١٨ - « أُخرُج إلى الطرق وَالسِيَاجَات »
(يعتمد هذا الفصل على ما جاء في لوقا ١٤: ١، ١٢-٢٤).
كان المُخَلِّص ضيفاً على مائدة أحد الفريسيين. كان يلبّي دعوة الأغنياء كالفقراء سواء بسواء، وكما كانت عادته ربط المشهد الذي أمامه بتعاليم الحق. كان العيد المقدس بين اليهود مرتبطا بكل مواسم أفراحهم القومية والدينية، وقد كان بالنسبة إليهم رمزا لبركات الحياة الأبدية، فالعيد العظيم الذي كانوا سيجلسون فيه مع إِبْرَاهِيم واسحق ويعقوب، حينما يقف الأمم خارجا وينظرون بعيون مشتاقة إليهم، كان موضوعا أحبّوه وسُروا بالحديث عنه. أمّا درس الإنذار والتعليم الذي رغب المسيح في أن يقدمه لأولئك المدعوين فقد قدمه لهم في صورة مَثَلٍ تحدث فيه عن عشاء عظيم. لقد ظن اليهود أن بركات الله للحياة الحاضرة والعتيدة هي وقفٌ عليهم وحدهم، فقد أنكروا رحمة الله للأمم، ولكنّ المسيح أبان لهم في هذا المثل أنهم هم أنفسهم كانوا في ذلك الحين يرفضون دعوة الرحمة، دعوة ملكوت الله. وقد أراهم أنّ الدعوة التي قد استهانوا بها كانت مزمعة أن توجَّه إلى من كانوا يحتقرونهم، الذين كانوا يُبعدون عنهم ثيابهم كما لو كانوا برصاً يجب تجنبهم.COLAr 200.1
إنّ الفريسي عند اختيار ضيوف وليمته راعى مصلحته الذاتية. قال له المسيح: « إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ الْجِيرَانَ الأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضًا، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ. بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَادْعُ: الْمَسَاكِينَ، الْجُدْعَ، الْعُرْجَ، الْعُمْيَ، فَيَكُونَ لَكَ الطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ الأَبْرَارِ » (لوقا ١٤: ١٢-١٤).COLAr 201.1
وكان المسيح هنا يكرر التعليم الذي أعطاه للعبرانيين بواسطة موسى. ففي أعيادهم المقدسة أوصاهم قائلا: « فَيَأْتِي … الْغَرِيبُ وَالْيَتِيمُ وَالأَرْمَلَةُ الَّذِينَ فِي أَبْوَابِكَ، وَيَأْكُلُونَ وَيَشْبَعُونَ » (تثنية ١٤: ٢٩). هذه المحافل كان يجب أن تكون دروساً للعبرانيين. فإذ كانوا قد تعلموا شيئا عن فرح الكرّم والسخاء الحقيقي، كان عليهم أن يرعوا الحزانى والفقراء على مدار السنة. وقد كان لهذه الأعياد درس أوسع. فالبركات الروحية المعطاة للعبرانيين لم تكن وقفا عليهم وحدهم. فلقد أعطاهم الله خبز الحياة لكي يكسروه للعالم.COLAr 201.2
ولكنّهم لم ينجزوا هذا العمل. ولقد كان كلام المسيح توبيخا لهم على أنانيتهم. ولم يكن الفريسـيون يستسيغون أقـواله. فإذ كان واحد منهم يؤمّل أن يحوّل مجرى الحديث إلى ناحية أخرى صاح وهو يتظاهر بالتقوى قائلا: « طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ ». كان هذا الرجل يتكلم بيقين عظيم كما لو كان واثقاً من أن له مكانا في الملكوت. إنّ موقفه شبيه بموقف من يفرحون لكونهم قد خلصوا بالمسيح في حين أنهم لا يتمّمون الشروط التي بموجبها قُدّم الوعد بالخلاص. لقد كانت روحُه كروح بلعام حين صلى قائلا: « لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ، وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ » (عدد ٢٣: ١٠). لم يكن الفريسي يفكر في أهليته للسماء بل في ما كان يرجو التمتع به في السماء. كان يقصد بملاحظته أن يحوّل أفكار الضيوف الذين كانوا في تلك الوليمة عن موضوع الواجب العملي. فكر في أن يحمل أفكارهم عبر الحياة الحاضرة إلى الزمن البعيد زمن قيامة الأبرار.COLAr 202.1
عرف المسيح ما كان يجول في قلب ذلك الدعيّ، فإذ ثبِّت عليه عينيه كشف لتلك الجماعة صفة امتيازاتهم الحاضرة وقيمتها. فأبان لهم أنّ عليهم دورا يقومون به في نفس ذلك الحين حتى يكون لهم نصيب في الغبطة المستقبلة.COLAr 202.2
قال: « إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا وَدَعَا كَثِيرِينَ ». وفي ساعة العشاء أرسل المضيف عبده إلى الضيوف المنتظر حضورهم برسالة تقول: « تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ ». ولكنهم أبدوا عدم اكتراث عجيبا: « فَابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ، فَلِذلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ » (لوقا ١٤: ١٨-٢٠).COLAr 202.3
ولكن ولا عذر من تلك الأعذار كان يستند إلى ضرورة حقيقية. فالرجل الذي قال: « أَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ » أي حقله كان قد اشتراه قبل ذلك. فسرعته في الخروج لرؤيته كانت تُعزى إلى أنّ اهتمامه كان منصرفاً إلى ما قد اشتراه. والبقر أيضا كان صاحبها قد اشتراها. فامتحانها كان فقط لإرضاء اهتمام شاريها. أما العذر الثالث فلم يكن فيه أيّ مظهر من مظاهر الوجاهة أكثر من سابقيه. فحقيقة كون ذلك الضيف المقصود قد تزوج بامرأة ما كانت لتمنعه من الذهاب إلى الوليمة. ولكن كانت له خططه الخاصة للتمتع، وقد بدا له أن هذه الأمور أعظم جاذبية من الوليمة التي قد وعد بالذهاب إليها. لقد تعلّم أن يجد مسرته في وسط جماعات أخرى غير جماعة صاحب الوليمة. ولم يسأل إعفاءه، ولا حتى تظاهر بمظهر اللياقة في رفضه. إنّ قوله: « لاَ أَقْدِرُ » إنما كان ستارا يخفي خلفه هذا الحق: « لست أكترث للمجيء ».COLAr 203.1
كل هذه الأعذار تكشف عن عقل كان مشغولا من قبل. فهؤلاء الضيوف المقصودون شغلت مصالحُهم الأخرى كل تفكيرهم. والدعوة التي قد تعهّدوا بقبولها ألقوا بها جانباً. وقد أُهين ذلك الصديق الكريم بعدم اكتراثهم.COLAr 203.2
إنّ المسيح يرمز بالعشاء العظيم إلى البركات المقدمة في الإنجيل. والمؤونة ليست أقلّ من المسيح نفسه. فهو الخبز النازل من السماء، ومنه تفيض ينابيع الخلاص. وقد أعلن رسل الرب لليهود عن مجيء المُخَلِّص، وأشاروا إلى المسيح على أنّه « حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ » (يوحنا ١: ٢٩). وفي الوليمة التي قد أعدها الله قدّم لهم أعظم هبة يمكن أن تمنحها السماء — هبة هي أجَلّ من كل تقدير. وقد جهزت محبة الله الوليمة الغالية وأعدت مصادر لا تنفد. وقد قال المسيح: « إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ » (يوحنا ٦: ٥١).COLAr 203.3
ولكن لكي يقبلوا الدعوة لوليمة الإنجيل عليهم أن يجعلوا اهتماماتهم العالمية ثانوية بالنسبة إلى الغرض الوحيد وهو قبول المسيح وبرّه. لقد قدم الله للإنسان كلّ شيء وهو يريده أن يجعل خدمته قبل كل اعتبار أرضي أو أناني. وهو لا يمكنه أن يقبل قلبا منقسما. والقلب المشغول بمحبة الأرضيات لا يمكن تسليمه لله.COLAr 204.1
إنّ هذا الدرس نافع لكل عصر. فعلينا أن نتبع حمل الله حيثما يذهب. علينا أن نختار قيادته وأن نقدر صحبته على صحبة كل الأصدقاء الأرضيين. فالمسيح يقول: « مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي » (متى ١٠: ٣٧).COLAr 204.2
عندما كان أفراد العائلة يجلسون حول المائدة ليكسروا خبزهم اليومي، كان كثيرون منهم في عهد المسيح يرددون القول: « طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ ». ولكن المسيح أبان مقدار الصعوبة في إيجاد ضيوف للجلوس على المائدة التي قد أعدت بكلفة غير محدودة. والذين استمعوا لأقواله علموا أنهم قد استهانوا بدعوة الرحمة. ففي اعتبارهم كانت الأملاك العالمية والغنى والمسرات تشغل كل تفكيرهم. فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون.COLAr 204.3
وكذلك الحال الآن. فالأعذار التي قدمت لرفض الدعوة للحضور إلى الوليمة تشمل جميع الأعذار لرفض دعوة الإنجيل. فالناس يعلنون أنهم لا يستطيعون أن يعرّضوا للخطر مطامعهم الدنيوية بالالتفات إلى مطاليب الإنجيل. إنّهم يعتبرون مصالحهم الزمنية أجلّ قدراً من الأمور الأبدية. فنفس البركات التي ينالونها من الله تصير حاجزاً يفصل بين نفوسهم وخالقهم وفاديهم. إنّهم لا يريدون أن يقاطعهم أحد في مطالبهم الدنيوية. وهم يقولون لرسول الرحمة: « أَمَّا الآنَ فَاذْهَبْ، وَمَتَى حَصَلْتُ عَلَى وَقْتٍ أَسْتَدْعِيكَ » (أعمال ٢٤: ٢٥). وآخرون يحتجّون بالصعوبات التي قد تنشأ في علاقاتهم الاجتماعية لو أطاعوا دعوة الله. فيقولون إنّهم لا يستطيعون أن يخرجوا على الوفاق الكائن بينهم وبين أقاربهم ومعارفهم. وهكذا يبرهنون على أنهم نفس الممثلين الذين قاموا بالدور المذكور في المثل. إنّ صاحب الوليمة يعتبر أعذارهم الواهية برهاناً على احتقارهم لدعوته.COLAr 205.1
إنّ الرجل الذي قال: « إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ، فَلِذلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ » يمثل فريقاً كبيراً من الناس. يوجد كثيرون ممن يسمحون لزوجاتهم أو يسمحن لأزواجهن بمنعهم أو منعهن من الالتفات إلى دعوة الله. فالزوج يقول: « إنّي لا أستطيع أن أطيع اقتناعاتي بالواجب في حين أنّ امرأتي تقاوم ذلك. فتأثيرها يجعل قيامي بهذا الواجب يغدو ضرباً من المستحيل ». والزوجة تسمع دعوة الرحمة القائلة: « تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ » فتقول: « أسألك أن تعفيني. فزوجي يرفض دعوة الرحمة. وهو يقول إنّ عمله يقف عقبة في سبيله. فينبغي لي أن أسير مع زوجي ولذلك لا أقدر أن أجيء ». ثم إنّ الأولاد يظنون أنه لا يُنتظر منهم أن يأتوا. فيقولون: « أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي ». COLAr 205.2
كل هؤلاء يرفضون دعوة المُخَلِّص لأنهم يخشون مغبّة الانقسام في محيط العائلة. ويظنون أنهم إذ يرفضون إطاعة الله فهم يضمنون للبيت السلام والنجاح، ولكن هذا تضليل. فالذين يزرعون أنانية يحصدونها. فإذ يرفضون محبة المسيح إنما يرفضون من يستطيع وحده أن يمنح المحبة البشرية الطهارة والثبات. فلن يخسروا السماء وحدها بل سيخفقون في التمتع بما قد ضحوا بالسماء في سبيله.COLAr 206.1
لقد علم صانع العشاء في المثل كيف عوملت دعوته، فإذ « غَضِبَ … قَالَ لِعَبْدِهِ: اخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا الْمَسَاكِينَ وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ ».COLAr 206.2
لقد تحول صاحب الضيافة عن الذين رفضوا هبات سخائه ودعا فريقا من الناس لم يكونوا ممتلئين شبعا ولا كانوا يملكون بيوتا أو حقولا … دعا المساكين والجياع والذين يقدرون العطايا المقدمة. قال المسيح: « إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ » (متى ٢١: ٣١). مهما تكن تعاسة أفراد البشرية الذين يزدريهم الناس ويتحاشون لقاءهم فإنّهم ليسوا أحقر ولا أتعس من أن يلاحظهم الله ويحبهم. إنّ المسيح يتوق إلى أن يأتي إليه من أضنتهم الهموم والمنهوكون والمظلومون. وهو يشتاق إلى أن يمنحهم النور والفرح والسلام الذي لا يوجد في أي مكان آخر. إنّ أشرّ الخطاة هم موضوع عطفه وحبه العميق الغيور. وهو يرسل روحه القدوس ليحنّ إليهم بكل رقة محاولا اجتذابهم إلى ذاته.COLAr 206.3
إن العبد الذي أدخل المساكين والعمي قال لسيده: « قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضًا مَكَانٌ. فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي » (لوقا ١٤: ٢٢، ٢٣). هنا أشار المسيح إلى عمل الإنجيل خارج نطاق الدين اليهودي، في طرق العالم وسياجاته.COLAr 207.1
فإطاعة لهذا الأمر أعلن بولس وبرنابا قائلين لليهود: « كَانَ يَجِبُ أَنْ تُكَلَّمُوا أَنْتُمْ أَوَّلاً بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلكِنْ إِذْ دَفَعْتُمُوهَا عَنْكُمْ، وَحَكَمْتُمْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُسْتَحِقِّينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، هُوَذَا نَتَوَجَّهُ إِلَى الأُمَمِ. لأَنْ هكَذَا أَوْصَانَا الرَّبُّ: قَدْ أَقَمْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ، لِتَكُونَ أَنْتَ خَلاَصًا إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ. فَلَمَّا سَمِعَ الأُمَمُ ذلِكَ كَانُوا يَفْرَحُونَ وَيُمَجِّدُونَ كَلِمَةَ الرَّبِّ. وَآمَنَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ » (أعمال ١٣: ٤٦-٤٨).COLAr 207.2
لقد كانت رسالة الإنجيل التي أذاعها تلاميذ المسيح هي إعلان مجيئه الأول إلى العالم. لقد حملت إلى الناس الأخبار الطيبة عن الخلاص بالإيمان به. وقد أشارت مستقبلاً إلى مجيئه الثاني في المجد لفداء شعبه. ووضعت أمام الناس الرجاء بالإيمان والطاعة، رجاء شركة ميراث القديسين في النور. وهذه الرسالة مقدمة للناس اليوم، وفي هذا الوقت يقترن بها إعلان المجيء الثاني للمسيح على أنّه قريب. والعلامات التي قدمها هو بنفسه عن مجيئه قد تمت، وبموجب تعليم كلمة الله يمكننا أن نعلم أن الرب على الأبواب.COLAr 207.3
إنّ يوحنا ينبيء في سفر الرؤيا عن إذاعة رسالة الإنجيل قبيل المجيء الثاني للمسيح. فهو يشاهد ملاكا طائرا « في وَسَطِ السَّمَاءِ مَعَهُ بِشَارَةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِيُبَشِّرَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ، قَائِلاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: « خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْدًا، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَتِهِ » (رؤيا ١٤: ٦، ٧).COLAr 208.1
وفي النبوة نجد أنّ هذا الإنذار بالدينونة مع الرسالة المرتبطة به يتبعه مجيء ابن الإنسان في سحب السماء. إنّ إعلان الدينونة هو إعلان بأن المجيء الثاني للمسيح هو على الأبواب. وهذا الإعلان يُسمّى البشارة الأبدية. وهكذا نجد أنّ الكرازة بالمجيء الثاني للمسيح، الإعلان بأنّه قريب، هي جزء جوهري من رسالة الإنجيل.COLAr 208.2
إنّ الكتاب يعلن أنّه في الأيام الأخيرة سيكون الناس منهمكين في مطالبهم الدنيوية، في المسرّات وجمع المال. ولكنهم سيعمون عن الحقائق الأبدية. والمسيح يقول: « وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ » (متى ٢٤: ٣٧-٣٩).COLAr 209.1
فكذلك الحال اليوم. إنّ الناس يسارعون وراء الربح والتمتعات الأنانية كما لو لم يكن يوجد إله ولا سماء ولا أبدية. لقد قُدّم الإنذار في أيام نوح عن مجيء الطوفان لكي يفزع الناس وهم في شرورهم وليدعوهم إلى التوبة. فكذلك قُصد برسالة قرب مجيء المسيح أن توقظ الناس من انهماكهم في العالميات. فإنّ الغرض منها هو إيقاظهم للشعور بالحقائق الأبدية حتى ينتبهوا إلى الدعوة لمائدة الرب.COLAr 209.2
يجب أن تُقدَّم دعوة الإنجيل لكل العالم « كُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ » (رؤيا ١٤: ٦). فيجب أن تنير آخر رسالة للإنذار والرحمة أرجاء العالم كلها بمجدها. فيجب أنها تصل إلى كل طبقات الناس، الأغنياء والفقراء والعال والدون. يقول المسيح: « اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي ».COLAr 209.3
إنّ العالم هلك لحاجته إلى الإنجيل. فيوجد جوع إلى كلمة الله. وقليلون هم الذين يكرزون بالكلمة خالصة من التقاليد البشرية. ومع أن الناس عندهم الكتاب بين أيديهم فهم لا يحصلون على البركة التي قد أودعها الله فيه لأجلهم. والرب يدعو خدامه ليحملوا رسالته إلى الشعب. وكلمة الحياة الأبدية يجب تقديمها لمن يهلكون في خطاياهم.COLAr 209.4
وفي الأمر بالخروج إلى الطرق والسياجات يعِّين المسيح عمل كل من يدعوهم ليخدموا باسمه. إنّ العالم كله هو الحقل الذي يجب أن يعمل فيه خدام المسيح. والأسرة البشرية كلها يستوعبها محفلهم. والرب يشتهي أن تصل كلمة نعمته إلى أعماق كل نفس.COLAr 210.1
ينبغي أن يتم هذا عن طريق العمل الفردي إلى حدّ كبير. هذه كانت طريقة المسيح. فالجانب الأكبر من عمله كان يتكون من مقابلات فردية وكان له اعتبار مخلص لمستمع واحد. وعن طريق نفس واحدة كانت الرسالة تمتد في الغالب إلى ألوف.COLAr 210.2
وينبغي ألاّ ننتظر حتى يأتينا الناس، بل علينا أن نذهب إليهم حيث هم. فعندما يُكرز بالكلمة من المنبر يكون العمل قد بدأ. ويوجد كثيرون من الناس الذين لا يمكن أن يصل الإنجيل إليهم ما لم يُحمل إليهم.COLAr 210.3
إنّ الدعوة إلى الوليمة قُدِّمت أولا إلى الشعب اليهودي، الشعب الذي قد دُعي ليقفوا معلمين وقادة بين الناس، الشعب الذي كان بين يديهم الأسفار النبوية منبئة بقدوم المسيح، والذين قد سُلمت إليهم الخدمة الرمزية لترمز إلى رسالته. فلو كان الكهنة والشعب قد التفتوا إلى الدعوة لكانوا اشتركوا مع رسل المسيح في تقديم دعوة الإنجيل إلى العالم. لقد أرسل الحق إليهم لكي يذيعوه. فلما رفضوا الدعوة قُدمت إلى المساكين والجدع والعرج والعمي. وقد قبل العشــارون والخطـاة الدعوة. وعندما ترسل دعوة الإنجيــل إلى الأمم فهناك خطة العمل نفســها. فيجب أن ترسل الرسـالة أولا « إِلَى الطُّرُقِ » — الناس الذين يقومون بنصيب فعَّال في العمل، إلى المعلمين والقادة بين الشعب. ليتذكّر رسل الرب هذا الأمر. فبالنسبة إلى رعاة الرعية، المعلمين المعينين من الله ينبغي أن يأتي ككلمة يجب الالتفات إليها. والذين يُحسبون ضمن الطبقات الراقية في المجتمع ينبغي البحث عنهم بمحبة ورقة وتقدير أخوي. فالناس الذين عندهم قوة جبارة للاختراع والبصيرة العلمية، والعباقرة، ومعلمو الإنجيل الذين لم تعبأ عقولهم بالحقائق الخاصة بهذا الوقت — هؤلاء ينبغي أن يكونوا أول من يسمعون النداء. فيجب أن تقدم إليهم الدعوة.COLAr 210.4
وتوجد خدمة يجب تقديمها للأثرياء. فهم بحاجة لإيقاظهم لمعرفة مسؤوليتهم كمن قد أودعت بين أيديهم هبات السماء. إنّهم بحاجة إلى تذكيرهم بأنهم لابد أن يقدموا حسابا للذي سيدين الأحياء والأموات. إنّ الرجل الغني يحتاج إلى خدمتك له بمحبة الله وخوفه. إنّه في غالب الأحيان يتّكل على غناه ولا يحسّ بخطره. إنّ عيني ذهنه تحتاجان إلى أن تتجها إلى الأشياء ذات القيمة الباقية. وهو يحتاج إلى أن يعترف بسلطة الصلاح الحقيقي الذي يقول: « تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ » (متى ١١: ٢٨-٣٠).COLAr 211.1
إنّ الذين يحتلون مراكز سامية في العالم لأجل علمهم أو غناهم أو عملهم قلّما يحدثهم أحد حديثاً فردياً فيما يختص بصالح نفوسهم. وكثيرون من الخدام المسيحيين يترددون في الاقتراب من هذه الطبقات. ولكن هذا ما لا يجب أن يكون. فإذا كان هناك إنسان موشكا على الغرق فإننا لا نقف جانبا ونتركه يغرق لكونه محاميا أو تاجرا أو قاضيا. فإذا رأينا أشخاصا يسرعون إلى هوة فإننا لا نتردد في صدهم وإبعادهم عنها مهما يكن مركزهم أو عملهم. وكذلك ينبغي ألاّ نتردد في إنذار الناس من الخطر الذي يهدد نفوسهم. COLAr 211.2
ينبغي ألاّ نهمل أحدا من الناس بسبب انصرافهم الظاهري إلى الأمور الدنيوية. كثيرون ممن يحتلون مراكز سامية في المجتمع هم خائرو القلوب وقد سئمت نفوسهم الأباطيل. إنهم يتوقون إلى سلام لم يحصلوا عليه. ففي أرقى طبقات المجتمع يوجد من يجوعون ويعطشون إلى الخلاص. وكثيرون كان يمكن أن يحصلوا على العون لو أنّ خدام الرب يقتربون منهم شخصياً بأسلوب لطيف وبقلب صيرته محبّة المسيح رقيقا.COLAr 212.1
إنّ نجاح رسالة الإنجيل لا يتوقف على فصاحة الكلام أو الشهادات البليغة أو الحجج الدامغة. ولكنّه يعتمد على بساطة الرسالة وموافقتها للنفوس الجائعة إلى خبز الحياة « مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟ » — هذا هو ما تحتاجه النفس. يمكن الوصول إلى ألوف الناس بأبسط الطرق المتواضعة. ذوي العقول الراجحة الذين يُنظر إليهم على أنّهم موهوبون أكثر من كل رجال ونساء العالم، في غالب الأحيان ينتعشون عندما يسمعون كلاما بسيطا من فم إنسان يحب الله ويستطيع أن يتحدث عن تلك المحبة على سجّيته كما يتحدث الرجل الدنيوي عن الأشياء التي تهمه جدا.COLAr 212.2
في كثير من الأحيان يكون الكلام المجهز والمدروس جيدا قليل التأثير. ولكن التعبير المُخلِص الأمين الذي ينطق به أيّ ابنٍ أو أية ابنةٍ من أولاد الله ببساطة طبيعية يمكن أن تكون له قوة على فتح مغاليق القلوب التي ظلت طويلا مغلقة في وجه المسيح ومحبته.COLAr 213.1
ليذكر خادم المسيح أنّ ليس عليه أن يعمل بقوته. فليتمسك بعرش الله وهو مؤمن بقدرته على أن يخلص. فليجاهد مع الله في الصلاة، وحينئذ ليعمل بكل المساعدات التي منحه الله إياها. والرُّوح الْقُدُس مقدم على أنه كفايته. والملائكة الخادمون سيكونون إلى جواره ليؤثروا في القلوب.COLAr 213.2
لو كان الرؤساء والمعلمون في أورشليم قد قبلوا الحق الذي جاء به المسيح، فكم كانت مدينتهم تصير مركزا كرازيا عظيما! وكان يمكن لإسرائيل المرتدّ أن يرجع إلى الله. وكان يمكن حشد جيش عظيم للرب. وبأي سرعة كان يمكنهم أن يحملوا الإنجيل إلى كل أنحاء العالم! وهكذا الآن، لو أمكن ربح الناس ذوي النفوذ والقدرة العظيمة على العمل للمسيح، فما كان أعظم العمل الذي كان يمكن أن يتم بواسطتهم في إقامة الساقطين وجمع الشاردين ونشر بشارة الخلاص إلى أقصى مكان. كان يمكن أن تقدم الدعوة سريعا ويُجمع الضيوف إلى وليمة الرب.COLAr 213.3
ولكن ينبغي ألاّ نفكر فقط في الرجال العظام والموهوبين لنهمل الطبقات الفقيرة. إنّ المسيح يعلم رسله أن يذهبوا أيضا إلى من هم في الطرق والسياجات، إلى المساكين وأدنياء الأرض. ففي رحاب المدن العظيمة وأزقتها، وفي الطرق الموحشة في الأرياف، COLAr 213.4
توجد عائلات وأفراد — ربما يكونون غرباء في أرض غريبة — هؤلاء لا توجد صلة تربطهم بكنيسة، وفي وحدتهم ينتهي بهم الأمر إلى أن يحسّوا بأنّ الله قد نسيهم. إنهم لا يعلمون ما الذي ينبغي أن يفعلوه لكي يخلصوا. وكثيرون منهم غائصون في الخطية، وكثيرون في ضيق. إنّ الآلام والعوز وعدم الإيمان واليأس تضغط عليهم. والمرض من كل نوع يؤلم أجسادهم ويعذب نفوسهم. إنّهم يتوقون للحصول على عزاء في متاعبهم وضيقاتهم، والشيطان يجربهم ليجدوا العزاء في الشهوات والملذات التي تقود إلى الدمار والموت. إنّه يقدم لهم تفاح سدوم الذي يستحيل إلى رماد على شفاه آكليه. إنّهم يزِنون فضةً لغير خبز وتعبهَم لغير شبع.COLAr 214.1
علينا أن نرى في هؤلاء الناس المتألمين، أولئك الذين أتى المسيح ليخلصهم. ودعوته إليهم هي هذه: « أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْراً وَلَبَناً. لِمَاذَا تَزِنُونَ ... اسْتَمِعُوا لِي اسْتِمَاعاً وَكُلُوا الطَّيِّبَ وَلْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ » (إِشَعْيَاء ٥٥: ١-٣).COLAr 214.2
لقد قدم الله أمرا خاصا حتى نهتم بالغريب المنبوذ والنفوس المسكينة الضعيفة في القوة الأدبية. إنّ كثيرين ممّن يبدو عليهم أنهم لا يكترثون إطلاقا للأمور الدينية هم في أعماقهم يتوقون إلى الراحة والسلام. ومع أنهم قد يكونون غائصين في أعماق الخطية فمن الممكن إنقاذهم.COLAr 214.3
وعلى خدام المسيح أن يتمثلوا به. فإذ كان يجول من مكان إلى مكان كان يعزّي المتألمين ويشفي المرضى. وحينئذ عرض عليهم الحقائق العظيمة الخاصة بملكوته. هذا هو عمل تلاميذه. فعندما تُخفّف آلامَ الجسم ستجدُ وسائلَ لخدمة حاجات الروح. فيمكنك أن توجّه الأنظار إلى المُخَلِّص المرفوع وتخبر الناس عن محبة الطبيب العظيم، الذي وحده له القوة ليشفي.COLAr 214.4
قل للمساكين اليائسين الذين قد ضلوا أن لا حاجة بهم إلى أن ييأسوا. فمع أنهم قد أخطأوا ولم يبنوا خُلُقا صالحا فالله يسرّ بأن يردّ لهم بهجة خلاصه. إنّه يسرّ بأن يأخذ المادة التي يبدو أن لا رجاء فيها، والذين قد استخدمهم الشيطان، ويجعلهم (الله) رعايا نعمته. إنّه يسرّ بأن يخلصهم من الغضب المزمع أن ينصب على العصاة. قل لهم أنه يوجد شفاء وتطهير لكل نفس. ويوجد لهم مكان حول مائدة الرب. إنّه ينتظر ليرحب بهم.COLAr 215.1
والذين يخرجون إلى الطرق والسياجات سيجدون أناسا آخرين تختلف صفاتهم عن سابقيهم اختلافا بـّيناً. هم بحاجة إلى خدمتهم. فيوجد من يعيشون بموجب كل النور المعطى لهم ويخدمون الله أفضل خدمة بحسب ما يعرفون. ولكنهم يدركون أنه يوجد عمل عظيم يجب أن يُعمل لأجلهم ولأجل من حولهم. إنهم تائقون للحصول على المزيد من معرفة الله، ولكنهم فقط بدأوا يشاهدون بصيص نور أعظم. إنهم يصلّون بدموع إلى الله حتى يرسل إليهم البركة التي يرونها بالإيمان من بعيد. ففي وسط شر المدن العظيمة يوجد كثيرون من هؤلاء الناس. وكثيرون منهم هم في ظروف وضيعة جداً، وبسبب هذا لا يلاحظ العالم وجودهم. ويوجد كثيرون لا يعرف الخدام أو الكنائس شيئا عنهم، ولكنهم شهود الرب في أماكنهم الوضيعة التعسة. ربما كان عندهم قليل من النور فيما مضى وفرص قليلة للتهذيب المسيحي، ولكن في وسط العري والجوع والبرد يحاولون أن يخدموا الآخرين. فليبحث من هم وكلاء على نعم الله العديدة عن هذه النفوس ويزوروا بيوتهم. وبقوة الرُّوح الْقُدُس ليخدموا حاجاتهم. ادرسوا معهم الكتاب وصلوا معهم بتلك البساطة التي يلهمكم بها الرُّوح الْقُدُس. إنّ المسيح سيمنح خدامه رسالة تكون كخبز السماء للنفس. وستنتقل البركة الثمينة من قلب إلى قلب ومن عائلة إلى عائلة.COLAr 215.2
إنّ الأمر المقدم في المثل والقائل: « أَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ » كثيرا ما أُسيء تفسيره. فلقد أُعتِبر وكأنه يعلمنا أن نرغم الناس على قبول الإنجيل. ولكنه يدل بالحري على الإلحاح بالدعوة وفاعلية المؤثرات المقدمة. إنّ الإنجيل لا يلجـأ إلى العنف بتـاتا في الإتيـان بالناس إلى المسيح. ورسـالته هي هذه: « أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ » (إِشَعْيَاء ٥٥: ١). « الرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَنِ: تَعَالَ! … وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا » (رؤيا ٢٢: ١٧). فقوة محبة الله ونعمته تقنعنا بالمجيء.COLAr 216.1
يقول المُخَلِّص: « هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي » (رؤيا ٣: ٢٠). إنّه لا يُصدّ بالاحتقــار ولا يُنحَّى بالتـهديد، ولكنــه علـى الــدوام يطلب الضـالِّين قـــائلا: « كَيْفَ أَجْعَلُكَ؟ » ( كيف أتخلى عنك؟) (هوشع ١١: ٨). فمع أن محبته يصدها القلب العنيد فإنه يعود ليتوسل بقوة أعظم: « هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ ». إنّ قوة محبته الجاذبة تلزم النفوس بالدخول. فيقولون للمسيح: « لُطْفُكَ يُعَظِّمُنِي » (مزمور ١٨: ٣٥).COLAr 216.2
إنّ المسيح منح رسله نفس المحبة المشتاقة التي هي له نحو الهالكين. فيجب ألاّ نكتفي بالقول: « تعالوا » فيوجد من يسمعون الدعوة، ولكن آذانهم غلفاء بحيث لا تفهم معناها. وعيونهم عمياء بحيث لا ترى أي شيء صـالح مذخورا لهم. إن كثيرين مـدركون انحطـاطهم العظيـم، فهـم يقولـون: أنا لست أهلا لقبول العون. فاتركني وشأني. ولكن ينبغي للخدام ألا يكفّوا عن عملهم. ففي رقة وعطف وحبَ أمسِكوا بالخائرين والعاجزين. واعطـوهم من شجــاعتكم ورجائكم وقوتكم. ألـزمـوهم بالـدخـول بكل رفق « وَارْحَمُوا الْبَعْضَ مُمَيِّزِينَ، وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ، مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ » (يهوذا ٢٢، ٢٣).COLAr 216.3
إذا كان خدام الله يسيرون معه بإيمان فهو سيضفي على رسالتهم قوة. فسيكونون قادرين على تقديم محبته وإظهار الخطر الناشئ عن رفض نعمة الله بحيث يلزم الناس لقبول الإنجيل. وسيجري المسيح معجزات عجيبة إذا كان الناس يقومون بدورهم المعطى لهم من الله. وسيحدث في قلوب الناس اليوم تغيير عظيم كما حدث في سابق العصور. لقد افتُدِيَ يوحنا بنيان من التجديف والعربدة، كما افتُدِيَ جون نيوتن من المتاجرة في الرقيق ليذيعا رسالة المُخَلِّص الممجد. ويمكن أن يُفتَدى أمثال بنيان ونيوتن من بين الناس اليوم. فعن طريق الوكلاء البشريين الذين يتعاونون مع القوة الإلهية يمكن أن يُستَرد كثيرون من الضالين المساكين، وكل منهم في دوره سيسعى لرد الإنسان إلى صورة الله. يوجد من لم تكن لديهم غير فرص قليلة جدا، ممن ساروا في طرق الضلال لأنهم لم يكونوا يعرفون طريقا أفضل وممن سيشرق عليهم النور، فكما قال المسيح لزكا: « يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ » (لوقا ١٩: ٥) فستأتي الكلمة إليهم، ومن كان يظن أنهم خطاة قساة القلوب سيتبرهن أن قلوبهم رقيقة كقلوب الأطفال لأن المسيح قصد أن يلاحظهم. وكثيرون سيأتون من أشنع بؤر الضلال والخطية ويأخذون مكان أولئك الذين كانت لهم الفرص والامتيازات ولكنهم لم يقدروها. وسيحسبون مختاري الله المنتخبين الكرماء. وعندما يأتي المسيح في ملكوته سيقفون بالقرب من عرشه.COLAr 217.1
ولكن: « اُنْظُرُوا أَنْ لاَ تَسْتَعْفُوا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ » (عبرانيين ١٢: ٢٥). فلقد قال يسوع: « إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي » (لوقا ١٤: ٢٤). إنهم قد رفضوا الدعوة، ولذلك فلن تُقدّم الدعوة ثانية لواحد منهم. إنّ اليهود إذ رفضوا المسيح كانوا يقسّون قلوبهم ويسلمون أنفسهم لسلطان الشيطان بحيث غدا من المستحيل عليهم أن يقبلوا نعمته. وكذلك الحـال الآن فإذا لم نقــدّر محـبة الله ونجعــلها تصــــير مبدأ ثابتا لتليين قلــوبنا وإخضاع نفوسنا فنحن هالكون لا محالة. إنّ الرب لا يمكنه أن يقدم إعلانا لمحبته أعظم ممّا قدّم. فإذا لم تُخضع محبة يسوع القلب فلا توجد وسائط أخرى بها يمكن الوصول ألينا.COLAr 217.2
إنّك في كل مرة ترفض الإصغاء لرسالة الرحمة فأنت تشدد نفسك في عدم الإيمان. وفي كل مرة لا تفتح باب قلبك للمسيح تزداد شيئا فشيئا عدم رغبتك في الإصغاء لصوت المتكلم. إنك تقلل من فرصة استجابتك لآخر دعوات الرحمة. لا تجعل هذا القول يصدق عليك كما قيل عن إسرائيل قديما: « أَفْرَايِمُ مُوثَقٌ بِالأَصْنَامِ. اتْرُكُوهُ » (هوشع ٤: ١٧). ولا تجعل المسيح يبكي عليك كما قد بكى على أورشليم قائلا: « كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجـاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. « هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا » (لوقا ١٣: ٣٤، ٣٥).COLAr 218.1
إننا عائشون في زمن تُسمع فيه آخر رسائل الرحمة وآخر دعوة مقدمة لأولاد الناس. إنّ الأمر القائل: « هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا » يصل الآن إلى غاية إتمامه الأخير. إنّ دعوة المسيح ستُقدّم لكل نفس. والرسل يقولون: « تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ » إنّ ملائكة السماء مازالوا يعملون متعاونين مع الخدام البشريين. والرُّوح الْقُدُس لا يزال يقدّم كل مرغّب لإقناعك بالمجيء. والمسيح يراقب لعلّه يجد علامة تدل على رفع المغاليق وفتح باب قلبك لدخوله. والملائكة ينتظرون أن ينقلوا إلى السماء الأنباء السارة بأن خاطئا ضالاّ آخر قد وُجـِد. وأجناد السماء ينتظرون وهم على أتم استعداد لأن يعزفوا على قيثــاراتهم ويغنـّوا أغاني الفــرح لأن نفســا أخرى قد قبـِلت الدعوة إلى وليمة الإنجيل. COLAr 218.2