Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents

الاباء والانبياء

 - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل الثامن—بعد الطوفان

    ------------------------------

    تعاظمت مياه الطوفان وارتفعت خمس عشرة ذراعا فوق أعلى الجبال ، وكثيرا ما تراءى لأفراد تلك العائلة التي في داخل الفلك أنهم لا بد هالكون ، إذا ظلوا ، كما ظهر لهم ، تحت رحمة الأمواج والعواصف تتقاذفهم خمسة أشهر كاملة . لقد كانت محنة قاسية ، ولكن إيمان نوح لم يتزعزع لأنه كان موقنا من أن يد الرب على الدفة .AA 84.1

    فلما بدأت المياه بالتراجع جعل الرب الفلك يسير مع التيار إلى بقعة تحيط بها مجموعة من الجبال التي بقيت راسخة بقوة الله ، وكانت تلك الجبال متقاربة من بعضها البعض ، فدخل الفلك إلى هذا المرفأ الهادئ ، ولم تعد المياه تتقاذفه في ذلك المحيط الذي لا شاطئ له ، وهذا خفف من متاعب أولئك المسافرين المتعبين الذين أضناهم الإعياء وهدهم .AA 84.2

    وكان نوح وعائلته ينتظرون تناقص مياه الطوفان بصبر جميل إذ كانوا مشتاقين إلى النزول على اليابسة ، وبعد ظهور أعالي الجبال بأربعين يوما أرسلوا غرابا ، وهو طائر حاسة الشم فيه قوية ، ليستكشف هل كانت الأرض قد جفت أم لا ، فهذا الغراب إذ لم يجد غير الماء ظل يطير من الفلك وإليه . وبعد سبعة أيام أخرى أرسلوا حمامة ، فإذ لم تجد مقرا لرجلها عادت إلى الفلك , وبعد سبعة أيام أخرى عاد نوح فأرسل الحمامة ، فلما عادت في المساء وفي فمها ورقة زيتون فرح نوح وعائلته فرحا عظيما . وبعد ذلك « كشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر ، فإذا وجه الأرض قد نشف » (تكوين 8 : 13) . ومع ذلك فقد لبث منتظرا بصبر في داخل الفلك . فكما دخل إلى الفلك بأمر الله كذلك انتظر أمره له بالخروج .AA 84.3

    أخيرا نزل ملاك من السماء وفتح باب الفلك الضخم وأمر ذلك الشيخ الجليل وعائلته بالخروج من الفلك إلى اليابسة ، كما أمرهم بإخراج كل الخلائق الحية ، ومع فرحهم الشديد بالإفراج عنهم لم ينس نوح ذاك الذي حفظهم برعايته الرحيمة ، فكان أول ما عمله بعد مغادرة الفلك أنه بنى مذبحا وقدم ذبيحة من كل الحيوانات والطيور الطاهرة ملعنا بذلك شكره لله وإيمانه بالمسيح الذي هو الذبيحة العظمى . وقد سر الله بهذه الذبيحة ونتجت عن ذلك بركة عظيمة ليس لنوح وعائلته فحسب بل أيضا لكل من سيعيشون على وجه الأرض ، إذ يقول الكتاب : ) فتنسم الرب رائحة الرضا . وقال الرب في قلبه : « لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان ... مدة كل أيام الأرض : زرع وحصاد ، وبرد وحر ، وصيف وشتاء ، ونهار وليل ، لا تزال »( (تكوين 8 : 21 ، 22) . وهنا درس ينبغي أن تتعلمه كل الأجيال المتعاقبة . لقد خرج نوح إلى عالم خرب ، ولكنه قبل أن يعد مسكنا لنفسه بنى مذبحا للرب . ومع أن ما تبقى له من المواشي كان قليلا وكلفه الاحتفاظ بها الشيء الكثير فإنه بكل سرور قدم بعضا منها للرب اعترافا منه بأن الكل للرب . وكذلك يجب أن يكون اهتمامنا الأول أن نقدم عطايانا الطوعية لله . وكل مظهر من مظاهر محبته ورحمته لنا ينبغي أن نعترف به شاكرين بالعبادة وبتقديم عطايانا لخدمة الملكوت .AA 84.4

    ولكي لا تمتلئ قلوب الناس رعبا من حدوث طوفان آخر وهم يرون السحب تملأ السماء والأمطار تتساقط ، طمأن الرب عائلة نوح بوعد قال فيه : «أقيم ميثاقي معكم .. لا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض .. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض . فيكون متى انشر سحابا على الأرض ، وتظهر القوس في السحاب أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية » ( تكوين 9 : 11 — 15) .AA 85.1

    كم كان الله عظيما في تنازله وشفقته على خلائقه الخاطئة في وضع قوسه الجميلة في السحاب علامة ميثاق مع الناس ! فالرب يعلن أنه حين ينظر القوس سيذكر ميثاقه ، ولكن هذا لا يعني أنه يمكن أن ينسى ، إنما يخاطبنا بلغتنا لنفهمه فهما أفضل . وكان قصد الله أنه عندما يسأل أبناء الأجيال اللاحقة عن معنى وجود تلك القوس المجيدة الظاهرة في السماء فإن آبائهم سيرددون على أسماعهم قصة الطوفان ، ويقولون لهم إن الله العلي قد وضع هذه القوس في السحاب كضمان على أن المياه لن تعود لتغمر الأرض ، وهكذا من جيل إلى جيل تشهد هذه القوس لمحبة الله للإنسان وتقوي ثقته بالرب .AA 85.2

    وفي السماء يحيط بالعرش شبه قوس تحيط برأس المسيح . والنبي يقول : « كمنظر القوس التي في السحاب يوم مطر ، هكذا منظر اللمعان من حوله ( حوال العرش ) . هذا منظر شبه مجد الرب» (حزيقال 1 : 28). والرائي يعلن قائلا : « وإذا عرش موضوع في السماء ، وعلى العرش جالس .. وقوس قزح حول العرش في المنظر شبه الزمرد » (رؤيا 4 : 2 ، 3 ) فحين يستمطر الإنسان بشروره العظيمة الدينونة الإلهية على نفسه فالمخلص يتشفع فيه لدى الآب ، مشيرا إلى القوس التي في السحاب ، وإلى القوس التي حول العرش وحول رأسه ، كعلامة لرحمة الله نحو الخطاة التائبين .AA 86.1

    ومع اليقين الذي أعطاه الله لنوح بشأن الطوفان فالرب نفسه قدم وعدا من أجمل وعود نعمته إذ يقول : «كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض ، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك . فإن الجبال تزول ، والآكام تتزعزع ، أما إحساني فلا يزول عنك ، وعهد سلامي لا يتزعزع ، قال راحمك الرب » (إشيعاء 54 : 9 ، 10 ) .AA 86.2

    إذ نظر نوح إلى الوحوش القوية التي خرجت معه من الفلك خاف منها لئلا تفترس أفراد عائلته التي لم يتجاوز عدد أفرادها ثماني أنفس ، ولكن الرب أرسل إلى عبده ملاكا يحمل إليه هذه الرسالة المطمئنة : « لتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء ، مع كل ما يدب على الأرض ، وكل أسماك البحر . قد دفعت إلى أيديكم . كل دابة حية تكون لكم طعاما . كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع » (تكوين 9 : 2 ، 3 ) . قبل ذلك لم يكن الله قد سمح للإنسان بأكل لحوم الحيوانات ، وكان يقصد أن يعيش الناس على منتجات الأرض وحدها ، أما الآن فبعدما تلاشى كل عشب أخضر سمح لهم بأكل لحوم الحيوانات الطاهرة التي حفظت في الفلك .AA 86.3

    لقد غير الطوفان معالم وجه الأرض كلها ، إذ استقرت على الأرض لعنة ثالثة نتيجة للخطية . لما بدأت المياه تتناقص كان يحيط بالجبال والتلال بحر كدر مترامي الأطراف وفي كل مكان ملأت جثث الموتى من الناس والحيوانات كل البقاع ، ولم يرد الرب أن تبقى تلك الجثث لتفسد الهواء وتنجسه ، ولذلك جعل من الأرض مقبرة واسعة ، فأرسل الرب ريحا عاتية لتجفف المياه فساقت الريح الجثث بقوة هائلة حتى أنها في بعض الحالات أطاحت بقمم الجبال واقتلعت الأشجار والصخور وذرت التراب وألقت بكل هذه فوق جثث القتلى ، وبهذه الوسيلة نفسها اختفت الفضة والذهب والأخشاب النادرة والحجارة الكريمة التي أغنت الناس قبل الطوفان وازدانت بها الأرض ، والتي جعل الناس منها أصناما — كل هذه اختفت عن أنظار الناس وعن تقصيهم ، إذ أن المياه في قوتها كومت التراب والصخور فوق تلك الكنوز . وفي بعض الأماكن تكونت فوقها جبال ، فلقد رأى أنه كلما أغنى الناس الخطاة وأنجحهم أوغلوا في إفسادهم طرقهم أمامه . لقد عبدوا الكنوز التي كان ينبغي أن تقودهم إلى تمجيد المعطي الكريم ، بينما هم أهانوه واحتقروه .AA 86.4

    استحالت الأرض إلى خراب وعدم انسجام يستحيل وصفهما ، فالجبال التي كانت تبدو قبلا جميلة ومتناسقة تشققت الآن وتكسرت ، والأحجار وشعب الصخور ، والصخور المسننة كانت مبعثرة هنا وهناك على سطح الأرض ، وفي أماكن كثرة اختفت التلال والجبال ولم يبق لها أثر ، وفي مكان بعض السهول ارتفعت سلاسل الجبال ، وهذه التغيرات ظهرت واضحة جلية في أماكن دون أخرى ، فحيث كانت توجد أغنى كنوز الأرض من الفضة والذهب والحجارة الكريمة كانت تشاهد أقسى آثار اللعنة ، أما البلاد التي لم تكن مسكونة والتي كانت الجرائم فيها أخف وطأة فكانت اللعنة أخف وطأة عليها .AA 87.1

    في هذا الوقت دفنت غابات عظيمة في جوف الأرض ، فتحولت بعد ذلك إلى فحم ، مكونة مناجم الفحم العظيمة الموجودة اليوم ، ومنتجة كميات كبيرة من الزيت ( البترول) إذ غالبا ما يشتغل الفحم والزيت تحت سطح الأرض ، فتسخن الصخور ويحترق الحجر الجيري ويذوب الحديد الخام ، ثم أن تفاعل الماء مع الحجر يجعل الحرارة هائلة جدا ، فتنشأ عن ذلك الزلازل والبراكين ، وتخرج ألسنة من النار من جوف الأرض ، فمتى اتصلت النار والماء بشعب الصخور والمعادن تحدث انفجارات هائلة في جوف الأرض يشبه صوتها صوت الرعود المكبوتة فيصير الهواء حارا وخانقا ويتبع ذلك انفجار البراكين . وإذ لا تستيطع هذه ، في الغالب ، أن تجعل مخرجا كافيا للعناصر الساخنة ، فالأرض نفسها تهتز ، وتعلو وتهبط كأمواج البحر ، ثم تظهر أحيانا شقوق هائلة تبتلع القرى والمدن والجبال المضطرمة بالنار . هذه الظواهر العجيبة سترى في فترات أكثر تقاربا ورعبا مما كانت قبلا ، وذلك قبيل مجيء المسيح ثانية ، عند انقضاء العالم ، كعلائم على سرعة هلاك العالم . AA 87.2

    إن أعماق الأرض هي مستودع الرب الذي منه جرد الأسلحة التي استخدمها في إهلاك العالم القديم ، فالمياه المتفجرة من أعماق الأرض التقت والمياه الهاطلة من السماء لتخريب الأرض ، ومنذ أيام الطوفان كانت النار والماء أداتين في يد الله لإهلاك المدن الشريرة ، وهذه الأحكام ترسل لكي يرتعب أمام قدرة الله ويعترف بحكمه وسلطانه العادل أولئك الذين يستخفون بشريعته ويدوسون سلطانه . وحين أبصر الناس الجبال المشتعلة بالنار تقذف نارا ولهيبا وسيولا من المعادن الذائبة وتنشف أنهارا وتقلب مدنا عامرة وتنشر الخراب والدمار في كل مكان ملك الرعب والهلع أقوى القلوب . واعترف الملحدون والمجدفون بقدرة الله غير المحدودة .AA 88.1

    قال الأنبياء في القديم مشيرين إلى مشاهد مثل هذه : « ليتك تشق السماوات وتنزل ! من حضرتك تتزلزل الجبال . كما تشعل النار الهشيم ، وتجعل النار المياه تغلي ، لتعرف أعدائك اسمك ، لترتعد الأمم من حضرتك . حين صنعت مخاوف لم ننتظرها ، نزلت ، تزلزلت الجبال من حضرتك»(إشعياء 64 : 1- 3) « الرب في الزوبعة ، وفي العاصف طريقه ، والسحاب غبار رجليه . ينتهز البحر فينشفه ويجفف جميع الأنهار » (ناحوم 1 : 3 ، 4) .AA 88.2

    هنالك ظواهر أدعى إلى الرعب من كل ما سبق أن رآه العالم سترى في مجيء المسيح ثانية ، « الجبال ترجف منه ، والتلال تذوب ، والأرض ترفع من وجهه ، والعالم وكل الساكنين فيه . من يقف أمام سخطه ؟ ومن يقوم في حمو غضبه ؟ غيظه ينسكب كالنار ، والصخور تنهدم منه » (ناحوم 1 : 5 ، 6) ) يا رب ، طأطئ سماواتك وانزل . المس الجبال فتدخن ، أبرق بروقا وبددهم . أرسل سهامك وأزعجهم » (مزمور 144 : 5 ، 6) . AA 88.3

    «وأعطي عجائب في السماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل : دما ونارا وبخار دخان » (أعمال 2 : 19) « فحدثت أصوات ورعود وبروق . وحدثت زلزلة عظيمة ، لم يحدث مثلها منذ صار الناس على الأرض ، زلزلة بمقدارها عظيمة هكذا ... وكل جزيرة هربت ، وجبال لم توجد . وبرد عظيم ، نحو ثقل وزنه ، نزل من السماء على الناس » (رؤيا 16 : 18 ، 20 ، 21( .AA 88.4

    عندما يتلاقى البرق من السماء والنار على الأرض فالجبال تحترق كالأتون وتسكب سيولا من الحمم أو المقذوفات البركانية فتكتسح الحدائق والحقول والقرى والمدن ، وإذ تقذف الكتل الملتهبة إلى الأنهار فالمياه ستغلي وتقذف بدورها كتل الصخور العظيمة بقوة لا يمكن وصفها ، فتتناثر أجزائها على الأرض ، وستجدف الأنهار والأرض ترتج ، وفي كل مكان ستحدث زلازل وانفجارات مخيفة .AA 88.5

    هكذا سيلاشي الله الأشرار من على وجه الأرض ، أما الأبرار فسيحفظون في وسط تلك الاضطرابات كما حفظ نوح في الفلك ، وسيكون الله ملجأهم ، وتحت جناحيه يحتمون . يقول المرنم « لأنك قلت : ”أنت يا رب ملجإي «جعلت العلي مسكنك ، لا يلاقيك شر » (مزمور 91 : 9 ، 10) «لأنه يخبئني في مظلته في يوم الشر . يسترني بستر خيمته » (مزمور 27 : 5) ووعد الله هو هذا «لأنه تعلق بي أنجيه . أرفعه لأنه عرف اسمي » (مزمور 91 : 14) .AA 89.1

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents