الفصل التاسع عشر—الرجوع إلى كنعان
---------------------
بعد عبور الأردن ( أتى يعقوب سالما إلى مدينة شكيم الّتي في أرض كنعان ) (تكوين 33 : 18 ، 20) وهكذا أجيبت صلاة ذلك الشيخ التي قدمها في بيت إيل طالبا من الله أن يرجعه بسلام إلى أرضه ، وقد ظل زمنا ساكنا في وادي شكيم . في هذا المكان وقبل ذلك بأكثر من مئة سنة نصب إبراهيم خيامه أول مرة ، وأقام أول مذبح في أرض الموعد . وفي هذا المكان ( ابتاع قطعة الحقل الّتي نصب فيها خيمته من يد بني حمور أبي شكيم بمئة قسيطةٍ . وأقام هناك مذبحا ودعاه «إيل إله إسرائيل» ( (الله إله إسرائيل) ، وكما فعل إبراهيم من قبل كذلك فعل يعقوب إذ أقام إلى جوار خيمته مذبحا للرب ، ودعا أفراد عائلته لتقديم ذبيحة الصباح وذبيحة المساء ، وفي هذا المكان حفر البئر التي أتى إليها بعد ذلك بسبعة عشر قرنا ابن يعقوب ومخلصه ، والتي جلس عليها ليستريح من حر الهجير ، وأخبر سامعيه المندهشين عن ينبوع الماء الذي ( ينبع إلى حياةٍ أبديّةٍ ) (يوحنا 4 : 14) .AA 174.1
إن فترة إقامة يعقوب وبنيه في شكيم قد انتهت بعمل قاس صارم من أعمال الظلم وسفك الدماء ، ذلك أن ابنة يعقوب الوحيدة حل بها العار والحزن ، فتورط اثنان من إخوتها في ارتكاب جريمة قتل ، فخربت مدينة برمتها ، انتقاما لعمل محرم شرعا ارتكبه مع تلك الفتاة شاب طائش ، والبداءة التي أدت إلى تلك النتائج المرعبة كانت نتيجة عمل ابنة يعقوب التي ( خرجت ... لتنظر بنات الأرض ) (انظر تكوين 34) وهكذا زجت بنفسها بين العشراء الأشرار ، فالذي يطلب السرور بين من لا يخافون الله يضع نفسه في أرض الشيطان ، ويعرض نفسه لتجاربه .AA 174.2
إن قسوة شمعون ولاوي وغدرهما لم يكونا من غير مبرر أو بدون عمل مثير ، ولكنهما في معاملتهما لأهل شكيم ارتكبا خطية فظيعة ، وكانا بكل حرص قد أخفيا عن أبيهما يعقوب مقاصدهما ، فملأته أخبار انتقامهما رعبا . وإذ كان منسحق القلب بسبب غدر ابنيه وظلمهما قال لهما ( كدّرتماني بتكريهكما إيّاي عند سكّان الأرض ... وأنا نفر قليل . فيجتمعون عليّ ويضربونني ، فأبيد أنا وبيتي ) ولكن الحزن والاشمئزاز اللذين بهما وصف تلك الفعلة الدامية يريان في كلامه الذي نطق به بعد ذلك بحوالي خمسين سنة وهو مضطجع على سرير الموت في مصر إذ قال : ( شمعون ولاوي إخوان ، آلات ظلمٍ سيوفهما . في مجلسهما لا تدخل نفسي . بمجمعهما لا تتّحد كرامتي ... ملعون غضبهما فإنّه شديد ، وسخطهما فإنّه قاسٍ ) (تكوين 40 : 5 - 7).AA 174.3
أحس يعقوب بأن هنالك ما يدعو إلى التذلل العميق إذ قد تجلت القسوة والكذب في أخلاق ابنيه ، وفي تلك المحلة كانت آلهة كاذبة ، ورسخت قدم الوثنية في عائلته إلى حد ما ، فهل يعاملهم الله كما يستحقون ، ألا يتركهم لانتقام الأمم المحيطة بهم ؟AA 175.1
وإذ كان يعقوب هكذا منحني النفس تحت ضغط الكدر والانزعاج صدر إليه أمر الرب بالسفر جنوبا إلى بيت إيل ، إن التفكير في ذلك المكان لم يذكر ذلك الشيخ برؤيا الملائكة ومواعيد الله بالرحمة فقط ، بل ذكره أيضا بنذره الذي كان قد نذره هناك أن يكون الرب إلها له ، وقد عقد العزم على أنه قبل الانتقال إلى تلك البقعة المقدسة ينبغي أن يتطهر أفراد أسرته من نجاسات الأصنام ، ولذلك أصدر أمره إلى كل من في محلته قائلا : ( اعزلوا الآلهة الغريبة الّتي بينكم وتطهّروا وأبدلوا ثيابكم . ولنقم ونصعد إلى بيت إيل ، فأصنع هناك مذبحا لله الّذي استجاب لي في يوم ضيقتي ، وكان معي في الطّريق الّذي ذهبت فيه ) (أنظر تكوين 35) .AA 175.2
وبانفعال عميق ردد يعقوب قصة مجيئه إلى بيت إيل أول مرة عندما ترك خيام أبيه تائها وحيدا وهاربا لحياته ، وكيف ظهر له الله في رؤيا الليل ، وعندما راجع معاملات الله العجيبة له لان قلبه ، وتأثر بنوه بقوة علوية قاهرة . لقد لجأ إلى أفعل وسيلة ليعدهم للاشتراك معه في عبادة الله حين يصلون إلى بيت إيل ، ( فأعطوا يعقوب كلّ الآلهة الغريبة الّتي في أيديهم والأقراط الّتي في آذانهم ، فطمرها يعقوب تحت البطمة الّتي عند شكيم ) .AA 175.3
وأوقع الله خوفا على سكان الأرض بحيث لم يحاولوا الانتقام للمذبحة التي حدثت في شكيم ، ووصل أولئك المسافرون إلى بيت إيل دون أن يزعجهم أحد ، وهناك ظهر الرب ثانية ليعقوب وجدد له عهد الموعد ، ( فنصب يعقوب عمودا في المكان الّذي فيه تكلّم معه ، عمودا من حجرٍ ) .AA 175.4
وفي بيت إيل ناح يعقوب على واحدة كانت عضوا مكرما في عائلة أبيه أمدا طويلا - وهي دبورة مرضعة رفقة التي رافقت سيدتها من عبر النهر إلى أرض كنعان ، فقد كان وجود هذه المرأة العجوز رباطا ثمينا ربطه بحياة الصبا وعلى الخصوص ربطه بتلك الأم التي كانت محبتها له قوية ورقيقة جدا ، وقد دفنت دبورة بين الآهات والدموع والحزن والأنين حتى لقد سميت البطمة التي دفنت تحتها ( بلوطة البكاء ) ويجب أن نلاحظ أن ذكرى حياة الخدمة الأمينة التي قضتها هذه المرأة ، صديقة هذه العائلة والنوح عليها استحقا أن يحفظا في كلمة الله .AA 176.1
كانت المسافة بين بيت إيل وحبرون تستغرق سفر يومين فقط ، ولكن قلب يعقوب أثقله حزن عميق إذ ماتت راحيل ، لقد خدم خاله فترتين كل منهما سبع سنين ليظفر بها ، وقد خففت محبته لها ما قاساه من عناء . أما كم كانت تلك المحبة قوية وثابتة فقد ظهر بعد سنين طويلة إذ كان يعقوب مضطجعا على سريره مشرفا على الموت في مصر فأتى ابنه يوسف لزيارته ، فإذ ألقى نظرة على ماضي حياته قال ذلك الشيخ المسن : ( وأنا حين جئت من فدّان ماتت عندي راحيل في أرض كنعان في الطّريق ، إذ بقيت مسافة من الأرض حتّى آتي إلى أفراتة ، فدفنتها هناك في طريق أفراتة ، الّتي هي بيت لحمٍ ) (تكوين 48 : 7) ففي تاريخ العائلة طيلة حياته الطويلة المضطربة لم يذكر غير موت راحيل .AA 176.2
إن راحيل قبيل موتها أنجبت ليعقوب ابنا ثانيا ، وفيما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة سمّت الطفل الوليد ( بن أوني ) أي ابن حزني ، أما أبوه فقد سماه بنيامين أي ابن يميني أو قوتي ، وقد دفنت راحيل حيث ماتت ، وأقيم عمود فوق قبرها لتخليد ذكراها .AA 176.3
وفي الطريق إلى أفراتة تلطخت عائلة يعقوب بجريمة أخرى بشعة ، كانت السبب في حرمان رأوبين الابن البكر من امتيازات البكورية وأمجادها .AA 176.4
أخيرا وصل يعقوب إلى نهاية رحلاته ، ( وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا ، قرية أربع ، الّتي هي حبرون ، حيث تغرّب إبراهيم وإسحاق ) (تكوين 35 : 27) وقد ظل هناك طيلة السنوات الأخيرة من حياة أبيه . وفي نظر إسحاق الذي كان ضعيفا وأعمى كانت الرعاية التي لقيها من هذا الابن الذي طال اغترابه مصدر عزاء له مدى سني الوحدة والحرمان .AA 176.5
التقى يعقوب أخاه عيسو أمام سرير أبيه عند موته ، إن عيسو الابن الأكبر كان ينظر إلى الأمام إلى هذه الحادثة كفرصة للانتقام ، أما الآن فقد تغيرت مشاعره تغيرا عظيما ، وأما يعقوب الذي قنع بالبركات الروحية للبكورية فقد تنازل لأخيه الأكبر عن ميراث أبيهما وثروته ، وهذا كان كل الميراث الذي كان عيسو يشتهيه ويقدره ، وقد زال من قلبيهما كل نفور وحسد وعداء ، ومع ذلك فقد انفصل أحدهما عن الآخر ، وانتقل عيسو إلى جبل سعير . والله الذي هو غني في البركات منح يعقوب ثروة زمنية فضلا عن الخير الأعظم الذي طلبه ، ( أنّ أملاكهما كانت كثيرة على السّكنى معا ، ولم تستطع أرض غربتهما أن تحملهما من أجل مواشيهما ) (تكوين 37 : 7) وكان هذا الانفصال متفقا مع قصد الله حيال يعقوب ، وحيث أن كلا من ذينك الإخوين كان يخالف الآخر في معتقده الديني فكان خيرا لهما أن يعيشا منفصلين .AA 177.1
لقد تلقى كل من يعقوب وعيسو معرفة الله بكيفية متشابهة ، وكان كل منهما حرا في أن يسير في طريق وصايا الرب ويظفر برضاه ، ومنهما لم يختارا كلاهما نفس هذا الطريق ، إذ سارا في طريقين مختلفين ، وزادت شقة البعد بينهما شيئا فشيئا .AA 177.2
لم يكن الله متعسفا حين حرم عيسو من بركات الخلاص ، إن عطايا نعمته بالمسيح مباحة للجميع ، فليس هنالك اختيار غير ما يختار الإنسان لنفسه ، الذي قد يكون مدعاة لهلاكه ، لقد أوضح الله في كلمته الشروط التي بموجبها يمكن أن تختار كل نفس للحياة الأبدية - وهي الطاعة لوصاياه بالإيمان بالمسيح . اختار الله شخصية متفقة مع شريعته ، وكل من يتمم مطاليبه يقدم له دخول إلى ملكوت المجد ، ولقد قال المسيح نفسه : ( الّذي يؤمن بالابن له حياة أبديّة ، والّذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة ) (يوحنا 3 : 36) ( ليس كلّ من يقول لي : يا رب ، يا رب ! يدخل ملكوت السّماوات . بل الّذي يفعل إرادة أبي الّذي في السّماوات ) (متى 7 : 21) وفي سفر الرؤيا جاء قوله ( طوبى للّذين يصنعون وصاياه لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة ، ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة ) (رؤيا 22 : 14) وفيما يتعلق بخلاص الإنسان النهائي فهذا هو الاختبار الوحيد الموضح لنا في كلمة الله .AA 177.3
كل من يتمم خلاصه بخوف ورعدة لا بد من أن يختار ، والذي يلبس سلاح الله الكامل ويجاهد جهاد الإيمان الحسن يختار ، كذلك يختار من يصحو للصلاة ويفتش الكتب ويهرب من التجربة ، وكذلك يختار كل من يظل مؤمنا ومطيعا لكل كلمة تخرج من فم الله ، إن بركات الفداء مباحة للجميع ، وسيتمتع بثمار هذا الفداء كل من يتممون الشروط .AA 178.1
لقد احتقر عيسو بركات العهد ، وإذ فضل الخير الزمني على الخير الروحي حصل على ما اشتهاه ، وباختياره المتعمد هذا انفصل عن شعب الله . أما يعقوب فاختار ميراث الإيمان ، نعم إنه حاول الحصول عليه بالمكر والغدر والكذب ولكن الله سمح لخطيته أن تعمل على تقويمه ، ولكن يعقوب في كل اختباره المرير في سنيه الأخيرة لم يحد عن غرضه ، ولا نبذ اختياره . لقد تعلم أنه بالتجائه إلى المهارة البشرية والمكر للحصول على البركة كان يحارب الله ، فمنذ تلك الليلة التي قضاها مصارعا بجوار يبوق خرج من المعمعة رجلا آخر ، لقد انتزعت من قلبه كل ثقة بالنفس ، ومنذ ذلك الوقت لم يبق أثر لمكره الماضي وبدلا من المكر والخداع اتسعت حياته بالبساطة والصدق ، وتعلم درس الاعتماد البسيط على ذراع القدير . وفي وسط التجارب والضيقات انحنى أمام إرادة الله في تذلل وخضوع . إن العناصر المنحطة والزغل الذي كان يشاهد في أخلاقه احترق في آتون النار ، أما الذهب الحقيقي فقد تنقى ، حتى أن إيمان إبراهيم وإسحاق قد رؤي في بريقه في يعقوب .AA 178.2
إن خطية يعقوب وما جرته من حوادث كان لها أثر شرير - أثر نضجت ثماره المريرة في أخلاق أولاده وحياتهم ، فإذ بلغ أولئك الأولاد دور الرجولة نمت في حياتهم أخطاء خطيرة ، ففي العائلة ظهرت مساوئ تعدد الزوجات جلية ، هذا الشر الرهيب يعمل على تجفيف منابع المحبة ، وتأثيره يضعف أقوى الربط المقدسة . وإن غيرة الأمهات الكثيرات مررت العلائق العائلية ، وشب الأولاد - على المنازعات والتبرم بكل سلطان يفرض عليهم ، وأظلمت حياة أبيهم لسبب القلق والحزن .AA 178.3
ومع ذلك فقد كان أحد أولئك الأبناء يختلف اختلافا بينا في أخلاقه عن باقي إخوته ، وهو ابن راحيل الأكبر - يوسف الذي بدا أن جماله الطبيعي كان انعكاسا للجمال الداخلي المنبعث من عقله وقلبه . فإذ كان ذلك الصبي طاهرا ونشيطا وفرحا برهن على غيرته الأدبية وثباته ، لقد أصغي إلى تعاليم أبيه وأحب الطاعة لله . وإن الصفات التي اشتهر بها في مصر بعد ذلك - كاللطف والإخلاص والصدق - كانت قد ظهرت من قبل في حياته اليومية ، فإذ كانت أمه قد ماتت تعلقت كل عواطفه بأبيه ، كما ارتبط قلب أبيه بهذا الصبي ، ابن شيخوخته . فأحبه ( أكثر من سائر بنيه ) (أنظر تكوين 37) .AA 178.4
لكن حتى هذه المحبة كانت ستصير علة للمتاعب والأحزان . إن يعقوب لم يتصرف بحكمة في تفضيله ليوسف ، لأن هذا أثار حسد باقي بنيه ، فإذ كان يوسف يعاين تصرفات إخوته الشريرة انزعج جدا ، وتجرأ على الاعتراض عليهم بلطف ، ولكن هذا لم يزدهم إلا بغضا له وسخطا عليه . إنه لم يحتمل أن يراهم يخطئون إلى الله ، فبسط أمرهم أمام أبيه على أمل أن سلطته كأب تقودهم إلى الإصلاح .AA 179.1
تجنب يعقوب ، بكل حرص ، إثارة غضبهم ، فلم يلجأ إلى الخشونة أو القسوة ، بل بتأثر عميق عبر الأب لأولاده عن جزعه عليهم ، وتوسل إليهم أن يوقروا شيبته ولا يجلبوا على اسمه العار ، وفوق الكل طلب منهم ألا يهينوا الله باستخفافهم بوصاياه . فإذ أحس أولئك الشبان بالخجل لأن أمرهم قد انكشف بدا كأنهم قد تابوا ، ولكنهم كانوا يخفون مشاعرهم الحقيقية التي زاد في مرارتها ذلك التشهير بهم .AA 179.2
إن تلك الهدية التي قدمها يعقوب لابنه والتي هى قميص غالي الثمن مما كان يلبسه ذوو الرفعة والوجاهة ، مما برهن على أنه كانت تعوزه الفطنة . هذه الهدية نظر إليها الأولاد على أنها دليل على محاباة أبيهم ليوسف ، وأثار ذلك في نفوسهم التوجس لئلا يكون قصد أبيهم أن يتخطاهم جميعا ويمنح البكورية لابن راحيل ، وزاد من حقدهم أن ذلك الصبي أتاهم يوما يقص عليهم حلما ، قال : ( ها نحن حازمون حزما في الحقل ، وإذا حزمتي قامت وانتصبت ، فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي ) .AA 179.3
فصاح إخوته في حسد وغضب ، ( ألعلّك تملك علينا ملكا أم تتسلّط علينا تسلّطا؟(.AA 179.4
بعد ذلك بقليل حلم حلما آخر شبيها بالأول في دلالته ، وقصه عليهم قائلا : ( إنّي قد حلمت حلما أيضا ، وإذا الشّمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي ) وفسر الإخوة هذا الحلم بسرعة وسهولة كالحلم الأول ، وإذ كان أبوه حاضرا وسامعا وبخه قائلا : ( ما هذا الحلم الّذي حلمت ؟ هل نأتي أنا وأمّك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض ؟ ) ولكن مع القسوة التي ظهرت في كلام يعقوب فقد كان يؤمن أن الرب قد كشف ليوسف عن المستقبل .AA 179.5
إذ وقف ذلك الصبي أمام إخوته وقد أضاء وجهه الجميل بروح الإلهام لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من الإعجاب به ، ومع ذلك فلم يريدوا أن يتركوا طرقهم الشريرة ، بل كانوا يبغضون حياة النقاوة التي كان يحياها يوسف لأنها كانت توبيخا لخطاياهم . إن نفس الروح التي سيطرت على قايين ألهبت قلوبهم .AA 180.1
كان إخوته مضطرين للانتقال من مكان إلى آخر بحثا عن مرعى لقطعانهم ، وكثيرا ما كانوا يغيبون عن البيت شهورا عديدة ، وبعد الحوادث التي ذكرناها آنفا ذهبوا إلى المكان الذي كان أبوهم قد اشتراه في شكيم ، ومر بعض الوقت ولم تأت منهم أخبار ، فبدا أبوهم يخشى على سلامتهم بسبب القسوة التي بدت منهم نحو أهل شكيم ، ولذلك أرسل إليهم يوسف ليفتقد سلامتهم ويرد له خبرا ، ولو كان يعقوب عليما بالشعور الحقيقي الذي يكنه أولاده ليوسف لما ائتمنهم عليه ، ولكنهم كانوا بكل حرص قد أخفوا حقيقة شعورهم .AA 180.2
افترق يوسف عن أبيه بقلب فرحان ، ولم يكن ذلك الأب الشيخ ولا ابنه الشاب يحلمان بما ستتمخض عنه الأيام من أحداث قبلما يجتمع شملهما ثانية . فبعد ما وصل يوسف إلى شكيم وحيدا بعد سفرة طويلة لم يجد إخوته ولا أغنامهم ، فلما سأل عنهم قيل له إنهم في دوثان ، كان قد سار على قدميه مسافة تجاوزت الخمسين ميلا ، وكان باقيا عليه مسافة أخرى تبلغ الخمسة عشر ميلا ، ولكنه أسرع في سيره ولم يفكر في تعبه ، لأنه كان يريد أن يخفف من جزع أبيه ، كما كان يتوق إلى لقاء إخوته الذين كان يحبهم رغم قسوتهم عليه .AA 180.3
رآه إخوته قادما نحوهم ، ولكن لا تفكيرهم في سفره الطويل الذي قام به لكي يفتقدهم ويطمئن على سلامتهم ، ولا تعبه أو جوعه ، ولا ما يتطلبه ذلك من كرم ومحبة أخوية من جانبهم حياله - لا شيء من كل ذلك أمكن أن يخفف من مرارة بغضتهم له ، ولكن منظر ذلك القميص الذي كان يرمز إلى محبة أبيه له أصابهم بالجنون فصاحوا يقولون في سخرية : ( هوذا هذا صاحب الأحلام قادم ) . فالحسد وحب الانتقام اللذان أضمروهما له طويلا تحكما فيهم الآن ، فقالوا : ( فالآن هلمّ نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول : وحش رديء أكله . فنرى ماذا تكون أحلامه ) .AA 180.4
لولا رأوبين لكانوا قد نفذوا مقصدهم ، فلقد أجفل من الاشتراك معهم في قتل أخيه ، واقترح عليهم أن يطرحوه حيا في بئر ويتركوه هناك ليموت ، وكان في دخيلته ينوي أن ينقذه ويعيده إلى أبيه ، فبعدما أقنعهم رأوبين جميعا بقبول اقتراحه تركهم خشية أن تنغلب عليه عواطفه وتكشف لهم نواياه عن حقيقته .AA 181.1
أما يوسف فقد أقبل عليهم غير مرتاب بوجود أي خطر ، بل كان فرحا لأن غايته من بحثه الطويل عنهم قد تحققت ، ولكن بدلا من التحيات التي كان ينتظرها منهم روّعته نظراتهم الغاضبة ، نظرات الوعيد والتهديد ، فأمسكوه وجردوه من قميصه ، وقد نم تعييرهم وتهديدهم له عن نية الغدر به ، ولم يعبأوا بتوسلاته ، لقد صار الآن تحت رحمة أولئك الذين كانوا يبغضونه إلى حد الجنون ، فبكل وحشية سحبوه إلى جب عميق وألقوا به فيه ، وإذ تأكد لديهم استحالة هروبه تركوه ليهلك جوعا ، ( ثمّ جلسوا ليأكلوا طعاما ) .AA 181.2
لكن بعضا منهم كانوا غير مستريحين إذ لم يكونوا يشعرون بنشوة الفرح والرضى التي كانوا يتوقعونها من ذلك الانتقام ، وبعد ذاك بقليل كانت تقترب منهم قافلة إسماعيليين قادمة من عبر الأردن في طريقهم إلى مصر ، وهم حاملون عطورا وتجارات أخرى ، وإذا بيهوذا يقترح على إخوته أن يبيعوا أخاهم إلى هؤلاء التجار الوثنيين بدلا من تركهم إياه ليموت ، فبينما يزيحونه فعلا من طريقهم يظلون أبرياء من دمه ، وقال يلح عليهم : ( لأنّه أخونا ولحمنا ) فوافقوا جميعا على هذا الاقتراح ، وبادروا إلى يوسف فسحبوه من الجب .AA 181.3
فلما أبصر التجار برقت في ذهنه تلك الحقيقة المرعبة ، إن صيرورة المرء عبدا كان مصيرا أمر من الموت . وفي عذابه ورعبه جعل يتوسل إلى إخوته الواحد بعد الآخر ، ولكن بلا جدوى ، وقد ثارت عواطف بعضهم بالشفقة عليه ، إلا أنهم لخوفهم من سخرية الباقين بهم ظلوا صامتين ، وأحسوا جميعا أنهم كانوا قد أمعنوا في عدوانهم بحيث لا يمكنهم التراجع ، فلو أنهم أبقوا على يوسف فلا بد من أن يخبر أباه بكل شيء ، وأبوهم لا يمكنه أن يتغاضى عن قسوتهم على ابنه الحبيب ، فإذ قسوا عليه وصموا آذانهم عن سماع توسلاته أسلموه إلى أيدي أولئك التجار الوثنيين ، وبعد ذلك سارت القافلة في طريقها حتى غابت عن الأنظار .AA 181.4
عاد رأوبين إلى الجب فلم يجد يوسف هناك ، ففي رعبه ولومه لنفسه مزق ثيابه ، وأتي إلى إخوته وهو يصرخ قائلا : ( الولد ليس موجودا ) فإذ علم رأوبين بمصير يوسف وأنه لا يمكنه استرجاعه مال إلى الاشتراك مع باقي إخوته في محاولة ستر جريمتهم ، فبعدما ذبحوا تيسا من المعزى غمسوا قميص يوسف في دمه وأحضروه إلى أبيهم قائلين إنهم وجدوه ملقى في أحد الحقول ، وأنهم يخشون لئلا يكون هو قميص أخيهم وقالوا : ( حقّق أقميص ابنك هو أم لا ؟ ) لقد كانوا يتوقعون رؤية هذا المنظر برعب ، ولكنهم لم يكونوا متأهبين لرؤية ذلك الغم والعذاب الذي يمزق القلب ، وذلك الاستسلام الكلي للحزن الذي كانوا مضطرين لمشاهدته . قال يعقوب : ( قميص ابني ! وحش رديء أكله ، افترس يوسف افتراسا ) . فحاول بنوه وبناته باطلا أن يعزوه ، بل ( مزّق ... ثيابه ، ووضع مسحا على حقويه ، وناح على ابنه أيّاما كثيرة ) واتضح أن مرور الزمن لم يخفف من لوعته وحزنه ، فقد قال : ( إنّي أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية ) تلك كانت صرخة اليأس التي صعدت من أعماقه ، فإذ كان أولئك الشبان مرتعبين مما قد فعلوا ، وخائفين في الوقت نفسه من لوم أبيهم أخفوا في قلوبهم حقيقة جريمتهم التي كانت عظيمة وهائلة جدا حتى في نظرهم .AA 182.1
* * * * *