الكنز الاعظم
واذ كان الولدنسيون يعتبرون ان مخافة الرب هي رأس الحكمة لم يكونوا يجهلون أهمية الاتصال بالعالم ومعر فة الناس والحياة العملية لتوسيع المدارك وتنشيط الاحاسيس . فأرسل بعض الشباب من مدارسهم في الجبال الى معاهد العلم في مدن فرنسا وايطاليا حيث كان المجال اوسع للتفكير والدرس والملاحظة مما كان في وطنهم في جبال الألب . وقد تعرض اولئك الشباب الذين ارسلوا الى تلك الم عاهد للتجارب، اذ شاهدوا الرذيلة واصطدموا باعوان الشيطان الماكرين الذين الحوا عليهم في قبول اخبث الهرطقات وأخطر المخاتلات . الا ان تهذيبهم الذي كانوا قد تلقوه منذ طفولتهم كان حصنا قويا اعَّدهم لمواجهة كل تلك الامور.GC 78.1
وفي المدارس التي ذهبوا اليها لم يستأمنوا احدا على اسرارهم . وقد أعدت ملابسهم بحيث تخفي اعظم كنوزهم : مخطوطات الكتب المقدسة الثمينة. فهذه المخطوطات، التي كانت ثمرة تعب شهور وسنين، حملوها معهم. وكلما سنحت لهم الفرص من دون ان يثيروا شبهة احد كانوا يضعون بكل حرص وحذر اجز اء منها في طريق اولئك الذين كان يبدو لهم ان قلوبهم مفتوحة لقبول الحق . ان هؤلاء الشبان الولدنسيين تربوا منذ نعومة اظفارهم جاعلين هذه الغاية نصب عيونهم . وقد فهموا عملهم وقاموا به بكل امانة، فاهتدى البعض الى الايمان الحقي قي في معاهد العلم هذه، وفي أحيان كثيرة وجد أن مبادئه قد تسربت الى كل المدرسة، ومع ذلك فان الرؤساء البابويين بكل استجواباتهم الملحفة واسئلتهم المحرجة لم يستطيعوا تتبع هذا التعليم، الذي قالوا عنه انه هرطقة، الى منبعه.GC 79.1
ان روح المسيح هي روح تبشيرية، وأول دافع يعتمل في نفس الانسان المتجدد هو أن يأتى بالآخرين الى المخلص . هذه كانت روح هؤلاء الولدنسيين المسيحيين، فلقد احسوا بأن الله يطلب منهم شيئا اكثر من مجرد حفظ الحق في نقاوته في كنائسهم، و ان عليهم مسؤولية مقدسة هي ان يجعلوا نورهم يشرق على من هم في الظلمة، وبقوة كلمة الله العظيمة حاولوا ان يحطموا قيود العبودية التي فرضتها روما على الناس . وقد تربى خَدَمَة الولدنسيين وتدربوا على ان يكونوا مبشرين، اذا كان يُط لب من كل من يدخل الخدمة ان يكون له أول كل شيء اختبار المبشر . وكان على كل منهم أن يخدم مدة ثلاث سنين في مركز تبشيري قبل ان يوكل اليه امر رعاية كنيسة في وطنه . فهذه الخدمة التي كانت تتطلب انكار الذات والتضحية حالما يد خلها الخادم كانت تمهيدا مناسبا لحياة الراعي في تلك الاوقات التي محصت نفوس الناس. والشبان الذين رسموا لهذه الوظيفة المقدسة لم يروا امامهم آمالا مشرقة للثراء والمجد العالمي بل حياة الكد والمشقة والخطر، وربما الاستشهاد. وكان او لئك المبشرون يخرجون اثنين اثنين كما ارسل يسوع تلاميذه. وفي العادة، كان يصحب الشاب رجلٌ مسنٌّ محنَّك، وكان الشاب يسير بموجب ارشادات زميله الذي كان مسؤولا عن تدريبه، كما كان يبالي بتعليماته. ولم يكن هذان الزميلان يسيران متلازمين دائما بل كانا في غالب الاحيان يجتمعان معا للصلاة والتشاور، وهكذا كان الواحد منهما يشدد زميله في الايمان.GC 79.2
بيد انهما لو باحا بغرض رسالتهما لكانت هزيمتهما امرا مؤكدا، ولذلك كانا يحرصان على اخفاء شخصيتهم ا. فقد كان كل خادم يحذق حرفة أو مهنة، وكان اولئك المبشرون يتابعون عملهم تحت ستار الحرفة الزمنية، وكانوا في العادة يختارون ان يكونوا باعة متجولين. ”كانوا يحملون اصناف الحرير والجواهر وغيرها من السلع التي لم يكن من السهل شراؤها في تلك الايام الا في الاسواق البعيدة . وكان الناس يرحبون بهم كتجار في الاماكن التي لو عرف الناس فيها انهم مبشرون لكانوا يطردونهم“ (٧). وكانوا طوال الوقت يرفعون قلوبهم في الصلاة الى الله في طلب الحكمة حتى يوفروا للناس كنزا أثمن من الذهب واللآلئ، وكانوا يحملون معهم في السر نسخاً من الكتاب المقدس بين طيات ثيابهم، سواء أكان الكتاب كاملا أم مجتَزَ أ، وكلما عرضت لهم فرصة كانوا يسترعون انتباه زبائنهم الى هذه المخطوطات . وفي غالب الاحيان كانوا يوقظون في نفوس الناس شوقا وحنينا الى قراءة كلمة الله . فكانوا بكل سرور يودعون بعض تلك النسخ بين ايدي من يرغبون في قبولها.GC 80.1