الكاتدرائية تغص بالجماهير
كان اهتمام الشعب بسماع زوينجلي عظيما بحيث ضاقت الكاتدرائية على سعتها بجماهير الناس الذين أتوا ليسمعوه . وقد كشف لسامعيه عن الحق قليلا قليلا على قدر ما كانوا يحتملون . اذ حرص على ألا يقدم اليهم منذ البدء الامور المفزعة لهم و التي تخلق التعصب . فقد كان عمله ان يربح قلوبهم لتعاليم المسيح حتى تلين بمحبته، واضعا أمامهم مثال السيد؛ واذ يقبلون مبادئ الانجيل تزول وتتلاشى كل معتقداتهم واعمالهم الخرافية.GC 197.2
تقدم الاصلاح في زيوريخ خطوة فخطوة، ولذلك فزع الاعداء ونهضوا يقاومونه. قبل ذلك بعام واحد رفض راهب وتنبرج أوامر البابا والامبراطور في مدينة ورمس، والآن ها كل شيء في زيوريخ يدل على ثبات مماثل ضد مطالب الباب ا. وقد هوجم زوينجلي مرار ا. وفي المقاطعات البابوية كان يؤتى من حين الى آخر بتلاميذ الانجيل الى آلات الاعدام، لكنّ هذا لم يكن كافيا بل كان ينبغي اسكات صوت معلم الهرطقة . ولذلك ارسل اسقف كونستانس ثلاثة نواب الى مجلس زيوريخ، وهؤلاء اشتكوا على زوينجلي بانه يشجع على تعدي اوامر الكنيسة، وهذا يعرض سلام المجمع ونظامه للخطر. وقال الاسقف في بيانه: لو ألغ ي سلطان الكنيسة فلا بد ان تعم الفوضى. وقد أجاب زوينجلي قائلا انه منذ أربع سنين يعلم بالانجيل في زيوريخ، هذه المدينة ”التي هي في أكمل هدوء وسلام بين كل مدن الاتحاد“. ثم قال: ”أفليست المسيحية اذاً هي أعظم حارس للامن العام؟“ (١٣١).GC 198.1
أوصى المبعو ثون أعضاء المجلس بان يظلوا في داخل الكنيسة التي لا خلاص لمن هو خارج عنها كما زعمو ا. فأجاب زوينجلي المجلس قائلا: ”لا تجعلوا هذه التهمة تثيركم . ان أساس الكنيسة هو الصخرة نفسها والمسيح نفسه الذي أعطى سمعان اسم بطرس لانه قد اعترف به بكل أمانة . ففي كل أمة كل من يؤمن من كل قلبه بالرب يسوع مقبول لدى الله . هنا حقا توجد الكنيسة، وخارجا عنها لا خلاص لاي انسان“ (١٣٢). وكان من نتائج ذلك المؤتمر ان أحد مبعوثي الاسقف قبل الايمان المصلح.GC 198.2
رفض المجلس اتخاذ أي اجراء ضد زوينجلي، فتأهبت روما للقيام بهجوم جديد. فاذ أبلغ الم صلح بالمؤامرات التي يدبرها له اعداؤه صاح قائلا: ”ليأتوا، فأنا لا أخافهم أكثر مما تخاف الصخرة القوية أمواج البحر التي تهدر تحتها“ (١٣٣). وقد نتج من مساعي الاكليروس تقدم الدعوة التي حاولوا القضاء عليها، وظل الحق ينتشر . وفي المانيا تشجع من جديد م عتنقو مبادئ الاصلاح، الذين كانت عزائمهم خائرة بسبب اختفاء لوثر، عندما رأوا تقدم الانجيل في سويسرا.GC 198.3
وعندما توطد الاصلاح في زيوريخ ظهرت ثماره في وفرتها وكمالها في قمع الرذيلة وازدهار النظام والانسجام . وقد كتب زوينجلي يقول: ”لقد س كن السلام والانسجام مدينتن ا. فلا توجد بيننا مشاجرات ولا رياء ولا حسد ولا منازعات . فمن أين يمكن أن يجيء مثل هذا الاتحاد والوفاق ان لم يكن من الرب ومن تعاليمه التي تملأنا من ثمار السلام والتقوى“ (١٣٤).GC 199.1
أثارت انتصارات الاصلاح حفيظة البابويين فبذلوا أقصى جهودهم الجبارة للقضاء عليه . فاذ رأوا أنهم لم يحققوا نصرا كبيرا بمحاولتهم قمع عمل لوثر في المانيا بواسطة الاضطهاد، عقدوا العزم على محاربة الاصلاح باسلحته . فأرادوا مناظرة مع زوينجلي، وبعدما رتبوا كل شيء أرادوا أن يستوثقوا من الانت صار بان يختاروا هم ليس فقط مكان المناظرة بل ايضا القضاء الذين سيحكمون فيها بين المتبارين. فلو استطاعوا أن يوقعوا زوينجلي في قبضة أيديهم فسيحرصون على ألا يفلت منهم . ومتى أبكم الزعيم فستسحق الحركة سريع ا. وقد حرصوا على اخفاء هذا السر وهذه النوايا.GC 199.2
اتفقوا عل ى اقامة المباراة في بادن، لكنّ زوينجلي لم يكن حاضر ا. ذلك ان اعضاء مجلس زيوريخ كانوا يشكون في نوايا البابويين، وكانت المحرقات في المقاطعات البابوية معدة للمعترفين بالانجيل انذارا لهم، فنهوا راعيهم عن تعريض نفسه لهذا الخطر . وكان زوينجلي مستعدا لمقابلة كل من قد ترسلهم روما الى زيوريخ. أما ذهابه الى بادن التي قد سفك فيها دم شهداء الحق منذ عهد قريب فكان ذهابا لملاقاة الموت المحقق . وقد اختير كل من أيكولامباديوس وهالرِّ لتمثيل المصلحين، أما الدكتور إك المشهور يسانده جماعة الدكاترة العلماء فكان بطل روما.GC 199.3
ومع أن زو ينجلي لم يكن حاضرا ذلك المؤتمر فقد كان المؤتمرون يحسون بحضوره. وقدا ختار البابويون جميع امناء السر، وحرم على الآخرين اخذ مذكرات تحت طائلة الموت . ولكن على رغم كل هذا فقد كان يصل الى زوينجلي بيان دقيق في كل يوم عن كل ما قيل في بادن . ذلك أن طالبا كان حاضرا تلك المناظرة كان في كل مساء يكتب بيانا عن كل الحجج التي قيلت في ذلك اليوم، كما أخذ طالبان آخران على نفسيهما أمر تسليم هذه الاوراق مع الخطاب الذي كان يرسله ايكولامباديوس يوميا الى زوينجلي في زيوريخ . وكان المصلح يرسل الرد مقدما مشورته ومقترحاته . وكانت خطاباته تكتب ليلا وكان الطالبان يعودان بها الى بادن في الصباح التالي . ولكي يتملصا من الحارس اليقظ الواقف على باب المدينة كان هذان الرسولان يحضران له بعض الدجاج فكان يسمح بدخولهما بلا عائق.GC 200.1
وهكذا دخل زوينجلي المعركة ضد خصومه المحتالين . وقال عنه مايكونيوس: ”انه تعب أكثر بتأملاته وتفكيره خلال ليالي الارق وبنصائحه التي كان يبعث بها الى بادن أكثر مما لو كان قد ذهب بنفسه للاشتراك في ذلك الجدال وهو محاط بالاعداء“ (١٣٥).GC 200.2
أما البابويون فاذ تحمسوا في انتظار الانتصار الذي كانوا يحلمون به فقد أتوا الى بادن متسربلين بابهى ا لحلل، وكانت الجواهر تلمع في أيديهم وعلى صدورهم. وكانوا ينفقون المال ببذخ، وحفلت موائدهم بأشهى الاطعمة وأجود أنواع الخمور . وقد خفف الانشراحُ والمرحُ عبءَ واجباتهم الكهنوتية . أما المصلحون فكانوا يختلفون عنهم اختلافا ملحوظا، اذ كان الناس ينظرون اليهم كما لو ك انوا أحسن قليلا من المتسولين الذين جعلهم اقتصادهم في الاكل يجلسون الى المائدة وقتا قصير ا. واذ كان صاحب البيت الذي يسكنه ايكولامباديوس يراقبه بعض الوقت في غرفته كان يجده دائما مشغولا إما في الدرس أو الصلاة . أدهشه ذلك فقال لمن حوله: ”ان هذا الهرطوقي على الاقل تقي جدا“.GC 200.3
وفي المؤتمر اعتلى إك بكل غطرسة منصة مزينة بزينة فاخرة، بينما أيكولامباديوس المتواضع الذي كان يرتدي ثيابا زرية حقيرة أرغم بكل احتقار على الجلوس فوق مقعد خشبي حقير (١٣٦). ولم يخذل إك صوتهُ العالي ولا ثقته بنفسه التي لا حد له ا. وزادت غيرته وحم استه من أمله في الحصول على الذهب والشهرة لان المدافع عن العقيدة والايمان كان سيكافأ بأجر كبير . فلما فشلت حجته المعقولة لجأ الى الشتائم والاقسام.GC 201.1
أما أيكولامباديوس الذي كان محتشما غير واثق بنفسه انكمش أمام تلك المبارزة. ولكنه دخلها بناء على هذا الاعتراف المق دس: ”أنا لا أعترف باي مقياس آخر للحكم غير كلمة الله“ (١٣٧). ومع رقته ولطفه في تصرفاته فقد برهن على مقدرته وعدم خوفه أو تراجعه . ففي حين أن البابويين استندوا الى سلطة عادات الكنيسة كما هي عادتهم فان المصلح تمسك بكل ثبات بالكتب المقدسة. وقد قال: ”ان الع رف لا قوة له هنا في بلادنا سويسرا ما لم يكن مطابقا للدستور، أما الآن ففيما يختص بالعقيدة فان دستورنا هو الكتاب المقدس“ (١٣٨).GC 201.2
لم يكن التباين بين المتبارين عديم الاثر فان المحاجة الصريحة الهادئة التي قدمها المصلح بكل رقة ووداعة كان لها تأثير على تلك الع قول التي تحولت في اشمئزاز عن ادعاءات إك المتفاخرة القاصفة.GC 201.3
دامت المناظرة ثمانية عشر يوما وفي نهايتها كان البابويون بكل ثقة يدَّعون النصرة لانفسهم . وقد انحاز معظم المبعوثين الى جانب روم ا. فاعلن المجلس هزيمة المصلحين كما صرح انهم، ومعهم زوينجلي قائد هم، قد بتروا من الكنيسة. لكن ثمار المؤتمر اعلنت الى جانب من كانت الميزة، اذ نتج من تلك المباراة قوة دافعة محركة للدعوة البروتستانتية . ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى اعلنت المدينتان الكبيرتان برن وبازل انضمامهما الى الاصلاح.GC 201.4