”متى يكون هذا“
وجواباً على هذا الكلام نطق يسوع بهذا القول المفزع الخطير قائ لاً: ”الحق اقول لكم لا يترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض“ ( متى ٢٤ : ٢).GC 29.3
خلط التلاميذ بين خراب اورشليم وحوادث مجيء المسيح الشخصي في مجد عالمي ليجلس على عرش امبراطورية العالم كله، ويعاقب اليهود غير التائبين، ويخلع عن اعناق الامة نير الرومان . كان الرب قد اخبرهم انه سيأتي ثانية، فلما ذكر احكامه التي سيوقعها على اورشليم اتجهت افكارهم الى ذلك المجيء . فاذ التفوا حول المخلص فوق جبل الزيتون سألوه قائلين: ”قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر“ ( متى ٢٤ : ٣). GC 30.1
لقد أُخفي المستقبل عن التلاميذ رحمة بهم . فلو ادركوا ادراكاً شاملاً في ذلك ا لحين تينك الحقيقيتين المخيفتين — أي آلام الفادي وموته، وخراب اورشليم وهيكلهم — لكان قد غمرهم رعب عظيم . لقد استعرض المسيح امامهم ملخصاً للاحداث العظيمة التي ستقع قبل انقضاد الدهر . ولم يفهموا كلامه فهماً كاملاً حينذاك، لكنّ معناه كان سيتضح اذ كان يجب ان يفهم شعب الرب التعليم والتوجيه المتضمَّنَين في كلام المسيح لشدة حاجتهم اليه . وكانت النبوة التي نطق بها يسوع ذات معنى مزدوج، ففي حين كانت ترمز الى خراب اورشليم كانت ايضاً رمزاً لاهوال اليوم الاخير العظيم.GC 30.2
اعلن يسوع تلاميذه المصغين الى حديثه الاحك ام والضربات الموشكة أن تنصب على شعب اسرائيل المرتدين، وعلى الخصوص الانتقام الجزائي الذي سيحيق بهم بسبب رفضهم مسيّا وصلبهم اياه .وستسبق ذلك العمل المخيف والعظيم الأهمية علامات لا تخطئ . وقد تجيء الساعة الرهيبة فجأة وبسرعة عظيمة. وحذر المخلص تابعيه قائلا: ”فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس، ليفهم القارئ، فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية الى الجبال“ (متى ٢٤ : ١٥ و ١٦ ؛ لوقا ٢١ : ٢٠ و ٢١ ). فعندما تُنصَب اعلام الرومان الوثنيين في الارض المقدسة التي كانت تمتد بضعة اميال خارج اسوار المدينة حينئذ كان على اتباع المسيح ان يهربوا لينجوا بانفسهم . ومتى شوهدت علامة الانذار كان يتحتم على طالبي النجاة الا يتأخروا او يتلكأوا في الهروب. وفي كل بلاد اليهودية كما في اورشليم نفسها كان يتعيّن اطاعة انذار الهروب في الحال . فَمن يتفق وجودُه على الس طح وجب الاينزل ليأخذ من بيته شيئاً ولو كان كنزاً مشتهى غالي الثمن . والذين يعملون في الحقول أو الكروم لا يرجعون لاستعادة ثيابهم التي تركوها في بيوتهم ريثما ينتهون من عملهم في الحقول في حر النهار . يجب الا يترددوا أو يتباطأوا لحظة واحدة لئلا يحيق بهم الهلاك الشامل.GC 30.3
في اثناء ملك هيرودس لم تكن اورشليم مزينة جداً فقط، بل بنيت فيها الابراج والاسوار والحصون التي زادت موقعها مناعة فبدت قوية ومنيعة لا تقهر . ومَن كان ينبئ بخرابها في ذلك الحين كان يُعتبر، كما قد اعتبر نوح من قبل، رجلا مجنوناً مثيراً للفت ن ومختبل العقل . لكنّ المسيح قال: ”السماء والارض تزولان ولكن كلامي لا يزول“ (متى ٢٤ : ٣٥). فلاجل خطايا اورشليم الكثيرة أرسلت اليها نُذر الغضب، وبسبب اصرارها على عدم الإىمان خُتم على هلاكها فصار امراً محتوماً لا مفر منه.GC 31.1
لقد اعلن الرب على لسان ميخا النبي قائلاً: ”اسمعوا هذا يا رؤساء بيت يعقوب وقضاة بيت اسرائيل الذين يكرهون الحق ويعوِّجون كل مستقيم . الذين يبنون صهيون بالدماء وأورشليم بالظلم . رؤساؤها يقضون بالرشوة وكهنتها يعلِّمون بالاجرة وانبياؤها يعرفون بالفضة وهم يتوكلون على الرب قائلين اليس الرب في وسطنا لا يأتي علينا شر“ (ميخا ٣ : ٩ — ١١).GC 31.2
هذا الكلام يصف بكل أمانة ودقة سكان اورشليم الفاسدين والابرار في اعين انفسهم . ففي حين كانوا يدَّعون انهم يحفظون وصايا الله وشريعته بكل تدقيق وصرامة كانوا في الحقيقة يتعدون كل مبادئه ا. لقد ابغضوا المسيح لان طهارته وقداسته كشفتا عن اثمهم، واتهموه بانه هو السبب في كل المتاعب والمصائب التي حاقت بهم جزاء لهم على خطاياهم . فمع علمهم واقتناعهم بانه منزه عن الخطيئة اعلنوا ان موته كان امراً لازماً لضمان سلامة الامة . فقد قال رؤساء اليهود: ”ان تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وامتنا“ (يوحنا ١١ : ٤٨). فلو ضُحي بالمسيح لأمكن ان يصبحوا امة قوية متحدة من جديد . وأخذوا يتحاجون ثم اجمعوا على العمل بقرار رئيس كهنتهم انه خير لهم ان يموت انسان واحد عن الشعب ولا تهلك الامة كلها.GC 31.3
وهكذا نجد ان رؤساء اسرائيل ” يبنون صهيون بالدماء واورشليم بالظلم “ (ميخا ٣ : ١٠). ومع ذلك ففي حين قتلوا مخلصهم لانه وبخ خطاياهم فقد جعلهم برهم الذاتي يعتبرون انفسهم شعب الله المختار المنعم عليه وانتظروا انه سينقذهم من اعدائهم . وهنا يستطرد النبي فيقول: ”لذلك بسببكم تفلح صهيون كحقل وتصير اورشليم خربا وجبل البيت شوامخ وعر“ (ميخا ٣ : ١٢).GC 32.1