Loading...
Larger font
Smaller font
Copy
Print
Contents

الاباء والانبياء

 - Contents
  • Results
  • Related
  • Featured
No results found for: "".
  • Weighted Relevancy
  • Content Sequence
  • Relevancy
  • Earliest First
  • Latest First
    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents

    الفصل الثالث عشر—محكّ الإيمان

    --------------------

    لقد قبل إبراهيم وعد الله بإعطائه ابنا ، بدون سؤال . إلا أنه لم ينتظر الله ليتمم وعده في وقته المناسب وبالكيفية التي يريدها ، وقد سمح بالتأخير لاختبار إيمانه بقدرة الله ، ولكنه أخفق في احتمال التجربة . فإذ ظنت سارة أنه من المستحيل أن تعطى ابنا في شيخوختها اقترحت خطة ظنتها كفيلة بإتمام غرض الله ، وهي أن يتخذ إبراهيم إحدى جواريه زوجة إضافية (سرّيّة) ، وكان تعدد الزوجات أمرا شائعا بحيث لم يعد ذلك معتبرا خطية ، ولكنه كان انتهاكا لشريعة الله ، وأمرا مميتا لقدسية الصلات العائلية وسلامتها ، ولقد نجم عن زواج إبراهيم من هاجر شر لم يقتصر عليه وحده بل تعداه إلى الأجيال التالية .AA 122.1

    وإذ كانت هاجر تتملق نفسها بشرف مركزها الجديد كزوجة إبراهيم ، وتؤمل بأنها ستكون أما للشعب العظيم الذي سيخرج من صلبه بدأت تتكبر وتتفاخر ، وجعلت تعامل مولاتها باحتقار ، وعكر التحاسد المتبادل صفو البيت الذي كان قبلا سعيدا ، وإذ كان إبراهيم مضطرا لأن يستمع لشكايات كل من الزوجتين فقد حاول عبثا أن يعيد الوفاق ، ومع كون إبراهيم قد تزوج من هاجر استجابة لتوسلات سارة الملحة فقد وبخته سارة كأنه هو المخطئ ، لقد رغبت في أن تنفي ضرتها بعيدا عنها ، ولكن إبراهيم لم يسمح بذلك ، لأن هاجر مزمعة أن تكون أما لابنه الذي يرجو بكل شغف أن يكون هو ابن الموعد ، ومع ذلك كانت هاجر جارية لسارة وكانت لا تزال تحت سلطانها ، ولكن روح هاجر المتكبرة لم تكن تطيق القسوة التي كانت قد أثارتها على نفسها بوقاحتها ، «فأذلّتها ساراي ، فهربت من وجهها » (انظر تكوين 16 : 6 — 13) .AA 122.2

    سارت في طريقها إلى البرية ، وإذ جلست لتستريح عند عين ماء وهي وحيدة بلا صديق ظهر لها ملاك الرب في صورة بشرية ، وإذ خاطبها على أنها ( هاجر جارية ساراي ) مذكّرا إياها بمركزها وواجبها أمرها قائلا : ( ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها ) إلا أن التوبيخ كانت تخالطه كلمات العزاء إذ قال لها : ( الله قد سمع لمذلّتك ) ثم قال : ( تكثيرا أكثّر نسلك فلا يعدّ من الكثرة ) وقد أمرها أن تدعو اسم ابنها اسماعيل ( الله يسمع ) ليكون ذلك مذكّرا دائما لها برحمته .AA 122.3

    عندما قارب عمر إبراهيم أن يبلغ المئة سنة كرر له الرب وعده بأنه سيعطيه ابنا ، وأكد له أن الابن الذي سيرث ستنجبه سارة ، إلا أن إبراهيم لم يكن يفهم الوعد بعد ، فاتجه فكره في الحال إلى اسماعيل وهو متشبث باعتقاده أن مقاصد الله الرحيمة ستتم عن طريقه ، ففي حبه لابنه صاح قائلا : ( ليت إسماعيل يعيش أمامك ! ) (انظر تكوين 17 : 18- 20) فأعاد الرب الوعد على مسمعه بكلام لا يقبل الالتباس إذ قال : ( بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق . وأقيم عهدي معه عهدا أبديّا لنسله من بعده ) . ومع ذلك فالرب لم يتغافل عن صلاته ، بل قال له : ( وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه ... وأجعله أمّة كبيرة ) .AA 123.1

    إن ولادة إسحاق التي فيها تمت وتحققت أعذب الأماني بعد انتظار العمر بطوله ، هذه الولادة ملأت خيام إبراهيم وسارة فرحا ، ولكن ذلك الحادث كان بالنسبة إلى هاجر انهيارا لكل مطامعها وآمالها التي كانت تعتز بها ، ثم أن اسماعيل الذي كان قد بلغ دور الشباب كان إلى ذلك الحين معتبرا من كل من في المحلة وارثا لثروة إبراهيم ولكل البركات الموعود بها لنسبه ، أما الآن فقد أهمل اسماعيل وألقي جانبا ، ففي فشلهما هو وأمه أبغضا ابن سارة ، وتلك الأفراح التي شملت كل الجماعة زادت من حسدهما ، إلى أن تجرأ اسماعيل على أن يسخر علنا بوارث وعد الله ، ووجدت سارة في مشاغبات اسماعيل نبعا مستمرا للمنازعات ، فجعلت تلح على إبراهيم أن يطرد تلك الجارية وابنها من المحلة ، فتضايق ذلك الشيخ جدا إذ كيف يطرد بعيدا عنه ابنه اسماعيل الذي كان لا يزال يحبه جدا ؟ ففي حيرته وارتباكه توسل إلى الله في طلب الإرشاد ، وإذا بملاك الرب يرشده إلى إجابة سارة إلى طلبها ، إذ أن محبته لإسماعيل أو أمه ينبغي ألا تقف مانعا في الطريق ، فلا يمكن بغير هذه الوسيلة أن يعيد الوفاق والسعادة إلى عائلته ، وقدم له الملاك وعدا معزيا قائلا إنه مع كون اسماعيل سيرحل عن بيت أبيه فالله لن يتركه ، بل سيحفظ حياته وسيصير أبا لأمة كبيرة . أطاع إبراهيم كلام الملاك وإن يكن ذلك مصحوبا بآلام نفسية عظيمة ، فلقد كان ذلك الأب مثقلا بأحزان لا يمكن التعبير عنها وهو يطرد هاجر وابنها .AA 123.2

    إن التعليم الذي تلقاه إبراهيم بشأن قدسية الزواج يجب أن يكون درسا لكل الأجيال ، وهو يعلن أنه ينبغي الحرص على حقوق هذه العلاقة وسعادتها مهما تكن التضحية عظيمة . كانت سارة هي وحدها زوجة إبراهيم الحقيقية ، ولم يكن لأية امرأة أخرى أن تقاسمها حقوقها كزوجة وكأم ، لقد كانت تكرم رجلها ، وفي هذا قدمت في العهد الجديد كمثال للزوجة الصالحة ، ولكنها لم تكن ترغب في أن يحب إبراهيم امرأة أخرى . والرب لم يوبخها لكونها طلبت منه أن يطرد ضرتها . إن إبراهيم وسارة كليهما لم يثقا بقدرة الله ، وكانت هذه هي غلطتهما التي أدت إلى زواجه من هاجر .AA 124.1

    لقد دعا الله إبراهيم ليكون أبا للمؤمنين ، وكان ينبغي أن تكون حياته نموذجا للأجيال القادمة في الإيمان ، إلا أن إيمانه لم يكن كاملا ، فلقد ظهر عدم ثقته بالله حين أخفى حقيقة كون سارة زوجته ، ثم في زواجه من هاجر ، فلكي يصل إلى أسمى مقياس قدم له الله امتحانا آخر هو أقسى امتحان أعطي لأي إنسان ، ففي رؤيا الليل أمره الله أن يذهب إلى أرض المريا ويقدم ابنه ذبيحة محرقة على أحد الجبال التي سيقول له عنها .AA 124.2

    كان إبراهيم عندما صدر إليه هذا الأمر قد بلغ العشرين بعد المئة من العمر ، وكان معتبرا رجلا شيخا حتى في جيله . في سنيه الباكرة كان قادرا على احتمال الشدائد والضيقات ومجابهة المخاطر ، أما الآن فقد زايلته حمية الشباب . إن إنسانا يتمتع بعزيمة الرجولة ونشاط الرجولة يستطيع بكل شجاعة أن يواجه الصعوبات والضيقات التي يضعف قلبه أمامها متى تقدمت به الأيام حين يسير مترنحا إلى قبره ، ولكن الله كان قد أبقى أقسى امتحاناته لإبراهيم إلى الوقت الذي فيه أثقلت كاهله السنون ، وكان يتوق إلى الراحة من الجزع والعناء .AA 124.3

    كان ذلك الشيخ الجليل ساكنا في بئر سبع متمتعا بالنجاح والكرامة . كان غنيا جدا ، وكان سادة الأرض يوقرونه كرئيس قوي بينهم ، وكانت آلاف من أغنامه تملا السهول الممتدة بعد خيامه ، وفي كل مكان انتشرت خيام تابعيه التي كان يسكنها مئات من عبيده الأمناء ، وكان ابن الموعد قد نما وترعرع حتى بلغ دور الرجولة في كنف أبيه ، وكأن السماء قد كللت ببركتها حياة التضحية التي بدت في توقع تحقيق الرجاء المؤجل وهو صابر .AA 124.4

    إن إبراهيم ، في طاعة إيمانه ، ترك أرض ميلاده ومدينة مقابر آبائه ووطن عشيرته ، وتجول غريبا في أرض ميراثه ، وانتظر طويلا ميلاد الوارث الموعود به ، وامتثالا لأمر الله طرد ابنه اسماعيل ، والآن إذ كان الابن الذي انتظره طويلا قد بلغ مبلغ الرجال ، وحين أيقن ذلك الشيخ الجليل أن آماله قد تحققت كان عليه أن يجوز امتحانا أقسى من كل ما سبق .AA 125.1

    وصدر أمر الله لإبراهيم في كلمات عصرت قلب ذلك الأب عصرا قاسيا بالحزن والألم إذ قال له : ( خذ ابنك وحيدك ، الّذي تحبّه ، إسحاق ... وأصعده ... محرقة ) (تكوين 22 : 2) . لقد كان إسحاق هو النور الذي ينير جوانب بيته وعزاءه في شيخوخته ، وفوق الكل ، كان إسحاق هو وارث البركة الموعود بها ، ولو مات مثل هذا الابن في حادثة أو بمرض لتمزق قلب أبيه المحب وكان رأسه الأشيب ينحني تحت ثقل الأحزان ، ولكن الله يأمره بأن يسفك دم ذلك الابن بيده . لقد تراءى له أن ذلك العمل مستحيل ومخيف .AA 125.2

    كان الشيطان قريبا من إبراهيم يقول له إنه لا بد أن يكون قد غرر به ، لأن الوصية الإلهية تقول ( لا تقتل ) (خروج 20 : 13) والله لا يمكن أن يطلب من إنسان عمل شيء سبق فنهاه عن عمله . خرج إبراهيم إلى خارج خيمته ، ونظر إلى السماوات الجميلة الصافية ، وذكر وعد الله الذي قدمه له منذ حوالي خمسين سنة ، بأن نسله سيكون كثيرا جدا كنجوم السماء ، فإن كان هذا الوعد سيتم في إسحاق فكيف يقتل ؟ وقد جُرب إبراهيم لأن يعتقد أنه كان واقعا تحت وهم أو تضليل ، ففي شكوكه وآلامه سجد على الأرض وصلى كما لم يصل قط من قبل ، ليتحقق من أمر الرب هذا ، وهل كان لا بد له من أن يقوم بذلك الواجب المرعب ، وقد ذكر الملائكة وهم يأتون إليه ليكاشفوه بقصد الله في هلاك سدوم ، وذكر أنهم قد قدموا له وعدا بميلاد إسحاق هذا ، ثم ذهب إلى المكان الذي فيه التقى رسل السماء مرارا على أمل لقائهم مرة أخرى ، ليتلقى منهم أوامر جديدة ، ولكن لم يأت أحد منهم لتفريج كربته ، وبدا كأن ظلمة داجية تكتنفه ، ولكن أمر الله كان لا يزال يرن في أذنيه : ( خذ ابنك وحيدك ، الّذي تحبّه ، إسحاق ... وأصعده ... محرقة ) إذا فلا بد من إطاعة هذا الأمر ، ولم يكن يجرؤ على التأجيل ، كان نور النهار قد بدأ يبزغ ، وعليه أن يشرع في السفر .AA 125.3

    وإذ عاد إلى الخيمة ذهب إلى حيث كان إسحاق مضطجعا ونائما نومة الشاب البريء الذي لا يزعجه شيء ، ولمدة لحظة تطلع الآب في وجه ابنه الحبيب ثم تحول عنه مرتعبا ، ثم ذهب إلى جانب سارة التي كانت نائمة أيضا ، فهل يوقظها لكي تعانق ابنها مرة أخيرة ؟ وهل يخبرها بما أمره به الله ؟ لقد تاق إلى أن يخبرها عن خبيئة نفسه لتحمل معه هذه المسؤولية الرهيبة ، ولكن خوفه من أنها قد تعطله عن إطاعة أمر الرب منعه من مكاشفتها بالأمر ، لقد كان إسحاق فرحها وفخرها ، وحياتها كانت مرتبطة به ، فقد ترفض محبة الأم هذه التضحية .AA 126.1

    أخيرا استدعى إبراهيم ابنه وأخبره بأمر الرب له بالذهاب إلى جبل بعيد لتقديم ذبيحة ، وكان إسحاق قد ذهب مع أبيه مرارا ليعبد الله عند بعض المذابح المختلفة التي كان يقيمها في أثناء رحلاته من مكان إلى آخر ، ولذلك فلم يكن هذا الأمر الإلهي مثيرا لدهشته ، وبسرعة تمت كل الاستعدادات لتلك الرحلة . وأعد الحطب ووضعه على الحمار وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه وذهبوا .AA 126.2

    سار الأب والابن جنبا إلى جنب صامتين ، كان ذلك الشيخ يتأمل في سره الرهيب ، فلم يكن لديه لذلك قلب ليتكلم . كانت أفكاره متجهة إلى الأم المحبة لابنها والفخورة به ، وإلى اليوم الذي سيعود إليها فيه وابنه ليس معه . كان يعرف جيدا أن السكين التي سيذبح بها ابنه ستخترق عندئذ قلبها .AA 126.3

    إن ذلك اليوم الذي كان أطول يوم عرفه في حياته مر بطيئا متثاقلا ، فلما أقبل الليل وكان ابنه وغلاماه نياما قضى هو ليلته في الصلاة ، وكان لا يزال يؤمل أن سيأتي ملاك من السماء ليقول له إنه قد امتحن بما فيه الكفاية ، وأن لابنه أن يعود إلى أمه سالما ، ولكن نفسه ظلت معذبة ولم يحصل على راحة أو معونة ، ثم مر بعد ذلك يوم طويل وتلاه ليل آخر قضاه في التذلل والصلاة ، وكان ذلك الأمر الذي سيتركه عقيما لا يزال يرن في أذنيه ، وكان الشيطان قريبا منه ليوسوس في أذنيه بكلام الشك ، عدم الإيمان ، ولكن إبراهيم قاوم كل مقترحاته ، وعندما أوشكوا على السفر في صبيحة اليوم الثالث تطلع ذلك الشيخ إلى جهة الشمال فرأى العلامة التي وعده الرب بها ، إذ أبصر سحابة مجد محلقة فوق جبل المريا ، فأيقن حينئذ أن الصوت الذي سمعه كان آتيا من السماء .AA 126.4

    إلى هذا الحد لم يتذمر إبراهيم على الله ، بل تقوت روحه بالتأمل في دلائل جود الله وأمانته ، لقد أعطي له هذا الابن على غير انتظار ، أفلا يحق لمن قد وهبه هذه العطية الثمينة أن يسترد ما قد وهب ؟ حينئذٍ بالإيمان كرر ذلك الوعد القائل ( بإسحاق يدعى لك نسل ) (تكوين 21 : 12) - نسل لا يعد كالرمل الذي على شاطئ البحر ، لقد كان إسحاق ابنا لمعجزة ، أفلا تستطيع القوة التي أعطته الحياة أن تعيدها إليه ؟ وإذ نظر إبراهيم إلى ما وراء المنظور تمسك بكلمة الله ( إذ حسب أنّ الله قادر على الإقامة من الأموات ) (عبرانيين 11 : 19) .AA 127.1

    لكن ليس أحد غير الله عرف كم كانت عظيمة تضحية الأب في تسليم ابنه للموت ، وكان إبراهيم يرغب في ألا يشاهد أحد منظر الوداع بينه وبين ابنه غير الله وحده ، ولذلك أمر غلاميه بالتخلف قائلا لهما : ( أمّا أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ، ثمّ نرجع إليكما ) (انظر تكوين 22 : 5 - 8) فوضع الحطب على إسحاق الذي سيقدم ذبيحة ، وأخذ هو بيده النار والسكين ثم أخذا في الصعود إلى قمة الجبل ، وكان ذلك الشاب مندهشا يسائل نفسه قائلا من أين لنا المحرقة ونحن بعيدان جدا عن الحظائر والقطعان ؟ وأخير قال لأبيه : ( يا أبي ! ... هوذا النّار والحطب ، ولكن أين الخروف للمحرقة ؟ ) آه ما أقسى هذا من امتحان ، وبأي سيف قاطع طعنت هذه الكلمة المحببة ( يا أبي ) قلب إبراهيم ! لم يحن الوقت بعد ، لم يقدر أن يخبره الآن . قال ( الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني ) .AA 127.2

    في المكان المعين بنيا المذبح ووضعا عليه الحطب ، وحينئذ ، وبصوت مرتجف ، أخبر إبراهيم ابنه برسالة الله ، ولما علم إسحاق بمصيره ملكه الرعب والذهول ، ولكن لم تبد منه أية مقاومة ، كان يمكنه أن ينجو من ذلك المصير لو أراد ، فذلك الشيخ المهدم الذي هده الحزن وأنهكه ذلك الصراع الذي دام ثلاثة أيام لم يكن يقوى على مقاومة إرادة ابنه الشاب القوي الناشط ، إلا أن إسحاق قد تربى منذ طفولته على الطاعة التامة الواثقة ، فلما كُشف له قصد الله أطاع وسلم من تلقاء نفسه ، لقد كان شريكا لإبراهيم في إيمانه ، وكان يحس أنه شرف عظيم له أن يبذل حياته ذبيحة لله ، فأخذ بكل رقة يحاول التخفيف من أحزان أبيه ويشجع يديه الضعيفتين على ربطه بالحبال ليوضع على المذبح .AA 127.3

    أخيرا بعدما قيلت آخر كلمات المحبة وسكبت آخر دمعة ، وبعد الانتهاء من المعانقة ، يرفع الأب السكين ليذبح ابنه ، ولكن فجأة توقفت يده ، ذلك أن ملاك الرب نادى ذلك الشيخ قائلا ( إبراهيم ! إبراهيم ! ) فجاء الرد سريعا يقول : ( هأنذا ) فعاد الصوت يقول له : ( لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا ، لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله ، فلم تمسك ابنك وحيدك عنّي ) ( انظر تكوين 22 : 11 — 18) .AA 128.1

    حينئذٍ نظر إبراهيم ( وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه ) وإذ أحضر تلك الذبيحة الجديدة بسرعة أصعدها عوضا عن ابنه ، ففي فرحه وشكره أطلق إبراهيم على تلك البقعة المقدسة اسما جديدا ( يهوه يرأه ) أي الله يرى ( يدبر) .AA 128.2

    على جبل المريا جدد الله عهده لإبراهيم ثانية مثبتا البركة له ولنسله مدى الأجيال القادمة بقسم قائلا : ( بذاتي أقسمت يقول الرب ، أنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ، ولم تمسك ابنك وحيدك ، أباركك مباركة ، وأكثّر نسلك تكثيرا كنجوم السّماء وكالرّمل الّذي على شاطئ البحر ، ويرث نسلك باب أعدائه ، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض ، من أجل أنّك سمعت لقولي ) .AA 128.3

    إن عمل إيمان إبراهيم العظيم يقف كعمود من نور لينير طريق عبيد الله في كل العصور المتعاقبة ، إن إبراهيم لم يحاول أن يعفي نفسه من عمل إرادة الله ، ففي أثناء رحلته التي استغرقت ثلاثة أيام كان لديه وقت كاف للمجادلة والمحاورة وللشك في الله لو كان ميالا للشك . كان يمكنه أن يحاور قائلا إن ذبحه لابنه يجعل الناس يعتبرونه قايين ثانيا ، الأمر الذي يجعل الناس يرفضون تعاليمه ويحتقرونها ، وذلك يلاشي قوته على عمل الخير مع بني جنسه ، وكان يمكنه أن يحتجّ بالقول إن شيخوخته تعفيه من الطاعة ، ولكن ذلك الشيخ لم يتحصن وراء أي عذر من تلك الأعذار ، لقد كان إبراهيم بشرا مثلنا ، وكانت له آلام وانفعالات وصلات بغيره مثلنا ، ولكنه لم يقف ليتساءل عن كيف يتم الوعد لو ذبح إسحاق ، ولم يقف ليتباحث مع قلبه المتألم ، لقد عرف أن الله عادل وبار في كل مطاليبه فأطاع أمره طاعة حرفية .AA 128.4

    ( فآمن إبراهيم بالله فحسب له برّا ودعي خليل الله ) (يعقوب 2 : 23) وبولس يقول : ( الّذين هم من الإيمان أولئك هم بنو إبراهيم ) (غلاطية 3 : 7) ولكن إيمان إبراهيم تجلى في أعماله إذ يقول الكتاب : ( ألم يتبرّر إبراهيم أبونا بالأعمال ، إذ قدّم إسحاق ابنه على المذبح ؟ فترى أنّ الإيمان عمل مع أعماله ، وبالأعمال أكمل الإيمان ) (يعقوب 2 : 21، 22) . إن كثيرين لا يفهمون العلاقة الكائنة بين الأعمال والإيمان ، فهم يقولون عليك فقط أن تؤمن بالمسيح فتكون في أمان ، ولا شأن لك بحفظ الناموس . ولكن الإيمان الحقيقي يتجلى في الطاعة . قال المسيح لليهود غير المؤمنين : ( لو كنتم أولاد إبراهيم ، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم ! ) (يوحنا 8 : 39) أما فيما يختص بأبي المؤمنين فالله يعلن قائلا : ( إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي : أوامري وفرائضي وشرائعي ) (تكوين 26 : 5) والرسول يعقوب يقول : ( هكذا الإيمان أيضا ، إن لم يكن له أعمال ، ميّت في ذاته ) (يعقوب 2 :17) ويوحنا الذي يتكلم كثيرا عن المحبة يقول لنا ( هذه هي محبّة الله : أن نحفظ وصاياه ) (1 يوحنا 5 : 3).AA 128.5

    وعن طريق الرمز والوعد نرى أن الله : ”... سبق فبشّر إبراهيم ( (غلاطية 3 : 8) . وكان إيمان إبراهيم مثبتا ومركزا في الفادي الآتي ، قال المسيح لليهود : ) أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح ( (يوحنا 8 : 56) إن الخروف الذي قدم عوضا عن إسحاق كان يرمز إلى ابن الله الذي كان سيقدم ذبيحة عوضا عنا ، إن الإنسان إذ قد حكم عليه بالموت بسبب عصيانه لشريعة الله ، فالآب إذ نظر إلى ابنه قال للخاطئ : عش ) قد وجدت فدية ( .AA 129.1

    إن الله لكي يطبع على عقل إبراهيم حقيقة الإنجيل ولكي يختبر إيمانه أمره أن يقدم ابنه ذبيحة . إن الآلام النفسية الهائلة التي جاز فيها في تلك الأيام المظلمة ، أيام التجربة المخيفة سمح الله بها لكي يفهم إبراهيم من واقع اختباره شيئا عن عظمة الذبيحة التي قدمها الله غير المحدود لفداء الإنسان ، لم يكن أي امتحان آخر ليسبب لإبراهيم مثل ذلك العذاب النفسي الذي اختبره عند الشروع في تقديم ابنه ذبيحة ، ولقد بذل الله ابنه ليموت موت العذاب والعار .والملائكة الذين شاهدوا اتضاع ابن الله و آلامه لم يسمح لهم بالتدخل كما كانت الحال مع إسحاق ، لم يكن هنالك صوت يقول : ( كفى ) فلكي يخلص جنسنا الساقط بذل ملك المجد حياته . فأي برهان أعظم يمكن تقديمه على شفقة الله ومحبته غير المحدودتين ؟ ( الّذي لم يشفق على ابنه ، بل بذله لأجلنا أجمعين ، كيف لا يهبنا أيضا معه كلّ شيءٍ ؟ ) (رومية 8 : 32) .AA 129.2

    إن الذبيحة التي كانت مطلوبة من إبراهيم لم تكن فقط لأجل خيره هو ولا لأجل فائدة الأجيال القادمة دون سواها ، بل أيضا لأجل تعليم الخلائق الطاهرة البارة في السماء وفي العوالم الأخرى ، فإن ميدان الحرب بين المسيح والشيطان - الميدان الذي تم فيه تدبير الفداء هو السّفر الذي يتعلم منه الكون ، فلأن إبراهيم كان يعوزه الإيمان بمواعيد الله اتهمه الشيطان أمام الله وأمام ملائكته بأنه أخفق في إتمام شروط العهد ، وأنه غير مستحق لبركات ذلك العهد ، فأراد الله أن يثبت ولاء عبده أمام كل السماء ليبرهن على أنه لا شيء أقل من الطاعة الكاملة يمكن قبوله ، وليعلن أمامهم تدبير الخلاص كاملا .AA 129.3

    كانت الكائنات السماوية شهود عيان للمنظر حين امتحن إيمان إبراهيم وخضع إسحاق . وكان ذلك الامتحان أقسى جدا من امتحان آدم . إن الإذعان لأمر الله حين نهى أبوينا الأولين عن الأكل من الشجرة التي في وسط الجنة لم يكن فيه أي ألم ، أما الأمر الذي طلبه الله من إبراهيم فكان يتطلب أعظم تضحية انطوت على آلام هائلة ، وقد شاهدت السماء كلها بدهشة وإعجاب طاعة إبراهيم التي لم يكن فيها أي تردد أو تراجع ، وأثنت السماء كلها على أمانته وإخلاصه ، وتبرهن كذب الشيطان في شكاياته ، وأعلن الله لعبده قائلا : ( الآن علمت أنّك خائف الله (برغم اتهامات الشيطان ) ، فلم تمسك ابنك وحيدك عنّي ) وإن عهد الله الذي تثبت لإبراهيم بقسم أمام الخلائق في العوالم الأخرى شهد على أن الطاعة لا بد لها من جزاء .AA 130.1

    لقد كان من الصعب حتى على الملائكة أنفسهم أن يفهموا سر الفداء - أن يفهموا كيف أن ملك السماء ابن الله ينبغي أن يموت لأجل الفجار ، وحين أصدر الله أمره لإبراهيم أن يقدم ابنه أثار ذلك اهتمام كل الخلائق السماوية ، وبغيرة عظيمة راقبوا كل خطوة سار فيها إبراهيم لتنفيذ أمر الرب . وحين أجاب إبراهيم عن سؤال ابنه القائل : ”أين الخروف للمحرقة ؟ ( بقوله ) الله يرى له الخروف ( وحين أوقفت يد الأب وهو يشرع في ذبح ابنه ، وقدّم الكبش الذي قد أعده الله بدلا من إسحاق - حينئذٍ ألقي نور عظيم على سر الفداء ، وحتى الملائكة فهموا فهما أعمق التدبير العجيب الذي أعده الله لخلاص بني الإنسان (1 بطرس 1 : 12) .AA 130.2

    * * * * *

    Larger font
    Smaller font
    Copy
    Print
    Contents