهم لا يلقون همهم عليه. ولهذا فإنّ هموم الحياة التي كان يجب أن تدفعهم إلى المُخَلِّص في طلب العون والعزاء تفصلهم عنه.COLAr 46.2
إنّ كثيرين ممن كان يمكنهم أن يكونوا مثمرين في خدمة الله ينكبُّون على اقتناء الثروة. فكل قوى نشاطهم منصرفة إلى مشاريعَ تجاريةٍ ويحسون بأنهم مجبرون على إهمال الأمور الروحية. وهكذا هم يُبعدون أنفسهم عن الله. إنّ الكتاب المُقَدَّس يوصينا بأن نكون: « غَيْرَ مُتَكَاسِلِينَ فِي الاجْتِهَادِ » (رومية ١٢: ١١). علينا أن نعمل حتى يمكننا أن نعطي من له احتياج. فعلى المسيحيين أن يعملوا ويشتغلوا في أية حرفة ويمكنهم أن يفعلوا هذا دون أن يرتكبوا خطية. ولكنّ كثيرين يصيرون منهمكين في عملهم بحيث لا يجدون وقتا للصلاة ولا لدرس الكتاب ولا ليطلبوا الله ويخدموه. في بعض الأحيان تصبو أشواق النفس إلى القداسة والسماء، ولكن لا وقت لديهم لينسحبوا بعيدا عن ضجيج العالم وضوضائه ليستمعوا إلى صوت روح الله المهيب الجازم. لقد صارت أمور الأبدية ثانوية، أما أمور العالم فلها الأولوية والأسبقية. وهكذا يغدو من المستحيل على بذار الكلمة أن يأتي بثمر، لأنّ حياة النفس منصرفة إلى تغذية أشواك محبة العالم.COLAr 46.3
وكثيرون ممن يعملون لغرض يخالف هذا كل المخالفة يسقطون في نفس الغلطة. إنهم يخدمون لخير الآخرين وواجباتهم تضغط عليهم ومسؤولياتهم كثيرة وهم يسمحون لعملهم أن يزحم تعبدهم. يهملون الشركة مع الله عن طريق الصلاة ودرس كلمته، وينسون أنّ المسيح قد قال: « لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا » (يوحنا ١٥: ٥). إنّهم يسيرون بعيداً عن المسيح، وحياتهم غير مشمولة بنعمته، وصفات الذات تظهر. وخدمتهم تشوّهها الرغبة في التفوق والتسامي وفي صفات الخشونة البشعة في القلب الجامح غير المخضع. هنا سرّ من أهم أسرار الفشل في الخدمة المسيحية. هذا هو السبب في أنّ نتائجها عقيمة في غالب الأحيان.COLAr 47.1
« غُرُورُ الْغِنَى » (متى ١٣: ٢٢). إنّ حب الْغِنَى له قوة ساحرة خادعة. ففي غالب الأحيان يحدث أنّ من يملكون ثروات عالمية ينسون أنّ الله هو الذي يمنحهم قوة لاصطناع الثروة. إنهم يقولون: « قُوَّتِي وَقُدْرَةُ يَدِيَ اصْطَنَعَتْ لِي هذِهِ الثَّرْوَةَ » (تثنية ٨: ١٧). إنّ أموالهم بدلا من أن توقظ فيهم روح الشكر لله تسوقهم إلى تمجيد ذواتهم. فشعورهم بالاعتماد على الله يزايلهم، وكذلك التزامهم تجاه بني جنسهم. وبدلا من كونهم يعتبرون الثروة وزنة تُستخدم لأجل مجد الله ورفع شأن البشرية ينظرون إليها على أنّها وسيلة بها يخدمون ذواتهم. وبدلا من أنّها تنمّي في الإنسان صفات الله فإذ تُستخدم بهذه الكيفية فهي تنمّي فيه صفات الشيطان. وبذار الكلمة يخنقه الشوك. COLAr 47.2
« الْحَيَاةِ … وَلَذَّاتِهَا » (لوقا ٨: ١٤). يوجد خطر في التسلية التي تُطلب لمجرد إرضاء الذات. فكل عادات الانغماس التي تُضعف قوى الجسم وتُظلم العقل وتخدّر الإحساس الروحي إن هي إلاّ « الشَّهَوَات الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ » (١بطرس ٢: ١١).COLAr 48.1
« وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ » (مرقس ٤: ١٩). هذه ليست بالضرورة أشياء شريرة في ذاتها، ولكنّها شيء تعطي له الأولوية على ملكوت الله. فكل ما يجتذب العقل بعيداً عن الله، وكل ما يُبعد العواطف عن الله هو عدّو للنفس.COLAr 48.2
عندما يكون العقل في نضارته ونشاطه وتأثره السريع في النمو فهنالك تجربة عظيمة وهي أن يكون الإنسان طموحاً للذّات ليخدم الذّات. وعندما تكون المشاريع العالمية ناجحة يوجد في الإنسان الميل لمواصلة السير في الطريق الذي يميت الضمير ويمنع التقدير الصحيح لما يُعتبر بحقّ السمو الحقيقي للخلق. فعندما تكون الظروف مواتية لهذا التطور سيُرى النمو والانحياز إلى الاتجاه الذي تحرّمه كلمة الله.COLAr 48.3
إنّ مسؤولية الآباء عظيمة جداً في هذا الطور، طور النمو في حياة أولادهم. فعليهم أن يفكروا في إحاطة الشباب بالمؤثرات الصالحة التي تعطيهم آراء صحيحة عن الحياة والنجاح الحقيقي فيها. ولكن بدلا من هذا فما أكثر الوالدين الذين يجعلون هدفهم الأول أن يحرزوا النجاح العالمي لأولادهم. وهم يختارون كل عشرائهم بالإشارة إلى هذا الهدف. وكثيرون من الوالدين يقيمون لهم بيوتا في مدينة كبيرة ويقدمون أولادهم إلى المجتمع العصري. ويحيطونهم بمؤثرات تشجع على حب العالم والكبرياء. ففي هذا الجو يصغر العقل والنفس ويتضاءلان. وتغيب عن الأنظار أهداف الحياة السامية النبيلة. ثم إنّ امتياز كونهم أبناء الله وورثة الأبدية يُستعاض عنه بأرباح العالم. COLAr 48.4
إنّ كثيرا من الآباء يحاولون أن يزيدوا من سعادة أولادهم بإشباع حبهم للتسليات. فيسمحون لهم بالاشتراك في الألعاب وفي ولائم الفرح والمرح ويقدمون لهم المال لاستخدامه بسخاء في التظاهر والمفاخرة وإرضاء الذات. فعلى قدر ما يُسمح للرغبة بالانغماس في المسرات تزداد قوتها. وهكذا ينصرف اهتمام هؤلاء الشباب أكثر وأكثر إلى اللهو إلى حدّ انّهم يعتبرونه هدف الحياة العظيم فتنشأ فيهم عادات الكسل والخمول والانغماس في الملذات بحيث يكاد يبدو من المستحيل عليهم أن يصيروا مسيحيين ثابتين.COLAr 49.1
بل حتى الكنيسة التي ينبغي أن تكون عمود الحق وقاعدته، أحيانا تشجع الملذات. فعندما يُجمع المال لأجل أغراض دينية، فما هي الوسائل التي تلجأ إليها كثير من الكنائس؟ إنهم يلجأون إلى إقامة أسواق خيرية وحفلات عشاء وأوراق اليانصيب وما شاكل ذلك من الوسائل. وكثيرا ما يتنجس المكان المخصص لعبادة الله بالولائم وشرب الخمر والبيع والشراء والمرح. وهكذا تقل الكرامة اللائقة لبيت الله والتوقير اللائق بعبادته في عقول الشباب وتضعف حواجز ضبط النفس، وهكذا تشجع وتتقوى الأنانية والشهوات وحب التفاخر إذ ينغمس الناس فيها.COLAr 49.2
إن اتّباع الملذات واللهو يتركز أكثر في المدن. إن كثيرين من الوالدين الذين يختارون السكنى في بيت في المدينة لأجل أولادهم ظنا منهم أنهم بذلك يقدمون لهم ميزات أعظم يُمنون بالخيبة والفشل ثم يندبون غلطتهم ويندمون عليها بعد فوات الأوان. إن مدن اليوم تسرع في التشبه بسدوم وعمورة. فأيام العطلة الكثيرة تشجع على الكسل. ثم إنّ الألعاب المثيرة وأسباب اللهو — كالذهاب إلى المسارح وسباق الخيل والمقامرة وشرب الخمر والعربدة — تثير في النفوس كل شهوة إلى أقصى حدود نشاطها. وهكذا ينجرف الشباب مع التيار العام. والذين يتعلمون حب اللهو لأجل اللهو يفتحون الباب أمام طوفان التجارب. إنّهم يستسلمون للحبور الاجتماعي والمرح الطائش. واختلاطهم بمحبي الملذات له على العقل تأثير مخدر، فينقادون من لون إلى آخر من ألوان الإسراف حتى ليفقدون الرغبة والقدرة على حياة النفع. ثم يبرد تلهفهم إلى الأمور الدينية وتظلم حياتهم الروحية. وكل قوى النفس النبيلة وكل ما يربط الإنسان بالعالم الروحي ينحط.COLAr 49.3
نعم إنّ البعض قد يكتشفون جهالتهم ويتوبون ويمكن أن يغفر لهم الله. ولكنهم قد جرحوا أنفسهم وجلبوا على ذواتهم خطرا يدوم مدى الحياة. فالقدرة على التمييز التي كان يجب أن تظل جادة دائما وحساسة للتمييز بين الصواب والخطـأ تتلاشى إلى حد كبير. وهم يكونون متباطئين في تمييز صوت الرُّوح الْقُدُس الهادي واكتشاف مكايد الشيطان. وفي غالب الأحيان عندما يحـدق بهم الخطر يسـقطون تحت التجربة ويضلون بعيداً عن الله. إنّ عاقبة حياة حب اللهو واللذة هي دمارُُ في هذا العالم وفقدان في العالم الآتي.COLAr 50.1
إنّ الشيطان يستخدم الهموم والغنى والملذات في لعبة الحياة لنفس الإنسان. إنّ الرب يقدم لنا الإنذار القائل: « لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ » (١يوحنا ٢: ١٥، ١٦). فذاك الذي يقرأ قلوب الناس كما لو كانت كتابا مفتوحا يقول: « احْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ » (لوقا ٢١: ٣٤). والرسول بولس يكتب بالرُّوح الْقُدُس قائلا: « وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ، فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ، تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ. لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ » (١تيموثاوس ٦: ٩، ١٠).COLAr 50.2