الفصل الستون— تصلف شاول
بعدما انفض الاجتماع الذي عقد في الجلجال سرح شاول الجش الذي كان قد احتشـد تلبية لدعوته لأجل تحطيم جيش العمونيين ، ولم يبق غير ألفي رجل ليكونوا تحت قيادة الملك في مخماس ، وألف ليكونوا مع ابنه يوناثان في جبعة . إلا أن هذا كان خطأ كبيرا ، حيث كانت قلوب رجال الجيش ممتلئة أملا وشجاعة بعد النصر الذي قد أحرزوه منذ عهد قريب . ولو كان قد سار في طليعة الجيش لمنازلة أعداء إسرائيل الآخرين لكانوا قد ضربوا ضربة ملحقة قوية لتحرير الأمة .AA 555.1
وفي أثناء ذلك كان جيرانهم الفلسطينيون النازعون للحرب نشيطين . فبعد الهزيمة التي لحقتهم عند حجر المعونة كانوا لا يزالون مسيطرين على بعض معاقل الجبال في أرض إسرائيل ، وها هم الآن قد ثبتوا أقدامهم في قلب الأرض ، كما كانوا متفوقين على إسرائيل في التسهيلات والأسلحة والمعدات الحربية . ففي فترة حكمهم العاتي الطويلة الأمد حاولوا توطيد سلطانهم بكونهم نهوا بني إسرائيل عن مزاولة أعمال الصناع لئلا يصنعوا أسلحة حربية . وبعدما تم الصلح كان بنو إسرائيل يلجأون إلى معسكرات الفلسطينيين لكي يحدد كل واحد منجله وفأسه ومعوله . وإذ كان بنو إسرائيل يركنون إلى الراحة وروح الخنوع التي نتجت عن الاضطهاد الطويل الأمد ، أهملوا إهمالا فاضحا ، تزويد أنفسهم بالأسلحة الحربية . كانت القسي والمقاليع تستخدم في الحروب ، وكان في مقدور الإسرائيليين الحصول عليها ، ولكن لا أحد منهم ، باستثناء شالو وابنه يوناثان ، كان يملك سيفا أو رمحا (1 صموئيل 13 : 22) .AA 555.2
ولم تبذل أية محاولة من جانب إسرائيل لإخضاع الفلسطينيين إلا في السنة الثانية من ملك شاول . والذي ضرب أول ضربة هو يوناثان ابن الملك الذي ضرب معسكرهم في جبعة وانتصر . فثار غضب الفلسطينيين بسب هذه الهزيمة التي لحقتهم فتأهبوا للقيام بهجوم خاطف على إسرائيــل . حينئذ أمر شاول أن يضرب بالبوق في كل البلاد إعــلانــاً للحرب ، داعيا الرجال المحاربين بما فيهم الأسباط المستوطنة في عبر الأردن ليحتشدوا في الجلجال . وقــد استجيب هذا النداء .AA 555.3
كان الفلسطينيون قــــد حشدوا جيشا عظيما في مخماس ( ثلاثون آلف مركبة ، وستة آلآف فارس ، وشعباُ كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة ) (1 صموئيل 13 : 5) فلما وصلت الأخبار إلى شاول وجيشه في الجلجال ارتعب الشعب حين فكروا في الجيوش الهائلة التي كان عليهم أن ينازلوها في ساحة القتال ، إذ لم يكونوا مستعدين لمواجهة العدو ، فخاف كثيرون حتى أنهم لم يتجرأوا على محاولة ملاقاة الأعداء ، فعبر بعضهم الأردن ، بينما اختبأ آخرون في المغاير والآبار والمخور التي كانت كثيرة في ذلك الإقليم . ولما دنا وثت اشتباك الجيوش في الحرب كثر عدد الهاربين من جنود إسرائيــل . والباقون الذين لم يهربوا من الجيش امتلئوا تطيرا ورعبا .AA 556.1
عندما مسح شاول ملكا على إسرائيــل في بادئ الأمر قــــدم له صموئيل التوجيهات الواضحة عن الطريق الذي كان عليه أن يسير فيه حينئذ ، إذ قـــال له : ( تنزل قذامي إلى الجلجال ، وهوذا آنا آنزل إليك لأصعد محرقات وأذبح ذبائح سلامة . سبعة أيام تلبث حتى آتي إليك وأعلمك ماذا تفعل ) (1 صموئيل 10 : 8) .AA 556.2
ظل شارل منتظرا عدة أيام ، ولكنه في خلال تلك المدة لم يبذل أي مسعى حازم لتشجيع الشعب ، كك ولا نفث فيهم روح الثقة بالـلــه . قبل أن ينتهي تماما الميعاد الذي حدده النبي نفد صبر شاول بسبب التأخير ، وسمح لنفسه بأن تفشل في مواجهة الظروف القاسية المحيطة به . وبدلا من أن يعد الشعب بكل أمانة للخدمة التي كان صموئيل آتيا ليقوم بها أوغل في عدم الإيمان والتشاؤم . إن مسألة طلب الـلــه بواسطة الذبيحة كانت عملا غاية في القداسة والأهمية ، وكان الـلــه يريد أن شعبه يفحصون قلوبهم ويتوبون عن خطيتهم حتى تنال الذبيحة قبولا لديه ، وحتى تصحب بركة الـلــه جهودهم لهزيمة العدو . ولكن شاول صار متضجرا ، وعوضا عن أن يتطلع الشعب إلى الـلــه في طلب العون كانوا ينظرون إلى الملك الذي قــــد اختاروه ليرشدهم ويوجههم .AA 556.3
ومع ذلك لم يكف الرب عن أن يرعاهم ، ولم يسمح بأن يوقعهم في الكوارث التي كان يمكن أن تلحق بهم لو أن الذراع البشرية الضعيفة كانت هى مسندهم الوحيد . لقد أتى بهم إلى مأزق ليقنعهم بجهالة الاعتماد على الإنسان ، وليلتفتوا إليه كمعينهم الوحيد . ثم أتى الوقت الذي فيه يمعن شاول ، فكان لا بد أن يبرهن حينئذ ما إذا كان سيعتمد على الـلــه أم لا ، ويظل منتظرا بصبر بناء على أمره ، مبرهنا على أنه الشخص الذي يمكن أن يثق به الـلــه في المواقع الشاقة كحاكم لشعبه ، أم أنه سيكون متذبذبا وغير أهل للمسؤولية المقدسة التي آلت إليه . فهل ذلك الملك الذي قد اختاره إسرائيل سيصغي إلى صوت ملك الملوك قاطبة ؟ وهل سيحول انتباه جنوده الخائري القلوب إلى ذاك الذي فيه وحــده القوة والخلاص الأبديان ؟AA 556.4
وبصبر نافد انتظر شاول قــــدوم صموئيل ، وكان ينسب الضيق والارتباك وتفرق الجيش إلى غياب النبي ، فقد جاء ميعاد مجيئه ولكن رجل الـلــه لم يأت في الحال . لقد أعاقت عناية الـلــه عبده إلا أن روح شاول الضجرة المندفعة لم تعد تضبط ، وإذ شعر بأنه لا بد من عمل شيء لتهدئة مخاوف الشعب عزم على أن يعقد اجتماعا للقيام بخدمة دينية ، وعن طريق الذبيحة يطلب المعونة من الـلــه . كان الـلــه قــــد أمر بألا يقدم الذبيحة أمامه أحد غير المكرسين لهذه الخدمة . ولكن شاول أمر قـائــلاً : )قدموا إلي المحرقة ) (انظر 1 صموئيل 13) وإذ كان كما هو متسلحا بعدة الحرب اقترب من المذبح وقــدم الذبيحة لــلـــــه .AA 557.1
( وكان لما انتهى من إصعاد المحرقة إذا صموئيل مقبل ، فخرج شاول للقائه ليباركه ) رأى صموئيل في الحال أن شاول قــــد خالف الأوامرالصريحة الصادرة إليه . فتكلم الـلــه بواسطة نبيه أنه في ذلك الوقت سيعلن الـلــه ما يجب أن يفعله إسرائيــل في تلك الضائقة . فلو تمم شاول الشروط التي بموجبها قــــد وعد بالمساعدة الإلهية لكان الـلــه قــــد صنع خلاصا عجيبا لإسرائيل بالقليلين الذين ظلوا على ولائهم للملك . ولكن شاول كان راضيا عن نفسه وعن عمله كل الرضى حتى لقد خرج يستقبل النبي كمن يستحق المديح لا التوبيخ .AA 557.2
بدا على وجه صموئيل جزع وضيق شديدان . وإذ سأل الملك قـائــلاً : ( ماذا فعلت ؟ ) قـــال شاول ، مقدما أعذارا عن تصلفه : ( رأيت أن الشعب قــــد تفرق عني ، وأنت لم تأت في أيام الميعاد ، والفلسطينيون متجمعون في مخماس ، فقلت : الآن ينزل الفاسطينيون إليّ إلى الجلجال ولم أتضرع إلى وجه الـــرب ، فتجلدت وأصعدت المحرقة ) .AA 557.3
( فقال صموئيل لشاول : قــــد انحمتقت ! لم تحفظ وصية الـــرب إلهك التي أمرك بها ، لأنه الآن كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد . وأما الآن فمملكتك لا تقوم . قد انتخب الرب لنفسه رجلا حسب قلبه ، وأمره الرب أن يترأس على شعبه ... وقام صموئيل وصعد من الجلجال إلى جبعة بنيامين ) .AA 557.4
إما أن يكف إسرائيــل عن أن يكون شعبا لله وإما أن المبادئ التي قامت عليها الملكية ينبغي أن تحفظ ، وينبغي أن تسوس الأمة قوة إلهية . فإذا أراد إسرائيــل أن يكون بجملته للرب ، وإذا خضعت الإرادة البشرية الأرضية لإرادة الـلــه فسيظل شاول ملكا على إسرائيــل . وما دام الشعب والملك يخضعون نفوسهم لــلـــــه فسيظل حاميا إياهم مدافعا عنهم . ولكن لا يمكن أن تنجح الملكية في إسرائيــل إلا إذا اعترفت بسلطان الـلــه المطلق في كل شيء .AA 558.1
فلو أن شاول أبدى احتراما لمطاليب الـلــه في وقت التجربة هذا لكان الـلــه قد تمم إرادته فيه . إن إخفاقه في هذه المرة برهن على عدم لياقته لأن يكون نائبا عن الـلــه أمام الشعب ، لأنه سيضلل الشعب . والقوة الحاكمة لن تكون إرادة الـلــه بل إرادته هو . ولو كان شاول أمينــاً لثبتت مملكته إلى الأبد . ولكن حيث أنه قد أخفق ، فقصد الـلــه لا بد أن يتم عن طريق شخص آخر . وينبغي أن يسند حكم إسرائيــل إلى شخص يحكم الشعب بموجب إرادة السماء .AA 558.2
إننا لا نعرف أية مصالح عظيمة تتعرض للخطر عند امتحان الـلــه إيانا ، إذ لا أمان إلا في الطاعة الكاملة لكلمة الـلــه . إن كل مواعيده مقدمة على شرط الإيمان والطاعة . وإخفاقنا في الإذعان لأوامر الرب يمنع إتمام مواعيد الكتاب الثمينة عنا ، فينبغي ألا نتبع بواعثنا أو نعتمد على حكم الناس بل ينبغي أن نضع نصب عيوننا إرادة الـلــه المعلنة ونسلك بموجب أمره الثابت ، مهما تكن الظروف المحيطة بنا ، لأن الـلــه سيتولى النتائج ، حيث بأمانتنا لكلمته يمكننا في وقت التجربة أن نبرهن أمام الناس والملائكة أن الرب يمكنه أن يثق بنا لننفذ إرادته في الضيقات ونكرم اسمه ونبارك شعبه .AA 558.3
لقد كان شاول في حالة جفاء مع الـلــه ومع ذلك فهو لم يرغب في إخضاع قلبه بالتوبة . فلما كان يعوزه من التقوى الصادقة أراد أن يعرض عنه بغيرته في الطقوس الدينية . لم يكن شاول يجهل هزيمة إسرائيــل حين حمل حفني وفينحاس التابوت إلى المحلة ، ومع علمه بكل هذا فقد عزم على أن يستحضر التابوت المقدس . ومعه الكاهن الذي يلازمه . ولو أمكنه بهذه الوسيلة أن يلهم شعبه بالثقة لكان يمكنه أن يجمع شمل جيشه المشتت ، من جديد ، ويحارب الفلسطينيين ، وفي هذه الحالة يمكنه أن يستغني عن حضور صموئيل ومعاضدته ، وهكذا يتخلص من انتقادات ذلك النبي وتوبيخاته التي كان يكرهها .AA 558.4
لقد أعطي الروح القدس لشاول ليغير عقله ويلين قلبه ، كما أنه حصل على تعاليم وسمع توبيخات من نبي الـلــه ، ومع ذلك فكم كان عناده عظيما ؟ ! إن تاريخ أول ملوك إسرائيل بيسط أمامنا مثالا محزنا لقوة العادات المبكرة الخاطئة . إن شاول في شبابه لم يحب الـلــه ولا اتقاه ، وتلك الروح المتهورة التي لم تتدرب في وقت مبكر على الخضوع كانت أبدا مستعدة للتمرد على سلطان الـلــه . إن أولئك الذين يحتضنون في شبابهم روح احترام الـلــه وبكل أمانة يتممون واجبات وظيفتهم سيكونون مهيئين لخدمات أسمى في حياتهم المستقبلة . ولكن الناس لا يستطيعون لمدة سنين كثيرة أن يفسدوا القوى التي أعطاها الـلــه لهم ، وحينئــذ متى رغبوا في التغيير سيرون أن هــذه القوى غضة وحرة لإتخاذ طريق معاكس كليا .AA 559.1
إن محاولات شاول في استنهاض همم الشعب لم تجد فتيلا . وإذ وجد أنه لم يبق من رجاله غير ست مئة رجل ، ترك الجلجال وانسحب إلى الحصن الذي في جبعة الذي كان قد استرده من الفلسطينيين منذ عهد قريب . كان هذا الحصن يقع في جنوبي واد عميق أو ممر بين جبلين يبعد عن أورشليم أميالا قليلة إلى شماليها . وفي شمالي هذا الوادي في مخماس كان يعسكر جيش الفلسطينيين ، بينما خرجت بعض فصائله في جهات متفرقة لنهب البلاد .AA 559.2
وقد سمح الـلــه بأن تنتهي الأمـــور إلى أزمة لكي يوبخ شاول على فساده ويعلم شعبه درس الوداعة والإيمان . وبسبب خطية الملك وتصلفه حين قدم الذبيحة ، حرمه الـلــه من شرف الانتصار على الفلسطينيين . إن يوناثان ابن الملك الذي كان رجلا يخشى الرب هو الذي اختاره الـلــه واسطة لتخليص إسرائيــل . وإذ كان مدفوعا بدافع إلهي اقترح على حامل سلاحه أن يذهبا للقيام بهجوم سري على معسكر العدو قائلا : ( لعل الله يعمل معنا ، لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلّص بالكثير أو بالقليل ) (انظر 1 صموئيل 14) .AA 559.3
هذا وإن حامل سلاح يوناثان ، الذي كان هو أيضا رجل إيمان وصلاة ، شجعه على القيام بما اعتزم أن يفعله ، فانسحبا كلاهما من المعسكر سرا لئلا يعارضهما في خطتهما أحد . وبعد صلاة حارة قدماها للرب الذي كان مرشدا لأبويهما اتفقا على علامة يحكمان بموجبها كيف يتقدمان . فلما وصلا إلى الممر الذي يفصل بين الجيش تسلك بسكون تحت ظل الصخرة ، كما كانت تحجبهما القمم والروابي في ذلك المكان . وإذ اقتربا من معقل الفلسطينيين انكشفا لعيون الأعداء الذين عيروهما قائلين )هوذا العبرانيون خارجون من الثقوب التي اختبأوا فيها ) ثم تهددوهما قائلين : ( اصعدا إلينا فنعلمكما شيئا ) وكانوا يقصدون بذلك أنهم سيؤدبون ذينك الإسرائيليين على جرأتهما . كان هذا التحدي هو العلامة التي كان يوناثان ورفيقه قد اتفقا عليها كدليل على أن الرب سينجحهما في مشروعهما . وإذ غابا عن أنظار الفلسطينيين واختارا طريقا سريا وعرا سار ذانك المحاربان صاعدين إلى قمة صخرة كان الأعداء يعتبرون أنه لا يمكن لأحد الوصول إليها ، فلم تكن محروسة حراسة قوية . وهكذا اخترقا معسكر العدو وقتلا الحراس الذين إذ غلبتهم المفاجأة والخوف لم يبدوا أية مقاومة .AA 559.4
كان ملائكة السماء يحمون يوناثان وتابعه وقد حاربوا معهما ، فسقط الفلسطينيون أمامهما . وقد ارتجت الأرض كما لو أن جمهورا غفيرا معهم فرسان ومركبات يقترب منهم ، فرأى يوناثان دلائل مساعدة الـلــه له ، وحتى الفلسطينيون عرفوا أن الـلــه يعمل لخلاص إسرائيــل ، فاستولى الخوف العظيم على الجيش في الحقل وفي المعسكر ، ووسط الشغب والتشويش ، إذ ظن الفلسطينيون أن جنودهم هم جنود العدو ، بدأوا يقتلون بعضهم بعضا .AA 560.1
وسرعان ما وصلت ضجة الحرب إلى آذان الإسرائيليين ، فأعلن مراقبو الملك شاول عن وجود ارتباك عظيم في محلة الفلسطينيين وأن أعدادهم كانت تتناقص ، غير أنه لم يكن أحد يعرف أن بعض أفراد الجيش العبراني قد تركوا المعسكر . وبعد البحث والاستقصاء وجد أن جميع أفراد الجيش في أماكنهم ما عدا يوناثان وحامل سلاحه . وإذ رأى شاول جنود الفلسطينيين منهزمين قاد جيشه لك للاشتباك معهم . ثم أن العبرانيين الذين كانوا قد هربوا إلى الأعداء ارتدوا الآن يهاجمونهم ، كما خرج عدد غفير من مخابئهم . وبينما هرب الفلسطينيون مندحرين ، جعل بيش إسرائيــل يعمل في أولـئــك الهاربين ضربا وتقتيلا .AA 560.2
ولكي يستفيد شاول من هذه الميزة أعظم استفادة نهى جنوده ، بكل طياشة ، عن تناول أي طعام طول ذلك اليوم ، ثم دعم أمره هذا بلعنة خطيرة إذ قال : ( ملعون الرجل الذي يأكل خبزا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي ) كانت النصرة قد تمت بدون علم شاول أو تعاونه ، ولكنه أراد لنفسه الشهرة بإهلاك الجيش المنهزم إهلاكا تاما . كان الدافع له على تحريم الطعام هو طموحه النفسي إلى العظمة ، وقد برهن على عدم اكتراثه لحاجات شعبه ما دام أن تلك الحاجات تتعارض مع رغبت في تعظيم ذاته . وكون شاول قد ثبت نهيه بذلك القسم المقدس الخطير برهن على تهوره وفساده . بل إن نــفـــس كلمات اللعنة تبرهن على أن غيرة شاول كانت لأجل نفسه لا لأجل كرامة الـلــه . فهو لم يقل : ( حتى ينتقم الرب من أعدائه ) بل : ( حتى أنتقم من أعدائي ) .AA 560.3
ذلك النهي ساق الشعب إلى تحدي أمر الـلــه ، حيث كانوا مشغولين في الحرب طول اليوم ، وكانوا متعبين وخائرين بسبب الجوع . إذ حالما انتهت ساعات الصوم ، وقعوا على الغنيمة ، وجعلوا يأكلون الدم مع اللحم . وبذلك نقضوا الشريعة التي تحرم أكل الدم .AA 561.1
وفي أثناء معركة ذلك اليوم حدث أن يوناثان الذي لم يسمع أمر الملك أخطأ بغير علم ، إذ أكل قليلا من العسل بينما كان مارا في إحدى الغابات . فلما علم شاول بهذا في السماء أعلن أن مخالفة أمره سيكون قصاصها الموت . ومع أن يوناثان لم يكن قد أخطأ عن عمد ، ومع أن الـلــه قد حفظ حياته بكيفية عجائبية وصنع بيده ذلك الخلاص ، فقد أعلن الملك أنه لا بد من تنفيذ الحكم ، إذ لو أبقى شاول على حياة ابنه لاعتبر ذلك اعترافا منه بأنه قد أخطأ في النطق بذاك القسم الطائش ، وفي هذا إذلال لكبريائه . ثم نطق الملك بذلك الحكم المخيف قائـلاً : ( هكذا يفعل الـلــه وهكذا يزيد إنك موتا تموت يا يوناثان ) .AA 561.2
إن شاول لم يكن يستطيع أن يدعي لنفسه شرف الانتصار ، ولكنه كان يرجو أن يحصل على الكرامة لكونه قــــد احتفظ بقدسية قسمه . فأراد أن يثبت في أذهان رعاياه حقيقة كون سلطة الملك ينبغي أن تظل مصونة حتى ولو ضحى بابنه . وفي الجلجال ، ومنذ عهد قريب ، انتحل شاول لنفسه وظيفة الكاهن مخالفا بذلك أمر الرب . وعندما وبخه صموئيل على ذلك برر نفسه في عناد . أما الآن فحين خولف أمره -مع أنه كان أمرا غير معقول ، وكانت المخالفة بغير علم - حكم ذلك الملك الأب على ابنه بالموت .AA 561.3
ولكن جموع الشعب رفضوا السماح للملك بتنفيذ ذلك الحكم ، وإذ تحدوا غضب الملك قالوا : ( أيموت يوناثان الذي صنع هذا الخلاص العظيم في إسرائيــل ؟ حاشا ! حي هو الـــرب ، لا تسقط شعرة من رأسه إلى الأرض لأنه مع الله عمل هذا اليوم ) ولم يستطع الملك المتكبر أن يستخف بذلك القرار الإجماعي فحفظت حياة يوناثان .AA 561.4
أحس شاول أن ابنه قد فضل عليه بواسطة الشعب وبواسطة الرب ، وأن نجاة يوناثان كانت توبيخا قاسيا لتهور الملك ، فخالجه إحساس داخلي بأن لعناته سترتد على رأسه . ولم يعد يواصل الحرب ضد الفلسطينيين بعد ذلك ، بل رجع إلى بيته عابسا ساخطا .AA 562.1
إن أولئك الذين هم أكثر الناس استعدادا للاعتذار عن خطاياهم أو تبرير أنفسهم ، هم في غالب الأحيان أقسى الناس في الحكم على الآخرين وإدانتهم . إن كثيرين كشاول يجلبون على أنفسهم سخط الـلــه ، ولكنهم يرفضون النصح ويحتقرون التوبيخ . ومع اقتناعهم بأن الرب ليس معهم فهم لا يريدون أن يروا في أنفسهم سببا لضيقاتهم ومتاعبهم . إنهم ينمون في داخلهم روح الكبرياء والافتخار ، وهم في نــفـــس الوقت يمعنون في حكمهم الجائر وتوبيخهم الصارم للآخرين الذين هم أفضل منهم ، فيحسن بأولئك الذين قد أقاموا أنفسهم قضاة أن يتأملــوا في هذه الكلمات التي قد نطق بها المسيح حين قال : “بالدينونة التي بها تدينون تدانون ، وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ) (متى 7 : 2) .AA 562.2
وما يحدث غالبا هو أن أولئك الذين يحاولون تعظيم أنفسهم يرضعون في مراكز تكشف عن خلقهم الحقيقي . كذلك كانت الحال مع شاول ، فإن مسلكه أقنع الشعب بأن كرامة الملك وسلطانه أغلى في نظره من العدل أو الرحمة أو الإحسان . وهكذا اقتنع الشعب بخطئهم في رفض حكم الـلــه . لقد استبدلوا بالنبي التقي (صموئيل) الذي استمطرت صلواته البركات ، ملكا استمطر عليهم اللعنات في غيرته العمياء .AA 562.3
ولولا أن رجال إسرائيل توسطوا لإنقاذ حياة يوناثان لكان منقذهم قد هلك بناء على قرار الملك . ما أشد الهواجس والشكوك التي بها اتبع الشعب قيادة شاول بعد ذلك ! وما كان أمر الفكر بأنه قد أجلس على العرش بناء على طلبهم هم ! إن الرب يحتمل عصيان الناس طويلا ويقدم للجميع فرصة فيها يرون خطاياهم ويتركونها . ولكن في حين يبدو أنه ينجح أولئك الذين يستخفون بإرادته ويحتقرون إنذاراته ، فإنه في وقته المعين لا بد من أن يظهر جهالتهم .AA 562.4
* * * * *