الفصل الحادي والعشرون—يوسف وإخوته
الاباء والانبياء
- Contents- المقدمة
- الديباجة
- الفصل الاول—كيف دخلت الخطية
- الفصل الثاني—الخلق
- الفصل الثالث—التجربة والسقوط
- الفصل الرابع—تدبير الفداء
- الفصل الخامس—امتحان قايين وهابيل
- الفصل السادس—شيث واخنوخ
- الفصل السابع—الطوفان
- الفصل الثامن—بعد الطوفان
- الفصل التاسع—الأسبوع الحرفي
- الفصل العاشر—برج بابل
- الفصل الحادي عشر—دعوة إبراهيم
- الفصل الثاني عشر—إبراهيم في كنعان
- الفصل الثالث عشر—محكّ الإيمان
- الفصل الرابع عشر—هلاك سدوم
- الفصل الخامس عشر—زواج إسحاق
- الفصل السادس عشر—يعقوب وعيسو
- الفصل السابع عشر—هروب يعقوب ومنفاه
- الفصل الثامن عشر—ليلة الصراع
- الفصل التاسع عشر—الرجوع إلى كنعان
- الفصل العشرون—يوسف في مصر
- الفصل الحادي والعشرون—يوسف وإخوته
- الفصل الثاني والعشرون—موسى
- الفصل الثالث والعشرون—ضربات مصر
- الفصل الرابع والعشرون—الفصح
- الفصل الخامس والعشرون—الخروج
- الفصل السادس والعشرون—من بحر سوف إلى سيناء
- الفصل السابع والعشرون—إعطاء الشريعة
- الفصل الثامن والعشرون—عبادة الأوثان في سيناء
- الفصل التاسع والعشرون—عداء الشيطان للشريعة
- الفصل الثلاثون—الخيمة وخدماتها
- الفصل الحادي والثلاثون—خطية ناداب وأبيهو
- الفصل الثاني والثلاثون—الشريعة والعهدان
- الفصل الثالث والثلاثون —من سيناء إلى قادش
- الفصل الرابع والثلاثون —الجواسيس الاثنا عشر
- الفصل الخامس والثلاثون—عصيان قورح
- الفصل السادس والثلاثون —في البرية
- الفصل السابع والثلاثون —الصخرة المضروبة
- الفصل الثامن والثلاثون—الدوران حول أدوم
- الفصل التاسع و الثلاثين—غزو باشان
- الفصل الأربعون—بلعام
- الفصل الحادي والأربعون—الارتداد عن الأردن
- الفصل الثاني والأربعون—تكرار الشريعة
- الفصل الثالث والأربعون—موت موسى
- الفصل الرابع والأربعون—عبور الأردن
- الفصل الخامس والأربعون—سقوط أريحا
- الفصل السادس والأربعون—البركات واللعنات
- الفصل السابع والأربعون—التحالف مع الجبعونيين
- الفصل الثامن والأربعون—تقسيم كنعان
- الفصل التاسع والأربعون—كلمات يشوع الأخيرة
- الفصل الخمسون—العشور والتقدمات
- الفصل الحادي والخمسون—رعاية الله للفقراء
- الفصل الثاني والخمسون—الأعياد السنوية
- الفصل الثالث والخمسون—القضاة الأولون
- الفصل الرابع والخمسون—شمشون
- الفصل الخامس والخمسون—الصبي صموئيــل
- الفصل السادس والخمسون—عالي وبنوه
- الفصل السابع والخمسون—الفلسطينيون يستولون علي التابوت
- الفصل الثامن والخمسون—مدارس الأنبياء
- الفصل التاسع والخمسون—أول ملوك إسرائيل
- الفصل الستون— تصلف شاول
- الفصل الحادي والستون—رفض شاول
- الفصل الثانى والستون —مسح داود
- الفصل الثالث والستون —داود وجليات
- الفصل الرابع والستون— داود المطارد
- الفصل الخامس والستون—شهامة داود وصفحه
- الفصل الرابع والستون—موت شاول
- الفصل السابع والستون—العرافة قديما وحديثا
- الفصل الثامن والستون—داود في صقلع
- الفصل التاسع والستون—داود يدعى لاعتلاء العرش
- الفصل السبعون—مُلك داود
- الفصل الحادي والسبعون—خطية داود وتوبته
- الفصل الثاني والسبعون—تمرد أبشالوم
- الفصل الثالث والسبعون— سنو حياة داود الأخيرة
Search Results
- Results
- Related
- Featured
- Weighted Relevancy
- Content Sequence
- Relevancy
- Earliest First
- Latest First
- Exact Match First, Root Words Second
- Exact word match
- Root word match
- EGW Collections
- All collections
- Lifetime Works (1845-1917)
- Compilations (1918-present)
- Adventist Pioneer Library
- My Bible
- Dictionary
- Reference
- Short
- Long
- Paragraph
No results.
EGW Extras
Directory
الفصل الحادي والعشرون—يوسف وإخوته
حالما بدأت سنو الشبع بدأ معها التأهب للمجاعة القادمة ، وبموجب تعليمات يوسف بنيت مخازن واسعة جدا في كل الأماكن الرئيسية في كل أرض مصر ، وعملت الترتيبات الكافية لحفظ الفائض من المحصول المنتظر . وقد اتبعت هذه الترتيبات نفسها مدة سبع سني الشبع ، إلى أن غدت كميات القمح المخزونة فوق كل حصر .AA 192.1
والآن بدأت سبع سني الجوع كما تنبأ يوسف . ( فكان جوع في جميع البلدان . وأمّا جميع أرض مصر فكان فيها خبز . ولمّا جاعت جميع أرض مصر وصرخ الشّعب إلى فرعون لأجل الخبز ، قال فرعون لكلّ المصريّين : «اذهبوا إلى يوسف ، والّذي يقول لكم افعلوا» . وكان الجوع على كلّ وجه الأرض ، وفتح يوسف جميع ما فيه طعام وباع للمصريّين ) (تكوين 41 : 54 - 56 والإصحاحات 42 — 50) .AA 192.2
وامتدت المجاعة حتى شملت أرض كنعان ، وأحس الناس بشدة وطأتها ، خصوصا في المكان الذي كان يعقوب ساكنا فيه . فإذ سمعوا عن وجود مؤونة كثيرة اختزنها ملك مصر سافر عشرة من أولاد يعقوب إلى هناك ليشتروا قمحا ، فلما وصلوا إلى هناك أخذوا إلى نائب الملك ، حيث مثلوا أمام سيد الأرض مع آخرين من طالبي القمح ، ( وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض ... وعرف يوسف إخوته ، وأمّا هم فلم يعرفوه ) إذ أبدل اسمه العبراني بالاسم الجديد الذي أطلقه عليه الملك ، ولم يكن هنالك غير قليل من الشبه بين رئيس وزراء مصر وذلك الفتى الذي كانوا قد باعوه للإسماعيليين . وحين رأى يوسف إخوته ينحنون ويسجدون أمامه ذكر أحلامه وظهرت أمامه صور الماضي واضحة وجلية . تفحصتهم عينه الحادة البصر فاكتشف أن بنيامين ليس بينهم ، فهل سقط هو الآخر فريسة لغدر أولئك القوم المتوحش وقسوتهم فإذ عزم على معرفة الحقيقة قال لهم بحزم : ( جواسيس أنتم ! لتروا عورة الأرض جئتم ) .AA 192.3
فقالوا له : ( لا يا سيّدي ، بل عبيدك جاءوا ليشتروا طعاما . نحن جميعنا بنو رجل واحدٍ . نحن أمناء ، ليس عبيدك جواسيس ) ثم أراد أن يعلم هل كانت روحهم هي نفس الروح المتغطرسة التي عهدها فيهم حين كان معهم ، كما أراد أن يعرف منهم بعض المعلومات الخاصة ببيتهم ، ومع ذلك فربما كانت روايتهم مضللة . فلما كرر التهمة أجابوه قائلين : ( عبيدك اثنا عشر أخا . نحن بنو رجل واحدٍ في أرض كنعان . وهوذا الصّغير عند أبينا اليوم ، والواحد مفقود ) .AA 193.1
فإذ أخبرهم الحاكم أنه يشك في صدق روايتهم ، وأنه لا يزال يعتبرهم جواسيس أعلن أنه يريد أن يمتحن صدق كلامهم بأن يأمرهم بالبقاء في مصر إلى أن يذهب واحد منهم وينزل إليه بأخيهم الصغير ، فإذا لم يرضوا بذلك فلا بد من معاملتهم كجواسيس . ولكن أولاد يعقوب لم يوافقوا على هذا التدبير ، لأن الوقت اللازم لتنفيذه قد يجعل عائلاتهم تقاسي احتياجا إلى الطعام ومن منهم هو الذي يشرع في ذلك السفر وحده ، تاركا إخوته في السجن ؟ كيف يستطيع أن يقابل أباه في مثل تلك الظروف وقد تراءى لهم أنهم قد يقتلون أو يصيرون عبيدا ، ولو أتى بنيامين فقد يشاركهم في مصيرهم التعس ، ولذلك عزموا على أن يبقوا معا ويتألموا معا ، فذلك أفضل عن أن يجلبوا على أبيهم أحزانا جديدة بخسارته ابنه الوحيد الباقي . ولهذا ألقى بهم في السجن ، حيث ظلوا ثلاثة أيام .AA 193.2
في خلال السنين التي مرت منذ افترق يوسف عن إخوته حصل تغيير في أخلاقهم . كانوا قبلا حسودين وثائرين ومخادعين وقساة ومحبين للانتقام ، أما الآن بعدما محصتهم التجارب والضيقات والمشقات فقد تبرهن أنهم منكرون لذواتهم وأمناء بعضهم لبعض ومكرسون لأبيهم . ومع أنهم كانوا رجالا في منتصف العمر فقد كانوا خاضعين لسلطان أبيهم .AA 193.3
كانت الثلاثة الأيام التي قضوها في سجن مصر أيام حزن مرير عليهم ، لأن أولئك الإخوة تذكروا خطاياهم الماضية ، فإذا لم يجيئوا ببنيامين صدقت التهمة الموجهة إليهم على أنهم جواسيس ، وكان أملهم ضعيفا في أن أباهم سيسمح لهم بأخذ بنيامين معهم . وفي اليوم الثالث أمر يوسف بإحضار الإخوة إليه إذ لم يجرؤ على تعويقهم أكثر من ذلك ، فلا بد من أن أباه وكل العائلات التي معه يقاسون آلام الجوع . فقال لهم : ( افعلوا هذا واحيوا . أنا خائف الله . إن كنتم أمناء فليحبس أخ واحد منكم في بيت حبسكم ، وانطلقوا أنتم وخذوا قمحا لمجاعة بيوتكم . وأحضروا أخاكم الصّغير إليّ ، فيتحقّق كلامكم ولا تموتوا ) فأجمع رأيهم على قبول هذا الاقتراح ، وإن كانوا قد عبروا عن ضعف أملهم في أن أباهم سيرضى بإرسال بنيامين معهم . وكان يوسف يتحدث إليهم عن طريق ترجمان ، فإذ كانوا يظنون أن الحاكم ليس فاهما كلامهم جعلوا يتحدثون معا بكل حرية في حضوره . وقد أنحوا باللائمة على أنفسهم في معاملتهم ليوسف ، ( وقالوا بعضهم لبعضٍ : حقّا إنّنا مذنبون إلى أخينا الّذي رأينا ضيقة نفسه لمّا استرحمنا ولم نسمع . لذلك جاءت علينا هذه الضّيقة ) فقال رأوبين الذي كان قد أعد خطة لإنقاذ أخيه في دوثان . ( ألم أكلّمكم قائلا : لا تأثموا بالولد ، وأنتم لم تسمعوا ؟ فهوذا دمه يطلب ) فإذ كان يوسف يصغي إلى ما قالوا لم يستطع أن يضبط عواطفه فخرج إلى خارج وبكى . فلما عاد إليهم أمر بتقييد شمعون أمام عيونهم ووضعه في السجن . إنهم حين كانوا يعاملون أخاهم بقسوة كان شمعون هو المحرض والعامل الأكبر في إيذاء أخيه ، ولأجل هذا السبب وقع الاختيار عليه .AA 193.4
وقبلما سمح يوسف لإخوته بالسفر أصدر تعليماته بأن يعطى لهم قمح وأن توضع فضة كل واحد منهم سرا في فم عدله ، وأن يعطوا علفا لدوابهم في طريق عودتهم إلى وطنهم ، ففي طريق عودتهم إذ كان أحدهم يفتح عدله ليعطي عليقا لحماره أدهشه أنه رأى صرة الفضة ، وإذ أخبر الباقين بذلك خافوا وارتعدوا وطارت قلوبهم ، وقال الواحد للآخر : ( ما هذا الّذي صنعه الله بنا ؟ ) فهل يعتبرون هذا دليلا على إحسان الله إليهم ، أم أنه سمح بحدوث هذا قصاصا لهم على خطاياهم ليغوصوا إلى أعماق الشقاء ؟ لقد اعترفوا أن الله قد رأى خطاياهم وها هو يعاقبهم عليها .AA 194.1
وكان يعقوب ينتظر عودة بنيه بفارغ صبر ، فلما وصلوا تجمهر حولهم كل من في المحلة حين سمعوهم يقصون على أبيهم كل ما حدث لهم . فامتلأت كل القلوب خوفا وفزعا ، إذ بدا لهم كأن تصرف الحاكم المصري يدل على سوء النية . ومما حقق مخاوفهم أنهم حين فتحوا عدالهم وجد كل منهم فضته في فم عدله . فصاح أبوهم الشيخ يقول في حزن : ( أعدمتموني الأولاد . يوسف مفقود ، وشمعون مفقود ، وبنيامين تأخذونه . صار كلّ هذا عليّ ) فأجابه رأوبين قائلا : ( اقتل ابنيّ إن لم أجئ به إليك . سلّمه بيدي وأنا أردّه إليك ) فهذا الكلام الدال على الطيش لم يفرج بال يعقوب ، فكان جوابه : ( لا ينزل ابني معكم ، لأنّ أخاه قد مات ، وهو وحده باق . فإن أصابته أذيّة في الطّريق الّتي تذهبون فيها تنزلون شيبتي بحزنٍ إلى الهاوية ) .AA 194.2
ولكن الجوع طال أمده ، وبمرور الوقت كادت تنفد كمية القمح التي أتوا بها من مصر . كان أولاد يعقوب يعلمون أنهم عبثا يعودون إلى مصر بدون بنيامين ، وكان أملهم ضعيفا في زحزحة أبيهم عن عزمه ، فانتظروا النتيجة وهم صامتون . وقد ظهر شبح المجاعة الهائلة القادمة عليهم بكل وضوح ، وعلى الوجوه القلقة في تلك المحلة قرأ الشيخ نبأ حاجتهم ، وأخيرا قال لهم ( ارجعوا اشتروا لنا قليلا من الطّعام).AA 195.1
فأجابه يهوذا قائلا : ( إنّ الرّجل قد أشهد علينا قائلا : لا ترون وجهي بدون أن يكون أخوكم معكم . إن كنت ترسل أخانا معنا ، ننزل ونشتري لك طعاما ، ولكن إن كنت لا ترسله لا ننزل . لأنّ الرّجل قال لنا : لا ترون وجهي بدون أن يكون أخوكم معكم ) . وإذ رأى يهوذا أن أباه قد بدا يتراجع عن عزمه أضاف قائلا : ( أرسل الغلام معي لنقوم ونذهب ونحيا ولا نموت ، نحن وأنت وأولادنا جميعا ) ثم تطوع بأن يكون ضامنا لأخيه وأن يتحمل اللوم إلى الأبد إذا أخفق في إعادة بنيامين إلى أبيه.AA 195.2
لم يستطع يعقوب أن يمانع أكثر من ذلك ، فأوصى أولاده بالتأهب للسفر ، وأمرهم بأخذ هدية معهم ليقدموها للحاكم ، هدية مما يمكن استخلاصه من تلك الأرض التي قد ضربها الجوع ( قليلا من البلسان ، وقليلا من العسل ، وكثيراء ولاذنا وفستقا ولوزا ) كما أمرهم بأخذ فضة مضاعفة ، ثم قال لهم : ( وخذوا أخاكم وقوموا ارجعوا إلى الرّجل ) وإذ كانوا مزمعين أن يشرعوا في تلك الرحلة المشكوك فيها نهض أبوهم الشيخ ورفع يديه إلى السماء ونطق بهذه الصلاة . ( والله القدير يعطيكم رحمة أمام الرّجل حتّى يطلق لكم أخاكم الآخر وبنيامين . وأنا إذا عدمت الأولاد عدمتهم ) .AA 195.3
ساروا في رحلتهم عائدين إلى مصر ومثلوا أمام يوسف ، فحالما وقع نظره على بنيامين ، ابن أمه ، تأثر تأثرا عميقا ، ومع ذلك أخفي عواطفه وأمر بأن يؤخذوا إلى بيته ، وأن تعمل الترتيبات اللازمة ليتغدوا معه . وفيما هم ذاهبون إلى بيت الحاكم خاف أولئك الإخوة خوفا عظيما ، إذ ظنوا أنهم سيحاسبون على الفضة التي وجدت في عدالهم ، وخطر لهم أنه ربما تكون الفضة قد وضعت في عدالهم عن عمد لتلفيق تهمة ضدهم بموجبها يؤخذون عبيدا . ففي ضيقهم تكلموا مع وكيل بيت يوسف ، وقصوا عليه الظروف التي اضطرتهم للمجيء إلى مصر ، وبرهانا على براءتهم أخبروه بأنهم ردوا الفضة التي وجدوها في عدالهم ، كما أحضروا فضة أخرى ليشتروا طعاما ، وقالوا أيضا : ( لا نعلم من وضع فضّتنا في عدالنا ) فأجابهم الرجل قائلا : ( سلام لكم ، لا تخافوا . إلهكم وإله أبيكم أعطاكم كنزا في عدالكم . فضّتكم وصلت إليّ ) فزايلهم الانزعاج ، ولما انضم إليهم شمعون بعد ما أخرج من السجن أحسوا أن الله رحيم بهم حقا .AA 195.4
ولما قابلهم الحاكم مرة أخرى أحضروا إليه الهدية ( وسجدوا له إلى الأرض ) ومرة أخرى تذكر يوسف أحلامه . وبعدما سلم على ضيوفه أسرع يسأل : ( أ سالم أبوكم الشّيخ الّذي قلتم عنه ؟ أحيّ هو بعد ؟ فقالوا : عبدك أبونا سالم . هو حيّ بعد ) ثم وقعت عينيه على بنيامين فقال أهذا أخوكم - الصغير الذي قلتم لي عنه . ثم قال ( الله ينعم عليك يا ابني ) ولكن عواطف حنوه غلبته فلم يستطع أن يقول شيئا آخر ، ( فدخل المخدع وبكى هناك ) .AA 196.1
بعدما ضبط عواطفه وتجلد عاد إليهم ثم تقدموا جميعا إلى مائدة الوليمة . وبموجب قانون الطبقات كان محرما على المصريين أن يأكلوا مع أي أناس من أمة أخرى ، ولذلك كان لبني يعقوب مائدة خاصة بهم ، كما جلس الحاكم وحده نظرا لسمو مركزه ، وقد جلس المصريون على موائد أخرى وحدهم . فلما جلس الجميع اندهش الإخوة لأنهم انتظموا في جلستهم بموجب النظام المضبوط حسب أعمارهم ، ( ورفع حصصا من قدّامه إليهم ) أما حصة بنيامين فكانت أكثر من حصص جميعهم خمسة أضعاف . فبهذا التفضيل الذي به ميز بنيامين أراد يوسف أن يتحقق هل كانوا سيحسدون أخاهم الأصغر ويبغضونه كما قد فعلوا به هو أم لا . وإذ كانوا لا يزالون يظنون أن يوسف لا يفهم كلامهم جعلوا يتحدثون معا بكل حرية ، وهكذا كانت لديه فرصة عظيمة لمعرفة مشاعرهم الحقيقية . وإذ أراد أن يمتحنهم امتحانا آخر ، أمر قبل سفرهم أن يوضع طاسه الخاص الذي يشرب فيه ، طاس الفضة سرا في عدل أخيهم الأصغر .AA 196.2
بكل فرح واغتباط عادوا في طريقهم إلى وطنهم ، وكان معهم شمعون وبنيامين ، وساقوا أمامهم دوابهم المحملة بالقمح وهم جميعا يحسون أنهم قد نجوا من كل المخاطر المحدقة بهم . ولكن ما أن وصلوا إلى أطراف المدينة حتى أدركهم وكيل الحاكم وقال لهم تلك الكلمة الجارحة : ( لماذا جازيتم شرّا عوضا عن خيرٍ ؟ أليس هذا هو الّذي يشرب سيّدي فيه ؟ وهو يتفاءل به . أسأتم في ما صنعتم ) قيل أن ذلك الطاس كانت فيه خاصية عجيبة وهي اكتشاف أي مادة سامة توضح فيه . وفي تلك العصور كانت مثل تلك الكأس غالية القيمة جدا ، إذ كانت تقي صاحبها من الموت بالسم .AA 196.3
فأجاب أولئك المسافرون الوكيل بقولهم : ( لماذا يتكلّم سيّدي مثل هذا الكلام ؟ حاشا لعبيدك أن يفعلوا مثل هذا الأمر ! هوذا الفضّة الّتي وجدنا في أفواه عدالنا رددناها إليك من أرض كنعان . فكيف نسرق من بيت سيّدك فضّة أو ذهبا ؟ الّذي يوجد معه من عبيدك يموت ، ونحن أيضا نكون عبيدا لسيّدي ) .AA 197.1
فقال الوكيل : ( نعم ، الآن بحسب كلامكم هكذا يكون . الّذي يوجد معه يكون لي عبدا ، وأمّا أنتم فتكونون أبرياء ) .AA 197.2
وبدأ التفتيش في الحال ( فاستعجلوا وأنزلوا كلّ واحدٍ عدله إلى الأرض ، وفتحوا كلّ واحدٍ عدله ) ففتش الوكيل في كل عدل مبتدئا من عدل رأوببن وهكذا بالترتيب إلى أن وصل إلى عدل أخيهم الأصغر . وقد وجد الطاس في عدل بنيامين .AA 197.3
فمزق الإخوة ثيابهم علامة على منتهى الحزن والتعاسة ، ثم عادوا متباطئين إلى المدينة ، وبموجب وعدهم كان لا بد أن يصير بنيامين عبدا مدى الحياة . فتبعوا الوكيل إلى القصر ، وإذ وجدوا أن الحاكم لا يزال هناك وقعوا أمامه على الأرض ، فقال لهم : ( ما هذا الفعل الّذي فعلتم ؟ ألم تعلموا أنّ رجلا مثلي يتفاءل ؟ ) وقد قصد يوسف بهذا أن يسوقهم إلى الاعتراف بخطيتهم . إنه لم يدّع قط أن له قوة على التفاؤل ، ولكنه أراد أن يجعلهم يعتقدون أنه يستطيع أن يقرأ أسرار حياتهم الخفية .AA 197.4
فقال يهوذا : ( ماذا نقول لسيّدي ؟ ماذا نتكلّم ؟ وبماذا نتبرّر ؟ الله قد وجد إثم عبيدك . ها نحن عبيد لسيّدي ، نحن والّذي وجد الطّاس في يده جميعا ) .AA 197.5
فأجابهم بقوله : ( حاشا لي أن أفعل هذا ! الرّجل الّذي وجد الطّاس في يده هو يكون لي عبدا ، وأمّا أنتم فاصعدوا بسلامٍ إلى أبيكم ) .AA 197.6
فبحزن عميق تقدم يهوذا إلى الحاكم وصرخ قائلا : ( استمع يا سيّدي . ليتكلّم عبدك كلمة في أذني سيّدي ولا يحم غضبك على عبدك ، لأنّك مثل فرعون ) وبكلام فصيح مؤثر جدا جعل يصف حزن أبيه عند فقد يوسف ، وأنه كان يرفض رفضا باتا أن ينزل ابنه بنيامين معهم إلى مصر لأنه الابن الوحيد الباقي له من أمه راحيل التي كان يحبها أعمق الحب ، ثم قال : ( فالآن متى جئت إلى عبدك أبي ، والغلام ليس معنا ، ونفسه مرتبطة بنفسه ، يكون متى رأى أنّ الغلام مفقود ، أنّه يموت ، فينزل عبيدك شيبة عبدك أبينا بحزنٍ إلى الهاوية ، لأنّ عبدك ضمن الغلام لأبي قائلا : إن لم أجئ به إليك أصر مذنبا إلى أبي كلّ الأيّام . فالآن ليمكث عبدك عوضا عن الغلام ، عبدا لسيّدي ، ويصعد الغلام مع إخوته . لأنّي كيف أصعد إلى أبي والغلام ليس معي ؟ لئلاّ أنظر الشّرّ الّذي يصيب أبي ) .AA 197.7
اكتفى يوسف بذلك ، فلقد رأى في إخوته ثمار التوبة الحقيقية . فإذ سمع كلام يهوذا وهو يقدم ذلك العرض النبيل أمر بإخراج كل من في البيت ما عدا أولئك الرجال . ثم أطلق صوته بالبكاء وصرخ قائلا : ( أنا يوسف . أحيّ أبي بعد ؟ ) .AA 199.1
وقف إخوته بلا حراك . لقد عقد الخوف والذهول ألسنتهم عن الكلام . هل حاكم مصر هذا هو أخوهم يوسف الذي حسدوه وكانوا ينوون قتله وأخيرا باعوه بيع العبيد ! ومرت أمام عقولهم كل معاملاتهم الشريرة التي عاملوه بها . لقد ذكروا أنهم ازدروا أحلامه وحاولوا عدم تحقيقها ، ولكنهم قاموا بدورهم كاملا لتحقيقها . والآن ، وقد صاروا تحت سلطانه وفي قبضة يده ، فلا شك في أنه سينتقم منهم بسبب الظلم الذي أوقعوه عليه .AA 199.2
وإذ رأى ارتباكهم خاطبهم برفق قائلا : ( تقدّموا إليّ ) فلما تقدموا إليه تابع كلامه قائلا : ( أنا يوسف أخوكم الّذي بعتموه إلى مصر . والآن لا تتأسّفوا ولا تغتاظوا لأنّكم بعتموني إلى هنا ، لأنّه لاستبقاء حياةٍ أرسلني الله قدّامكم ) وإذ أحس بأنهم قاسوا ما فيه الكفاية لأجل قسوتهم عليه حاول بنبل أن يطرد مخاوفهم ويخفف من مرارة لومهم لأنفسهم .AA 199.3
فاستأنف كلامه قائلا : ( لأنّ للجوع في الأرض الآن سنتين . وخمس سنين أيضا لا تكون فيها فلاحة ولا حصاد . فقد أرسلني الله قدّامكم ليجعل لكم بقيّة في الأرض وليستبقي لكم نجاة عظيمة . فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله . وهو قد جعلني أبا لفرعون وسيّدا لكلّ بيته ومتسلّطا على كلّ أرض مصر . أسرعوا واصعدوا إلى أبي وقولوا له : هكذا يقول ابنك يوسف : قد جعلني الله سيّدا لكلّ مصر . انزل إليّ . لا تقف . فتسكن في أرض جاسان وتكون قريبا منّي ، أنت وبنوك وبنو بنيك وغنمك وبقرك وكلّ ما لك . وأعولك هناك ، لأنّه يكون أيضا خمس سنين جوعا . لئلاّ تفتقر أنت وبيتك وكلّ ما لك . وهوذا عيونكم ترى ، وعينا أخي بنيامين ، أنّ فمي هو الّذي يكلّمكم ... ) ثم وقع على عنق بنيامين أخيه وبكى . وبكى بنيامين على عنقه . وقبل جميع إخوته وبكى عليهم . وبعد ذلك تكلم إخوته معه ، وباتضاع اعترفوا بخطيتهم والتمسوا منه الصفح . لقد قاسوا طويلا من القلق وتبكيت الضمير ، وابتهجوا الآن لأنه لم يزل حيا .AA 199.4
وصلت تلك الأخبار بسرعة إلى الملك الذي إذ أراد أن يظهر شكره ليوسف وافق على دعوة الحاكم لإخوته قائلا : ( خيرات جميع أرض مصر لكم ) وقد أرسل أولئك الإخوة إلى أبيهم مزودين بمؤونة وافرة وعجلات وكل ما كان لازما لنقل كل عائلاتهم وخدمهم إلى مصر . وأعطى يوسف لبنيامين عطايا أثمن مما أعطى لسائر إخوته . وإذ كان يخشى لئلا تنشب بينهم منازعات وهم في طريق عودتهم إلى وطنهم ، وإذ أوشكوا على السفر قدم لهم هذه النصيحة : ( لا تتغاضبوا في الطّريق ) .AA 200.1
فعاد بنو يعقوب إلى أبيهم بهذا الخبر المفرح ، ( يوسف حيّ بعد ، وهو متسلّط على كلّ أرض مصر . فجمد قلبه لأنّه لم يصدّقهم . ثمّ كلّموه بكلّ كلام يوسف الّذي كلّمهم به ، وأبصر العجلات الّتي أرسلها يوسف لتحمله . فعاشت روح يعقوب أبيهم . فقال إسرائيل : كفى ! يوسف ابني حيّ بعد . أذهب وأراه قبل أن أموت ) .AA 200.2
بقي للإخوة العشرة عمل آخر من أعمال التذلل والانسحاق . فها هم الآن يعترفون لأبيهم بكذبهم وقسوتهم التي مررت حياته وحياتهم طوال تلك السنين . ولم يكن يعقوب يظن أنهم سينحدرون إلى تلك الدركة من السفالة بارتكابهم لتلك الخطية ، ولكنه إذ رأى أن الله المتسلط على كل الأحداث قد حول ذلك الشر إلى خير غفر لأولاده المخطئين وباركهم .AA 200.3
بعد قليل سار الأب وأولاده وعائلاتهم وغنمهم وبقرهم وخدمهم الكثيرون متجهين إلى مصر . وتابعوا سيرهم بقلوب يغمرها الفرح . ولما وصلوا إلى بئر سبع قدم الأب الشيخ ذبائح شكر وتوسل إلى الله أن يؤكد لهم أنه سيذهب معهم . فجاءت إليه كلمة الله في رؤى الليل تقول له : ( لا تخف من النّزول إلى مصر ، لأنّي أجعلك أمّة عظيمة هناك . أنا أنزل معك إلى مصر ، وأنا أصعدك أيضا ) .AA 200.4
إن هذا الوعد : ( لا تخف من النّزول إلى مصر ، لأنّي أجعلك أمّة عظيمة هناك ) كان وعدا له دلالته . لقد أعطي الوعد لإبراهيم بأن نسله سيكون كثيرا جدا كنجوم السماء ، ولكن إلى ذلك الحين كانت تلك الأمة المختارة قد نمت نموا بطيئا ، ولم تكن أرض كنعان حينئذٍ تصلح لأن تكون ميدانا لنمو تلك الأمة كما سبقت النبوات . فلقد كانت كنعان تحت سيطرة قبائل قوية لم يكن ممكنا انتزاع الأرض منهم إلى الجيل الرابع (تكوين 16 : 15) . فإذا كان نسل إسرائيل سيصيرون أمة عظيمة في كنعان ، فإما أن يطردوا سكان البلاد وهذا ما لم يكونوا يستطيعون عمله كما قال لهم الله أو يتفرقوا بينهم ، ولكن لو أنهم اختلطوا بالكنعانيين فذلك يجعلهم يتعرضون لغوايات الأشرار ، فيشاركونهم في عبادة الأوثان . أما مصر فقد قدمت لهم الشروط اللازمة لإتمام قصد الله . فلقد سمح لهم بالنزول في جزء من الأرض كله ري وخصب وبذلك قدمت لهم فرصة للنمو السريع . أما النفور والكراهية التي ستبدو من المصريين نحوهم بسبب صناعتهم ( لأنّ كلّ راعي غنمٍ رجس للمصريّين ) هذا النفور سيساعدهم على أن يظلوا شعبا خاصا منعزلا ، ويباعد بينهم وبين مشاركة المصرين في عبادة الأوثان .AA 200.5
حالما وصلت تلك الجماعة إلى مصر تقدموا مباشرة إلى أرض جاسان ، وإلى هناك أتى يوسف في مركبته الرسمية يتبعه موكب لائق بأمير . لقد نسي يوسف جلال بيئته وعظمة مركزه ، ولكن فكرا واحدا شغل عقله وشوقا واحدا طاغيا اهتز له كيانه . فإذ أبصر أولئك المسافرين مقبلين عليه لم يعد يستطيع السيطرة على تلك الأشواق التي ظلت محتبسة في داخله سنين هذا عددها ، فقفز من مركبته وأسرع متقدما للترحيب بأبيه ، حيث ( وقع على عنقه وبكى على عنقه زمانا . فقال إسرائيل ليوسف : «أموت الآن بعد ما رأيت وجهك أنّك حيّ بعد» ( .AA 201.1
ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته ليوقفهم أمام فرعون وليحصلوا على هبة الأرض التي سيسكنون فيها . وقد كان الملك يريد أن يكرم أولئك الرجال بتعيينهم في وظائف حكومية اعترافا منه بفضل رئيس وزرائه ، ولكن يوسف الذي كان أمينا في عبادته لله أراد أن يجنب إخوته التجارب التي سيتعرضون لها في بلاط الملك الوثني ، لذلك نصح لإخوته بأنه متى سألهم الملك أن يجيبوه بكل صراحة عن حرفتهم . وعمل أولاد يعقوب بنصيحة أخيهم كما حرصوا على أن يقولوا أنهم قد أتوا ليتغربوا في الأرض لا ليسكنوا فيها بصفة مستديمة ، وبذلك احتفظوا بحقهم في الرحيل إن هم أرادوا . وقد عين لهم الملك مساكن وأرضا في )أفضل الارض( أي أرض جاسان .AA 201.2
وبعد وصولهم إلى مصر بقليل أتى يوسف بأبيه وقدمه إلى الملك . كان ذلك الشيخ الجليل غريبا في بلاط الملك ، ولكنه في وسط مناظر الطبيعة السامية كانت له شركته مع ملك أعظم وأقوى ، والآن ، وهو عالم بسمو مكانته رفع يديه وبارك فرعون . AA 202.1
عندما التقى يعقوب يوسف ابنه أول مرة في مصر ، تكلم يعقوب كما لو أنه بتلك النهاية المفرحة لكل مخاوفه وأحزانه الطويلة كان مستعدا للموت . ولكن سبع عشرة سنة كانت ستوهب له ليقضيها في مقر جاسان الهادئ ، وكانت هذه السنون سعيدة ومفرحة بعكس ما كانت السنون التي سبقتها . ورأى في بنيه برهانا على صدق توبتهم كما رأى عائلته محاطة بكل الظروف المساعدة على نومها حتى تصير أمة عظيمة ، وقد تمسك إيمانه بوعد الرب الأكيد باستقرارهم في كنعان . وكان هو نفسه محاطا بكل دلائل المحبة والرضى التي أمكن رئيس وزراء مصر أن يمنحها له . وإذ كان سعيدا بوجوده مع ابنه الذي كان قد فقده سنين طويلة نزل إلى قبره بسكينة وسلام.AA 202.2
لما شعر يعقوب أن يوم مماته يقترب أرسل في استدعاء يوسف . وإذ كان لا يزال متمسكا بوعد الله الخاص بامتلاكهم كنعان أوصى ابنه قائلا : ( لا تدفنّي في مصر ، بل اضطجع مع آبائي ، فتحملني من مصر وتدفنني في مقبرتهم ) فوعده يوسف بذلك ، ولكن يعقوب لم يقنع بذلك بل طلب منه أن يقسم قسما مقدسا بأن يدفنه إلى جوار آبائه في مغارة المكفيلة .AA 202.3
ثم بقيت هنالك مسأله أخرى هامة ، فإن ابني يوسف كان لا بد أن يحسبا من بني إسرائيل . فإذ كان ذلك آخر لقاء بين يسوف وأبيه أحضر معه ابنيه أفرايم ومنسى . فهذان الشابان كانا مرتبطين عن طريق أمهما بأسمى وظائف الكهنوت المصري . ثم أن مركز أبيهما فتح أمامهما موارد الثروة والشهرة لو أنهما اختارا الارتباط بالمصيريين ومع ذلك فإن رغبة أبيهما يوسف كانت أن يتحدا بشعبهما . ولقد أعلن إيمانه بهذا الموعد نيابة عن ابنيه ، رافضا كل الكرامات التي يمكن أن يقدمها البلاط المصري في مقابل مكان بين عشائر الرعاة المحتقرين الذين استؤمنوا على أقوال الله.AA 202.4
فقال يعقوب : ( الآن ابناك المولودان لك في أرض مصر ، قبلما أتيت إليك إلى مصر هما لي . أفرايم ومنسى كراو بين وشمعون يكونان لي ) كان لا بد من أن يتبناهما وأن يكون كل منهما على رأس سبط مفصل . وهكذا نجد أن أحد امتيازات البكورية التي كان رأوبين قد أضاع حقه فيها صار من حق يوسف - أي نصيب اثنين في إسرائيل .AA 202.5
كانت عينا يعقوب ضعيفتين لكبر سنه لم يفطن لوجود ذينك الشابين . أما الآن وقد تراءى له أنه رأى معالم صورتهما سأل ابنه قائلا : ( من هذان ؟ ) فإذ علم من هما قال له : ( قدمهما إلى لأباركهما ) فلما اقتربا منه احتضنهما وقبلهما ثم وضع يديه بوقار على رأسيهما مباركا إياهما ، ومن ثم قدم هذه الصلاة ، ( الله الذي سار أمامه أبواي إبراهيم وإسحاق ، الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم ، الملاك الذي خلصني من كل شر ، يبارك الغلامين ) لم يكن يرى فيه روح الاعتماد على النفس ، كلا ولا اعتمد على القوة البشرية أو المكر ، لقد كان الله هو الذي حفظه وسنده . إنه لم يتذمر على أيام الشر التي مرت به ، ولم يعتبر تجاربها وأحزانها على أنها أشياء معاكسه له ، ولم يذكر إلا رحمة الله ورأفته اللتين كانتا تلازمانه مدى أيام غربته .AA 203.1
وبعدما انتهى يعقوب من بركته أعطى ابنه يقينا ، تاركا للأجيال القادمة ، مدى سنين طويلة من العبودية والآلام والأحزان — هذه الشهادة لإيمانه ( ها أنا أموت ، ولكن الله سيكون معكم ويردكم إلى أرض آبائكم ) .AA 203.2
وفي النهاية اجتمع كل بني يعقوب حول فراش أبيهم الذي كان يحتضر . فدعا بنيه وقال لهم : ( اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب ، واصغوا إلى إسرائيل أبيكم ) )أنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام ) . ولطالما فكر في أمر مستقبلهم بخوف وجزع ، وحاول أن يرسم لنفسه صورة لتاريخ كل سبط . فالآن فيما كانوا مجتمعين حول سريره منتظرين الحصول على بركته الأخيرة حل عليه روح الوحي ، وأمامه في رؤيا نبوية انكشف له مستقبل نسله ، فجعل يذكر أسماء بنيه واحدا بعد الآخر ، ويصف أخلاق كل منهم ، ويتنبأ ، في كلمات مختصرة بتاريخ كل سبط في السنين القادمة — فقال : ( رأوبين ، أنت بكري قوتي واول قدرتي ، فضل الرفعة وفضل العز ) .AA 203.3
وهكذا صور الأب صورة لما كان يجب أن يكون عليه مركز رأوبين بوصفه الابن البكر . إلا أن خطيته الشنيعة التي ارتكبها في غدر جعلته غير مستحق لبركة البكورية . ثم استأنف يعقوب كلامه عن رأوبين قائلا : ( فائرا كالماء لاتتفضل ) .AA 203.4
لقد أعطى الكهنوت للاوي والملك والوعد بمسيا ليهوذا ، ونصيب اثنين من الميراث ليوسف . أما سبط رأوبين فلم يرتفع إلى أية درجة من الرفعة أو السمو أو الشهرة في إسرائيل . لم يكن في الكثرة كما كان سبط يهوذا أو يوسف أو دان ، وكان أول الأسباط التي أخذت في السبي .AA 204.1
بعد رأوبين يأتي شمعون ولاوي الأصغر منه سنا . لقد اتحدا معا في قسوتهما ووحشيتهما التي عاملا بها أهل شكيم ، وكان أكثر الأخوة إجراما عندما بيع يوسف عبدا . وقد أعلن عنهما أبوهما قائلا : ( أقسمهما في يعقوب ، وأفرقهما في إسرائيل).AA 204.2
وعندما عمل تعداد لإسرائيل قبيل الدخول إلى كنعان كان سبط شمعون أصغر الأسباط ، وعندما بارك موسى الشعب بركته الأخيرة لم يقل شيئا عن شمعون ، وعندما استقر الشعب في أرض كنعان لم يعط لهذا السبط غير جزء صغير من نصيب سبط يهوذا . والعائلات التي صارت قوية فيما بعد كونوا مستعمرات مختلفة وأقاموا في مقاطعات خارج حدود الأرض المقدسة . وكذلك لاوي لم يعط له ميراث ما خلا ثمانيا وأربعين مدينة متفرقة في أماكن مختلفة في البلاد . وفيما يختص بهذا السبط فإن إخلاصهم وولائهم للرب عندما ارتدت الأسباط الأخرى حفظ لهم حقهم في خدمة الهيكل المقدسة. وهكذا استحالت اللعنة إلى بركة .AA 204.3
أما أفضل وأسمى بركات البكورية فقد أعطيت ليهوذا . إن معنى اسم يهوذا هو الحمد ، وهو ينكشف لنا في التاريخ النبوي لهذا السبط إذ يقول يعقوب : ( يهوذا ، إياك يحمد إختوك يدك على قفا أعدائك ، يسجد لك بنو أبيك ، ويهوذا جرو أسد ، من فريسة صعدت يا ابني ، جثا وربض كأسد وكلبوة . من ينهضه ؟ لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجلية حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب ) .AA 204.4
إن الأسد الذي هو ملك الغابة هو رمز مناسب لهذا السبط الذي أتى منه داود وابن داود ، شيلون الذي هو ( الأسد الذي من سبط يهوذا ) الذي له ستخضع كل القوات أخيرا ، وكل الأمم ستقدم سجودها وولائها .AA 204.5
إن معظم أولاد يعقوب تنبأ لهم أبوهم بمستقبل ناجح . أخيرا وصل إلى اسم يوسف ، وحينئذ فاض قلب ذلك الأب حين استمطر البركات على ( قمة نذير إخوته : فقال ) يوسف ، غصن شجرة مثمرة ، غصن شجرة مثمرة على عين . ـغصان قد ارتفعت فوق حائط فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام . ولكن ثبتت بمتانة قوسه ، وتشددت سواعد يديه . من يدي عزيز يعقوب ، من هناك ، من الراعي صخر إسرائيل . من إله أبيك الذي يعينك ، ومن القادر على كل شيء الذي يباركك ، تأتي بركات السماء من فوق ، وبركات الغمر الرابض تحت . بركات الثدييين والرحم . بركات أبيك فاقت على بركات أبوي . إلى منية الآكام الدهرية تكون على رأس يوسف ، وعلى قمة نذير إخوته ( .AA 204.6
لقد كان يعقوب دائما إنسانا عميقا وملتهبا في محبته ، وكانت محبته لأولاده قوية ورقيقة ، وإن شهادته لهم في ساعة احتضاره لم تكن نطق إنسان محاب أو حاقد ، فلقد سامحهم جميعا وأحبهم إلى المنتهى . وإن رقته الأبوية كان يمكن أن تدفعه إلى أن يعبر عن مشاعره بكلمات التشجع والرجاء ، ومن قوة الله استقرت عليه ، وتحت تاثير الوحي الإلهي كان ملتزما أن يعلن الحق مهما كان جارحا ومؤلما .AA 205.1
وبعدما نطق يعقوب بآخر بركاته عاد يكرر وصيته لأولاده بخصوص مكان دفنه قائلا : ( أنضم إلى قومي . ادفنوني عن آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثى . في المغارة التي في حقل المكفلية .. هناك دفنوا إبراهيم وسارة امرأته . هناك دفنوا إسحاق ورفقة امرأته ، وهناك دفنت ليئة ) وهكذا كان آخر ما عمله في حياته أن أعلن إيمانه بوعد الله.AA 205.2
كانت سنو حياة يعقوب الأخيرة سني هدوء وراحة ، بعد حياة كلها اضطرابات ومتاعب ، فلقد انعقدت السحب السوداء في سماء حياته ، ومع ذلك فقد سطع نور شمسه عند غروبها وأنار نور السماء ساعاته الوداعية . والكتاب يقول : ( يحدث أنه في وقت السماء يكون نور ) (زكريا 14 : 7) . ( لاحظ الكامل وانظر المستقيم ، فإن العقب لإنسان السلامة ) )فإن نهاية ذلك الإنسان هي السلام ) (مزمور 37 : 37) .AA 205.3
لقد أخطأ يعقوب ولكنه قاسى أهوالا كثيرة . كان معظم أيام حياته أيام متاعب وهموم وأحزان منذ ذلك اليوم الذي فيه ارتكب خطيته العظيمة التي جعلته يهرب من خيام أبيه ، إذ صار هاربا بلا مأوى ، وانفصل عن أمه التي لم يرها بعد ذلك ، وخدم سبع سنين ليتزوج بالفتاة التي أحبها ، ولكنه خدع خداعا دل على منتهى النذالة ، وقضى عشرين سنة في خدمة خاله الجشع الطماع ، ورأى ثروته تربو وتزيد ، وأولاده يشبون ويكبرون من حوله ، ولكنه لم يسعد بسبب المنازعات الناشبة في عائلته المنقسمة على ذاتها ، كما حزن وتألم للعار لطخ ابنته ، وبسبب الانتقام الرهيب الذي قام به أخواها ، كما حزن لموت راحيل ، وبسبب جريمة رأويين الغير الطبيعية ، وبسبب خطية يهوذا ، وبسبب المكر والخداع الذي عومل به يوسف — يا لها من قائمة طويلة قاتمة سوداء مشحونة بالشرور الظاهرة للعيان ! إنه مرارا كثيرة حصد ثمار ذلك العمل الخاطئ الأول الذي ارتكبه ، ومرارا كثيرة رأى نفس الخطايا التي ارتكبها تتكرر في حياة أبنائه ، ولكن مع أن ذلك التأديب كان مريرا وقاسيا إلا أنه أتم عمله . إن التأديب وإن يكن جالبا للحزن إلا أنه يعطي الذين يتدربون به ( ثمر بر للسلام ) (عبرانيين 12 : 11) .AA 205.4
إن الوحي المقدس يسجل بكل أمانة أخطاء الناس الصالحين، أولئك الذين قد ميزهم الله بإحساناته ورضاه . وفي الحق أن أخطاءهم مشروحة بإسهاب أكثر من فضائلهم ، وكان هذا من أسباب دهشة الكثيرين ، كما أعطى للملحدين مجالا للسخرية بالكتاب . ولكن من أنصع البراهين على صدق كتاب الله أن الحقائق المذكورة فيه لا تعدل ولا تنمق ، وخطايا الشخصيات العظيمة فيه لم تحذف ولا أغفل ذكرها . إن عقول الناس خاضعة للتعصب إلى حد أنه من غير الممكن أن تكون التواريخ العالمية بريئة تماما من المحاباة . ولو أن كتبة الأسفار المقدسة كانوا أناسا غير موحى إليهم من الله فلا شك في أنهم كانوا يوردون أخلاق الشخصيات النبيلة فيها بصورة جميلة جذابة كاذبة . ولكن ، والكتاب على ما هو عليه الآن ، فإن لنا فيه شهادة مضبوطة لاختباراتهم .AA 206.1
إن الذين أحسن الله إليهم فأكرمهم وائتمنهم على مسؤوليات جسام انغلبوا أحيانا أمام التجربة فارتكبوا الخطية ، تماما كما نكافح نحن في أيامنا هذه ونترنح وكثيرا ما نسقط في الخطأ . فحياتهم بكل ما فيها من أخطاء وحماقات مبسوطة أمامنا لأجل تشجيعنا وإنذارنا . فلو صورهم الكتاب على أنهم معصومون من الخطأ ، فإننا بطبيعتنا الخاطئة نيأس بسبب أخطائنا وسقطاتنا . ولكن إذ نرى آخرين فد كافحوا في وسط المثبطات كما هي حالنا حيث سقطوا في التجربة كما فعلنا نحن ، ومع ذلك تشجعوا وغلبوا بنعمة الله ، فإننا نتشجع في سعينا في أثر البر . وكما كانت الحال معهم ، إذ مع كونهم انهزموا وتقهقروا فقد استردوا مواقعهم وباركهم الله فكذلك نحن أيضا يمكننا أن ننتصر بقوة يسوع . ومن ناحية أخرى يمكن أن تكون شهادة حياتهم تحذيرا لنا ، فهي ترينا أن الله لا يمكن أن يبرر الفاجر ، إنه يرى الخطية في أحب الناس إليه ، ويحاسبهم عليها بكل دقة وصرامة أكثر مما يعامل به أولئك الذين عندهم قليل من النور والمسؤولية .AA 206.2
بعد دفن يعقوب عاد الخوف يعتصر قلوب إخوة يوسف ، إذ بالرغم من رأفته ومظاهر محبته لهم فإن شعورهم بجريمتهم جعلهم متخوفين ومتطيرين . ربما هو أخّر انتقامه منهم توقيرا لأبيهم ، ولكن الآن ، قد خلا له الجو ، فلا بد من أن يصب عليهم جام انتقامه ، لأجل جريمتهم بعدما أرجأه طويلا . لم يجرؤوا على الظهور أمامه بأنفسهم فأرسلوا إليه رسالة يقولون فيها : ( أبوك أوصى قبل موته قائلا : هكذا تقولون ليوسف : آه ! اصفح عن ذنب إخوتك ، فإنهم صنعوا بك شرا . فالآن اصفح عن ذنب عبيد إله أبيك ) تأثر يوسف من هذه الرسالة أبلغ تأثر حتى أنه بكى . وإذ تشجع إخوته بهذه العواطف النبيلة أتوا ووقعوا أمامه وقالوا : ( ها نحن عبيدك ) لقد كانت محبة يوسف لإخوته عميقة ، ولا أثر فيها للأنانية ، فآلمه الفكر بأنهم يعتبرون أنه يضمر لهم الشر أو ينوي أن ينتقم منهم ، لذلك قال لهم ( لا تخافوا . لأنه هل أنا مكان الله ؟ أنتم قصدتم لي شرا ، أما الله فقصد به خيرا ، لكي يفعل كما اليو م ، ليحيي شعبا كثيرا ، فالآن لا تخافوا ، أنا أعولكم وأولادكم ) .AA 207.1
كانت حياة يوسف رمزا لحياة المسيح . فالحسد هو الذي دفع إخوة يوسف ليبيعوه بيع العبيد ، وكانوا يؤملون أن يحولوا بينه وبين التفوق عليهم . وحين أخذ إلى مصر كانوا يهنئون أنفسهم بأنه لن يعود يزعجهم بأحلامه ، بحيث استبعدوا إمكانية تحقيق تلك الأحلام . ولكن الطريق الذي انتهجوه قد سيطر عليه الله لكي يتم ذلك الشيء الذي قصدوا إحباطه . وكذلك كهنة اليهود وشيوخهم يحسدون المسيح خشية أن يجتذب إليه جماهير الشعب فينفضون من حولهم ، ولقد صلبوه وقتلوه ليحولوا بينه وبين صيرورته ملكا ، ولكنهم بعملهم هذا كانوا يساعدونه على تحقيق السيادة والملك لنفسه.AA 207.2
إن يوسف عن طريق بيعه عبدا في مصر صار مخلصا لعائلة أبيه ، ومع ذلك فهذه الحقيقة لم تخفف من هول جريمة إخوته . وهكذا إذ صلب المسيح بأيدي أعدائه صار فاديا ومخلصا لجنسنا الساقط ، وملكا على كل العالم ، ولكن جريمة قاتليه كانت شنيعة جدا كما لو أن العناية الإلهية لم تسيطر على الأحداث لمجده ولخير الانسان .AA 207.3
وكما بيع يوسف بأيدي إخوته إلى قوم وثنيين هكذا بيع المسيح لألد أعدائه بيد أحد تلاميذ. إن يوسف اتهم باطلا وطرح في السجن لأنه كان إنسانا فاضلا ، وكذلك المسيح احتقر ورذل لأن حياته البارة المنكرة لذاتها كانت توبيخا صارما للخطية. ومع أنه لم يرتكب ظلما ولا هفا هفوة فقد حكم عليه بالموت بناء على شهادة شهود الزور . ثم أن صبر يسوف ووداعته وهو يواجه الظلم والتعسف ، وغفرانه السريع وإحسانه النبيل لإخوته المخادعين — كل هذا يرمز إلى احتمال المخلص ، في غير تذمر أو شكوى حقد الأشرار وافتراءاتهم وإهاناتهم ، وغفرانه ليس فقط لقاتليه بل أيضا لكل من يأتون إليه معترفين بخطاياهم وطالبين الغفران .AA 207.4
لقد عاش يوسف أربعا وخمسين سنة بعد موت أبيه. عاش ليرى أولاد أفرايم إلى الجيل الثالث ، كما أن ( أولاد ماكير بن منسى أيضا ولدوا على ركبتي يوسف ) رأى شعبه في حال النمو والنجاح . وعلى مر السنين لم يتزعزع إيمانه بأن الله سيرجع إسرائيل إلى أرض الموعد .AA 208.1
وحين رأى يوسف أن نهايته قد دنت استدعى أقرباءه إليه . ومع أنه كان مكرما في أرض الفراعنة فقد كان يعتبر مصر أرض مذلة له وأرض اغتراب . وكان آخر عمل عمله إعلانه لهم أنه قد ألقى قرعته مع بني إسرائيل . كان آخر ما قاله أن ( الله سيفقتدكم ويصعدكم من هذه الأرض إلى الأرض التي حلف لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ) وقد استحلف بني إسرائيل أن يحملوا عظامه إلى أرض كنعان . ( ثم مات يوسف وهو ابن مئة وعشر سنين ، فحنطوه ووضع في تابوت في مصر ) وطيلة أجيال التعب التي مرت بعد ذلك كان ذلك التابوت مذكرا لبني إسرائيل بكلمات يوسف التي نطق بها عند موته ، وشاهدا لهم بأنهم إنما هم غرباء في مصر ، وآمرا إياهم بأن يحتفظوا بآمالهم مركزة في أرض الموعد ، لأن يوم النجاة والخلاص آت ما من ذلك بد .AA 208.2